غابة الشياطين – قصة قصيرة

(ثقافات)

*أحمد خميس

_ يتسرب مثل الشعاع، كماء الذهب من بين الأصابع، تطأ أقدامه بخفة أرض الغابة فتتحطم على إثر ذلك وريقات الشجر الصفراء تحته. بمعطفه الطويل راح يسبح في الريح، وبقبعته الاسترالية الرخيصة يروح ويجيء، وكأنه ما ظهر الا ليختفي، ليزيدني حيرة وخوفاً غالب الأحيان، أحاول جاهداً صرف انتباهي عنه لكنني ما تمكنتُ من ذلك البتة.

العام الثالث وذات الرجل يمشي ذات الخطا، يرتدي الملابس نفسها، ويدخن الغليون عينه.

لم يكن مسلحاً رغم أن هيئته توحي لمن يراه في كل مرة أنه لابد أن يحمل سلاحاً ما.

أواخر أيلول حيث السماء تلملم غيمها، وقبيل الزوال بقليل كنتُ راقداً مثل فقمة في ردهة كوخي الصغير حينما سمعتُ أنيناً مكتوماً بالقرب مني.

في الحقيقة لم أكن أخشى ذلك الرجل المتسرب كالشعاع بقدر ما كنتُ معجباً به، وبشجاعته في دخول هذه الغابة التي كنتُ متأكداً وواثقاً تمام الثقة أن أحداً لن يجرؤ على دخولها سواي.

كانت هذه الغابة مليئة بالأرواح الشريرة والشياطين والعفاريت، كل شيء فيها مثير للرعب وكل الحكايات التي تحاك حولها مخيفة بشكل لا يصدق.

هذا ما تمكنتُ من ترويجه عنها قبيل انصهاري فيها، بينما هي على العكس تماماً من ذلك.

نعم خدعتهم لأخلو، وأنجو بنفسي من كل ذاك الذي هم فيه.

كذبتُ عليهم لمدة عشرين سنة، قتلتُ نصف أغنام القرية وكثيراً من أبقارها وكلابها كي أقنعهم أن في هذه الأدغال ما يبعث على الهلاك.

اختلط الأنين الذي سمعته بالشخير، وراح المتسرّب يتهوّع كبده.

اختبأت الشمس وغادرت إلى الجهة المقابلة ليحل الظلام الغزير لولا البرق الذي رح يلتمع في السماء بين الفينة والأخرى كاشطاً عن ليل الغابة هيبته.

حملتُ مشعلي وهبطتُ السلم الذي يفضي بي إلى الخارج، تحسستُ الخنجر الذي كان يلازمني أكثر من صرة التبغ الصغيرة القابعة في جيب معطفي منذ أكثر من خمسين سنة.

تعقبّتُ الأنين الذي لا زلتُ أسمعه متجاهلاً ذلك الصوت الذي يصرخ فيني من الداخل ويحثني على العودة الى الكوخ وإغلاق الباب على نفسي جيداً.

كنتُ أشعر باقترابي من مكان ما لكن الصوت كان يبتعد ببطء، ينزلق بهدوء في جوف هذا الليل المرعب.

خمسة وثلاثون سنة ولم يدخل هذه الغابة أحد عدا عن بعض المستكشفين ومحبي الفضول وغالبيتهم من الشباب الذين كنتُ أجعل منهم عبرة لكل من تسوّل نفسه باكتشاف الحقائق.

كنتُ ألقي على مواقع تخييمهم أرانب مقطوعة الرؤوس أو جلود قردة ميتة لكنني كنتُ أنتظرهم إلى أن ينتهوا من مضاجعة بعضهم.

في الحقيقة كانوا شجعاناً بالقدر الذي يجعلهم يمتلكون الرغبة بممارسة الجنس في أجواء كهذه سيما وأن أخبار هذه الغابة والأساطير التي نسجتها عنها قد غزت البلاد كلها لدرجة أنّ الحكومة أصدرت عدة قرارات تحظر على الناس دخولها إلا برخصة وأذن منها.

أدهشُ ما في هذا العالم الذي نحن فيه هو كثرة المختبرات المسؤولة عن إعادة تدوير الكذب، الكل يكذب ويصنع لأكاذيبه عيوناً وشفاهاً وأذنان فما أن تقترف كذبة حتى تهب الجموع من حولك لتساعدك في لظم خيوطها جيداً، يشرعون بإعمال مخيلاتهم وطرح خزعبلاتهم وأكاذيبهم ذات الصلة لا بل أن كثيراً منهم سيما من يعشقون اقتناص أنصاف الفرص، وانتهاز أبسط المواقف لتمرير ما يريدون أو المحافظة على ما هم فيه فيقتلون ويمارسون رذائلهم وجرائمهم باسم الكذبة الأولى، هذا السلوك حكر على البشر، كأنما منوط بهم، أو لربما جبلوا عليه.

هدأ الشخير وعمّ صمت رهيب لزج، أرخى بظلاله على روحي، فرأيت من عالمي ما ليس فيه، رأيتني وأنا ألفظ آخر أنفاسي، أموت غريباً وحيداً كسحلية في كهف، سمعتُ شخيري وارتجفتْ جوارحي ورأرأتْ عيناي.

لتبقى غابة الشياطين الفرج الذي كان ينبغي أن يكون كما أردت له أن يصير ملجأ دافئاً من كذبة الأوطان الباردة.

*روائي سوري مقيم في ألمانيا

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *