(ثقافات)
عائـــــــدون، ولكن!
قصَّة قصيرة
الأديب السُّوري موسى رحوم عبَّاس
الأرضُ تبدو أقرب ممَّا هي عليه، والعاصمة هذا الصَّباح تخترقها شوارع طولية وعرضية كخناجر في خاصرة المدينة، تلمعُ نصالُها منعكسةً على زجاج النَّوافذ البيضوية، المُضيفةُ تعلنُ اقترابَ هبوطِ الطَّائرةِ، يدقِّقُ للمرَّة الأخيرة ما سيقولهُ في التَّحقيقِ الأوليِّ عند عبوره صالة القادمين، حفظهُ عن ظهر قلبٍ، لكنْ لا بأسَ من المراجعة مرَّةً أخرى، فلم يَعُدْ يثِقُ بذاكرته، الأسبوع الماضي نسي اسم حفيده، وقبلها دخل بيتًا ليس له ظنًّا مِنْهُ أنَّه شُقَّته لمجرد تشابه الأبواب، صحيح أنَّ صاحبَ الشُّقة عامله باحترامٍ، لكنَّه رأى الشَّفقةَ والأسى في عينيه، عندها اعتذر بشدَّة منه ومن زوجته التي أخفت نصف ابتسامتها، وهو ينسحب بهدوء من بيتهم، يبدو أنَّ الضَّابطَ المُولج بالتحقيقِ صَارِمٌ، ولا يضحكُ للرغيفِ الحار، نبرة صوته تزداد حِدَّة، ونظراتُ مَنْ حولَهُ تخترقُ جسدَ الدكتور مُحسن الخليف النَّحيل:
-
إيْ حكيم! أخبرنا ما الذي جاء بك بعد كلِّ تلك السَّنوات؟
-
وما الغريبُ يا بُنيَّ؟
-
لستُ ابنك، أنا المحقِّق!
-
آسف، عدتُ إلى بلادي.
-
ما سبب العودة؟
-
لا أحتاج لأسبابٍ، وإذا كُنتَ مُصرًّا على ذكر الأسباب؛ فأنا رجعتُ؛ لأموتَ وأدفنَ في تراب أرضي.
-
( دوت ضحكة في أرجاء المكتب) يعني أنَّ بلادنا لا تصلحُ للحياة، بل هي صالحةٌ للموتِ، وحَسْبُ! حسنا سنسمِّيها جمهورية المرحوم محسن الخليف، هل أنت سعيدٌ الآن؟
-
لم أقلْ ذلك، أنتَ مَنْ يقولُ!
كانتِ السَّماءُ تبدو أقربَ إلى رؤوسنا، عندما عبرنا الحدودَ إلى تلك البلاد الباردة، النُّجومُ أكثر سطوعا، والأشجارُ أشدَّ خضرة، لم أكنْ أحملُ ما يثقلُ كاهلي، القليل من كلِّ شيء، كتب، سجائر، صور قديمة، أحلام مستعملة كثيرا، حَنْجَرة لم أستعملها إلا نادرا، وساقين معطوبتين، لذا كنتُ ونحن هاربون على أطراف الغابة، أتمرَّنُ على الغناءِ، صحيح أنَّني كنتُ أنشِّزُ كثيرا، لكنْ لا بأسَ فالغناءُ في الغابة لا يخضعُ للمقامات، وغير قابلٍ للتدوين على سلَّمٍ موسيقيٍّ ما! كانت تلك الفتاة الشَّقراء تعطيني زجاجة ماء بارد بعدما طَفَتِ الملوحةُ على شفتيَّ المتشققتين من الظَّمأ، تسألني:
-
لماذا كلُّ هذا العَناءِ؟
-
أريدُ أن أتنفَّسَ، وحسب!
-
وهل كنتَ تختنقُ هناك؟
-
شيءٌ قريبٌ من هذا، انظري إلى هذا المدى الأخضر، والسَّماء شديدة الزُّرقة، لأولِّ مرة أتعرَّفُ على اللون الحقيقي لهما! وهذه الأجسادُ المتعبةُ تحملُ صُرَّةَ أوجاعِها إليكم، انظري إلى هذا الطِّفلِ هناكَ، يضحكُ لأنَّه لم يتعلَّمِ الحُزنَ بَعْدُ!