الباب – قصة قصيرة

  • موسى رحوم عباس

نحن بقايا البدو في هذه البلاد لم نَعُدْ نصنع بيوتنا من الوبر وشعر الماعز، ولم نَعُدْ نحبُّ السَّمن واللحم، وفي الواقع مللنا من مطاردة الوُضَيحِي في الكثبان الرَّملية، حملنا معنا ثاراتِنا وخناجِرَنا إلى المدينة، واحتفظنا بأغانينا من الهجيني والشُّروقي والقصيد، وهذبنا لحانا الطويلة واكتفينا بعُثْنونٍ صغير، ابتنى والدي فيلا صغيرة، حولها حديقة لا تخلو من النباتات الشَّوكية وتلك التي تحتمل العطش رغم توفر المياه! وثبَّت بعض رؤوس الغزلان التي يحتفظ بها بعد أن تقاعد من الصَّيد بقرونها المُلتوية في جدار مجلسه، لِتُطِلَّ علينا بعيونها المُنطفئة كلما التقت عيوننا! وبعد حَمْسِ البُنِّ وطحنه يصنع قهوته، ويصبُّ لضيوفه منها بعد أن يرتشفَ الفنجان الأول على عادة الأهل، لحقنا أبناء العمومة وتكاثرت البنايات في شارعنا، حتى إننا استأثرنا بالاسم الرَّسمي للشارع؛ فصار يعرف عند البلدية بشارع آل عامر، انتقلت الصَّحراء إلى المدينة، وصار الهجيني غناءً معترفاً به لكنَّ إيقاعه أسرع قليلاً! الخناجر صارت للزينة، نقوم بتلميعها ومسحها بالزيت، وعَشَّقْنَا مقابضها بالخرز الأزرق، عندما ضاق البيت علينا، ابتنينا مُلْحَقاً خاصاً وضعنا فيه المدخنة والسجاد والمفارش الصوفية، حضر أخي بعد أن أنهى دراسته في الهندسة المعمارية في بريطانيا، فأضاف للملحق شاشة كبيرة وطاولة بلياردو، لكنه وجد أنَّ البابَ صغيرٌ ومكانه غير مناسب، استغلَّ سفر أبي خارج المدينة؛ ليبدأ مشروعه الصَّغير، أغلق الباب القديم بالحجارة، وأعاد دهان الجدار، بينما صنع فتحة كبيرة في الطرف الآخر من الجدار؛ لتكون الباب الجديد الذي صنعه من الخشب المُعتَّق والزُّجاج المُلوَّن، وأطلق على المُلحق اسم «المُلحق الذَّكي» وأرى أنه يستحقُّ هذا الاسم، فقد جعل الإنارة تعمل بمِجسَّاتٍ حركية، إذ يكفي أن تطرق الأرض بقدمك حتى تُضاءَ المصابيحُ كشمس الصَّحراء، والشَّاشة تعمل باللمس ويمكنها تلقي الأوامر الصَّوتية؛ لتغيير القنوات والتحكم بالصوت والنَّقاوة، حتى الباب يعمل بحسَّاساتٍ حراريةٍ، ويتعرَّف على بصمة الصَّوت، لينفتحَ تلقائياً، لكنَّ هذه الخاصية بقيت مقصورة على أخي، عند عودة الوالد من السَّفر، حاولنا أنْ نثنيَه بِحُجَج مختلفة عن زيارة المُلحق، لكنَّهُ أصَرَّ، توجَّه إلى الباب القديم الذي يعرفه وهو مُغْمَضُ العينين، ارتطمتْ ركبتُهُ بالجدارِ اقام مكانه، حاول مرَّة ثانية، سال الدَّمُ من ركبته، حاول إعادة تثبيت نظَّارته، الرؤيةُ تزدادُ صعوبةً، هو متأكدٌ من مكان الباب، نعم هذا هو مكانه، أخذ يعيدُ المحاولة، قرأ المعوَّذاتِ، حَوْقَلَ وبَسْملَ، الدَّمُ ما زالَ يَنِزُّ من ركبته، لُهَاثُه يزداد، والعرق يتصبَّبُ من جبينه، لكنَّه لن يتمكنَ من الدخول، وما يزال الدَّمُ يتدفَّقُ على عتبة البابِ، ويسيلُ إلى أشجارِ الحديقة!

* عن موقع سبا

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

2 تعليقات

  1. موسى رحوم عباس

    الصديق يحيى القيسي، أديب جاد، وصوت متفرد، أرجو لكم التوفيق والسداد دائما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *