(ثقافات)
صدرت عن منشورات المتوسط-إيطاليا، ثلاث روايات للكاتب الإيطالي الكبير ليوناردو شّاشا، وهي الروايات الأولى التي تفتتح فيها منشورات المتوسط سلسلتها الجديدة المسماة “حكايات المافيا“، وهي سلسلة تقوم على ترجمة أعمال روائية وسيرية تناولت ظاهرة المافيا وحاولت فهمها عن قرب، لما لها من أثر كبير في الحياة الاجتماعية، ليس في إيطاليا وحسب، بل في دول كثيرة من العالم مثل الولايات المتحدة والصين واليابان وتركيا وغيرها من الأمم التي تأسّست فيها مافيات على النمط الإيطالي، لكن بأسماء وبُنيات مختلفة.
حين مات ليوناردو شاشّا قال المخرج السينمائي الشهير فرانشيسكو روسي الذي اقتبس من كتاب شاشّا فيلمه “جثث ضخمة”: “بفقدان ليونارد شاشّا نخسر مرجعاً هامّاً للغاية في مواجهة المافيا، وفي الكفاح ضد انتهاكات وفساد السلطة السياسية”.
ناهيك عن كون شاشّا واحد من أهم الكتاب الإيطاليين، لكنه أيضاً قد يكون أجرأ من كتب عن ممارسات المافيا وفضح أساليبها وعرّى متانة وعمق تغلغلها في المجتمع الإيطالي. أبدع شاشّا سرداً خاصاً أصبح مدرسة ليس بعد وفاته وحسب، بل ظهرت وعرفت وهو ما يزال على قيد الحياة ويمكن الاتفاق مع ما قاله الناقد والأكاديمي الإيطالي ألبيرتو أسور روزا عن أن شاشّا شكل مرحلة في تاريخ الأدب الإيطالي، حيث قال: “بعد اختفاء بازوليني وإيطالو كالفينو، فإن رحيل ليونارد شاشّا، يُغلق مرحلة من مراحل الأدب الإيطالي في القرن العشرين”.
ولأن ليوناردو شاشّا من الكتاب القلائل الذين تمكنوا من كتابة الرواية البوليسية في إطار أدب رفيع المستوى. حيث تصبح الرواية الواحدة من رواياته تاريخاً من التأمل لحياة مجتمع كامل، لمأساته وكيف تُرك ليواجه ذاك المصير وحده. لهذا اختارت منشورات المتوسط أن تبدأ سلسلتها “حكايات المافيا” بروايات ثلاث لـ ليوناردو شاشّا.
الروايات:
صدرت هذه الرواية عام 1966، ويمكن عَدُّها النتاج الأكثر اكتمالاً وروعة للدَّمْج البديع بين الرواية البوليسية ورواية الاحتجاج المَدَنيِّ، والذي يميِّز، بشكل أخَّاذ، المراحل الأولى لرواية ليوناردو شاشا. بأسلوب صريحٍ خالٍ من المبالغات الأدبية، يحكي شاشا قصَّة الدم والفساد في بلدة في جزيرة صقلِّيَّة الإيطالية. يُسلِّط الضوء ببطء، ولكنْ، بلا تردُّد، بل بالكثير من الشجاعة، على شبكة من التواطؤ والجُبن والانتهازية تريد الحفاظ على الوضع القائم في صقلِّيَّة، ومن خلال تأمُّل شاشا المؤلم لشرٍّ لا علاج له، تُفاجِئُنا الرواية بالأدلَّة الحاسمة على أن صقلِّيَّة تُرِكَت تماماً لمصيرها مثل فريسة عزلاء إزاء سطوةِ منظَّمةٍ إجراميةٍ، تسعى فقط لإدامة نفسها. لا قانون هناك إلَّا قانون المافيا.
يُقتَل صيدلاني القرية في رحلة صيد، حيث دُبِّرَتْ الجريمة لتظهر كأنها جريمة عاطفية. لكن حقائق يعلمها صديق الصيدلاني الأقرب تدفعه للشكِّ بأمر آخر، فيتولَّى بنفسه مهمَّة التحقيق.
هذه الرواية باختصار مَروِيَّة صِقلِّيَّة الغامضة والقاسية. مأساة محقِّق يَقِظٍ، كلَّما حقَّق في الأمر، شعر بنفسه غارقاً أخلاقياً وحسِّيَّاً في الالتباس والغموض.
من الرواية:
تلك الشّخصيّة، التي استعادت عنها أرملة مانّو ذكريات عن خباثات صغيرة لبنات المدرسة الدّاخليّة، وعن ظلّ راهبة كانت تعشقها. تلك الشّخصيّة كانت جالسةً أمام لاورانا، تحت ضياء خافت يدخل المكان بالكاد عبر الستائر الثقيلة التي أُسدلت كدلالة حِداد. وكانت دلالات الحِداد منتشرة في أرجاء المنزل جميعها، كما غُطّيت المرايا بأقمشة سوداء أو داكنة، وكان أكثر الأمور تعبيراً عن الحِداد تلك صورة فوتوغرافية بالحجم الطّبيعيّ، أعدّها المصوّر الفوتوغرافي في مركز المحافظة، وجلس ليضيف إليها الرتوش بكآبة فظيعة، وبعلائم الحِداد سواء في البدلة التي كان يرتديها المرحوم أو في ربطة عنقه (فالذائقة المجتمعية والجماليّة للمصوّر الفوتوغرافيّ، جعلته يؤمن بأنّه ينبغي على سيماء الموتى جميعهم أن تحمل دلالات عن الموت نفسه حين تُنتج صورهم لغرض الحِداد). كانت تلك الصور تُعبّر جميعها عن حالة من الحزن القاتم، فيما تُفصح الشفتان والنظرة المُتعبة المتوسّلة عن إنهاك متكاسل. كان الضياء الضئيل الذي يُنير الصورة يُظهِر الميت وكأنّه ممثّل كوميدي ثانوي، جُمِّلَ بمكياج شخصية خياليّة
جاءت الرواية في 200 صفحة من القطع الوسط.
بِقَدْر بساطة هذه الحكاية بِقَدْر تعقيدها، هي أُحجيَّة صقلِّيَّة بخلفيَّة من المافيا والمخدِّرات، ولكنَّ شاشا يرويها دون أن يكون مضطرَّاً لذِكْرها، وهنا تكمن براعة شاشا.
كلُّ شيء يبدأ باتِّصال هاتفي بقسم الشرطة، ينقل رسالة غامضة، توحي بانتحار أحدهم، ثمَّ، وكما لو أننا نشاهد فيديو سريعاً، يرصد تفتُّح وردة جوري، تبدأ الأحداث بالتسارُع والتوسُّع والتشابُك، وإزاء هذه الكثافة سنكون، جميعاً قُرَّاء وشخصيات الرواية، مَدعوِّين للتحفُّز واليقظة تماماً مثل ما يفعل عريف الدَّرَك في بحثه عن الحقيقة طيلة الوقت. الوقت الذي يتمُّ اختزاله في هذا العمل الروائي الأثير إلى جزء من الثانية. وربَّما هنا تكمن خطورة المراهنة أمام مَنْ يريد أن يُدركَ على نحوٍ دقيق الاحتمالات التي لا تزال قائمة أمام العدالة.
من الرواية:
”هل تسمح لي بسؤال شخصي … قبل أن أتوجّه إليكَ بأسئلة ذات طابع آخر؟ … كنتَ في درس الإنشاء باللغة الإيطالية تمنحني درجة ثلاثة، لأنني كنتُ أنقلُ النصوص عن زملاء آخرين. لكنكَ منحتَني، في إحدى المرّات خمس درجات: لماذا؟”.
”لأنكَ في تلك المرّة نقلتَ عن زميل لكَ أكثر ذكاءً منكَ”.
ضحك القاضي ملء شدقَيْه. ”اللغة الإيطالية: كنتُ ضعيفاً في اللغة الإيطالية، ولكنْ، كما ترى يا بروفيسور، فليس الأمر جوهرياً، ولم يتسبّب ذلك في مشكلة كبيرة: فها أنا هنا وكيل نيابة عامّ …“.
”لا تكمن أهمّيّة اللغة الإيطالية في مجرّد استخدامها في الحديث، بل إنّ التفكير عبر هذه اللغة هو الأساس”، قال البروفيسور ”بإمكانكَ أن تحتلّ مواقع أعلى حتّى بقدرةٍ أقلّ في اللغة الإيطالية”.
كانت الجملة قاسية، جمّدت القاضي لبرهة في مكانه، عبرَ بعدها إلى تحقيق قاسٍ.
جاءت الرواية في 96 صفحة من القطع الوسط.
قُتِل رجلٌ بالرصاص، وهو يركض لِلَّحاق بالحافلة في ساحة بلدة صقلِّيَّة صغيرة. لن يشهد أحدٌ ممَّنْ كان في الساحة على مقتله، وهذا ما سيُشكِّل تحدِّياً كبيراً للنقيب بيلُّودي، والذي سيُحال له التحقيق بالجريمة. لكنْ، سرعان ما ستصطدم تحقيقات النقيب، الجديد في عمله، والذي يسعى لإثبات جدارته، بجدران هائلة من الصمت والمصالح الشخصية. يشكُّ بيلُّودي بالمافيا، وتكبر شكوكه عندما تنعطف الأمور، وتتوالى الجرائم البشعة، ويكتشف أن تحقيقاته كلَّها تحت مراقبة مراقبين من حوله، وعن بُعْد أيضاً. وكلُّهم يتشاركون شيئاً واحداً فقط، وهو مَنْع ظهور الحقيقة.
هذه الرواية عن المافيا هي أيضاً عرض دقيق للطريقة التي تحافظ فيها منظَّمة المافيا على نفسها، وهي قصَّة مكتوبة ببراعة، وفعل استنكار شجاع.
من الرواية:
– وهل أنتَ رجلٌ يشعر بالندم؟
– لا أشعر لا بالندم ولا بالخوف. أبداً،
– بعض أصدقائكَ يقولون بأنكَ رجلٌ مؤمنٌ للغاية.
– أرتاد الكنيسة، أتبرّع بالأموال لصالح ملاجئ الأيتام.
– وهل تعتقد بأنّ ذلك يكفي؟
– بالتأكيد يكفي، الكنيسة ضخمة، لأن الجميع يتواجدون داخلها، كلٌّ بطريقته.
– وهل قرأتَ الإنجيل أبداً؟
– أسمعه يُقرَأُ في الكنيسة كلّ يوم أحد.
– وكيف يبدو لكَ؟
– كلمات جميلة، كلّ الكنيسة عبارة عن جمال حقيقي.
– وفق ما أرى، فإنّ الجمال لديكَ لا يتقاطع مع الحقيقة.
– الحقيقة تكمن في عمق البئر، فإذا ما نظرتَ إلى عمق البئر، فإنّكَ سترى الشمس والقمر؛ لكنْ، إذا ما رميتَ نفسكَ في البئر، فلن تجد لا القمر ولا الشمس. هناك ستجد الحقيقة.
جاءت الرواية في 192 صفحة من القطع الوسط.
تأتي الروايات الثلاث بترجمة المترجم عرفان رشيد:
ولد في مدينة خانقين (العراق) في 26 آب/أغسطس 1952، يُقيم في إيطاليا منذ عام 1978. تخرج من أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد – قسم الفنون المسرحيّة عام 1977. عمل محرّراً في القناة العربيّة الإيطالية ”راي ميد“؛ أنجز العديد من البرامج والتقارير التلفزينية لتلفزيون دبي، إل بي سي، دويتشة فيله، وغيرها من القنوات التلفزيونيّة العربية؛ وهو مُعلّق ومحلّل لأوضاع الشرق الأوسط في العديد من القنوات التلفزيونيّة الإيطالية، وبالذات القناتين الرسميتين الأولى: ”راي 1“ و ”راي 3“.
عمل أيضاً مراسلاً صحفياً من إيطاليا و وموفداً إلى عدة بلدان أوروبية للعديد من الصحف العربية من بينها ”الحياة“ اللندنية، ”راديو مونتي كارلو“، ”دويتشيه فيله“ الألمانية. ”المدى“ العراقيّة. أسّس ونسّق وأدار تحرير العديد من المواقع الاعلامية الالكترونية، من بينها:
الموقع العربي لوكالة ”آكي“ الإيطالية للأنباء؛ والموقع العربي لوكالة ”أي جي آي ” الإيطالية للصحافة؛ الموقع العربي الإيطالي ”إيطاليا الثقافية“ ( www.Thaqafiya.con )، ويدير قناته الخاصة على اليوتيوب.
عرفان عضو في جمعيّة الصحافة الأجنبيّة في إيطاليا منذ عام 1982، وعضو نقابة الصحفيين الإيطاليين منذ 5 حزيران 2002، وعضو في جمعية الصحافة في إقليم توسكاني منذ عام 2002.
ألف كتاب ”سينما البلدان العربية“ صادر باللغة الإيطالية عن دار نشر مارسيليو الإيطالية (مؤلّف مشارك)؛
ترجم رواية ”الرفيق“ للكاتب الإيطالي تشيزيره پافيزه، المنشورة من قبل ”منشورات المتوسّط“ في ميلانو؛ وترجم ثلاثية الكاتب الصقلّي ليوناردو شاشّا. ورواية “زمن القتل“ للكاتب الإيطالي إينيو فلايانو.
خلال سني خبرته الإعلامية التي قاربت أربعة عقود حصل على العديد من الجوائز والشهادات التقديرية من بينها:
– جائزة ”إسكيا – صحفي العام“ عام 2006
– جائزة نقّاد السينما في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي 2018
– شهادة تقديرية تثميناً للجهد الإعلامي والصحافي من قبل نقابة الصحفيين في إقليم توسكانا.