* حسن المطروشي
«إن المشهد الشعري الثمانيني العربي يظل ناقصا تماما دون الانتباه إلى مركزية يوسف عبدالعزيز فيه». زهير أبو شايب
مطلع تسعينات القرن المنصرم كانت تصلني مجلة (البحرين الثقافية) إلى مكتبي في العمل. كنا حينها نعيش زهو المجلات الأدبية، فلم يكن لدينا أي شيء آخر سوى الكتاب أو المجلة الثقافية، قبل ثورة التكنولوجيا التي قلبت العالم عقبا على رأس وغيرت مفاهيم الحياة.
وجريا على عادتي، حين استلمت أحد الأعداد، ذهبت إلى قراءة النصوص الشعرية المنشورة في العدد الجديد. النص الصادم الذي قادني إلى اكتشاف عوالم شعرية بكر ومغايرة كان بعنوان (ذئب الأربعين) لشاعر يدعى يوسف عبد العزيز، يقول في مطلعه:
في سفوح الأربعين
جسدي زوبعة حمراء
والمرأة طين
في سفوح الأربعين
السماوات التي كنت على قبتها
أشرد كالنسر
استحالت ورقا أصفر
في قبو السنين
ويختتمها قائلا:
«وحده في النفق المعتم
ذئب الأربعين
يملأ الأرض عواء ويشمُّ الميتين»!
كانت دهشتنا حينها عظيمة باكتشاف شاعر يكتب نصًا مغايرًا، لم نقرأ شيئًا مثله في كل ما اطلعنا عليه. حملت ذلك النص إلى أصدقائي من الشعراء وكان فاكهة مجالسنا حينها إلى فترة طويلة. كان نصا مهيمنا وفارقا، ولكننا لم نكن نعرف الشاعر. كنا نراه أحد أعظم الشعراء العرب، تمامًا مثل ما رآه الشاعر دخيل الخليفة مؤخرًا في إحدى تغريداته على حسابه في التويتر حينما قال: «هناك شعراء كبار غائبون عن المشهد الثقافي رغم عمقهم وفاعليتهم الحقيقية كصناع إبداع.. وأحد أبرز هؤلاء الشاعر الفلسطيني الرائع يوسف عبدالعزيز (مواليد 1956). أراه أهم شاعر فلسطيني بعد محمود درويش.. لكن النقد والإعلام الثقافي في سبات عميق»!
لم نكن حينها معنيين بوضع تصنيفات للشعراء من هو أكثرهم شهرة، ومن هو أكثرهم قربا للسلطات وإعلامها وهباتها ونياشينها وأساليبها المتنوعة في صنع الأسماء والمشاهير والشخصيات التي تقدم للجماهير على أنها نماذج إبداعية ووطنية وثقافية عليا.
في عام 2001 كنت مدعوًّا إلى مهرجان الشعر العربي في بيت الشعر، بأمانة عمّان الكبرى، بالملكة الأردنية الهاشمية. كان الشاعر يوسف عبدالعزيز أحد الشعراء المشاركين في المهرجان، إلى جانب شعراء كبار مثل الدكتور محمد علي شمس الدين وقاسم حداد والراحل الدكتور عزالدين المناصرة ونوري الجراح وغيرهم. حضر يوسف في الأمسية المقررة لقراءته. قرأ عددًا من قصائده الفاتنة ثم اختفى. كان مدهشًا وبديعًا. كانت لقصائده نكهة خاصة، ولحضوره ظله الآسر.
التقينا مجددًا في الجزائر، عام 2010، في عكاظية الجزائر للشعر العربي. هذه المرة تفاجأ هو حينما صعد إلى المسرح بشخص يطلب منه قصيدة (ذئب الأربعين). كان ذلك الشخص هو أنا ليس إلا. وحينما عدنا إلى الفندق جلسنا معا في لقاء مسائي طويل. كانت فرصتي بأن أقص له الحكاية بأسرها. تفاجأت به هو أيضًا يريد أن يقول شيئًا عن عمان. قال لي بأنه وضع قائمة يصنف بها شعب العالم من حيث الهدوء والوداعة والطيبة وروح التسامح وسمو النفس وحسن المعاشرة والاحترام في التعامل، وقد وضع الشعب العماني في رأس قائمة الشعوب أجمع. رأيت شاعرًا مثقفًا يحفظ التاريخ العماني ويفتخر به ويعظمه. حدثني عن أحمد بن ماجد والأمجاد البحرية العمانية والتاريخ العماني وأسهب في الحديث عن الحضارة العمانية الضاربة في القدم.
يوسف عبدالعزيز شاعر مسكون بالشعر وقد نذر حياته للقصيدة دون ثمن. وهو يزهو كثيرًا بلقب الشاعر. حتى عندما يتوقف في الشارع ليسأل شخصًا عابرًا عن مكان ما أو يسأل شرطيا عن الطريق الذي يسلكه، يبدأ بتعريف نفسه قائلا بفخر كبير: «أنا الشاعر يوسف عبدالعزيز». وقد رأيت شخصيًا ذلك في عدة مواقف.
في أحد لقاءاته المتلفزة يصف علاقته المصيرية بالشعر فيقول: «أعتقد أن الشعر سبب لوجودي. ليست العبرة في الحياة المنشّأة الأخرى التي أتناول فيها طعامي أو أشرب الماء أو الشاي أو القهوة أو أتجول في الطرق. حياتي كلها قائمة في الشعر».
قال عنه الشاعر اليمني الدكتور عبدالعزيز المقالح: إن «يوسف واحد من شعراء الأرض المحتلة، الذين حسموا المعادلة لمصلحة الشعر، من دون أن يتجاهلوا قضيتهم الأولى وتحدياتها المتلاحقة. وتحت شرط هذا الحسم تمكن يوسف من أن يقدم شعرًا يموج بالمتخيل، ويلامس معاني الطبيعة والأشياء».
مسكونا بهذا الهاجس الشعري الهائل حفر يوسف عبدالعزيز طريقه في عروق اللغة وشق ينابيع الرؤية ليحقق كشوفاته الحلمية العظمى، ويبتكر مساره الخاص في دروب القصيدة الوعرة، فقدم للشعرية العربية دواوينه التي جعلته يقف شامخًا متفردًا في المشهد الشعري العربي، مثل: (ذئب الأربعين) و(قناع الوردة) و(دفاتر الغيم) و(وطن في المخيم) و(نشيد الحجر) و(حيفا تطير إلى الشقيف) و(الخروج من مدينة الرماد) و(صامتٌ وفي رأسه شلال موسيقى).
يرصد الشاعر شوقي بزيع عنصر المفارقة في القصيدة المشهدية التي تميز بها يوسف عبدالعزيز بأنها: «تشكل جزءًا من توقيعه الشعري. ولعلها تتمدد على كل القصائد، كما تتدرج من المفارقة اللغوية والإثارة المشهدية لتصل إلى أقصى مدى لها في المفارقة السوريالية، ما يدخل أحيانا شكلا من أشكال السحر واللامعقول في طعم القصائد، حتى ولو كانت قصيدة وطن:
في الحظيرة هاج الحمار
ولم يأكل التبن،
من جهة الشرق دقت الجرسيّة دقة،
فهوى كل شيء،
وسال من النجمة الحلم،
إلا أبي
ظل يمسح بالزيت ماسورة البندقية.
وفي هذا السياق يرى رفيق دربه الشاعر زهير أبو شايب أن: «نص يوسف عبدالعزيز ظل يجوس في المنطقة التعبيرية ذاتها التي نبت منها. لذا لم يتحول العالم عنده إلى خزان بصري بارد نمارس إزاءه غيبوبتنا التفرجية، بل ظل مادة للرؤية والتفاعل مع كل التحولات التي تجري بسرعة مذهلة على جسد العالم وتتركنا فزعين من هول ما نرى:
صدأ على الأمواج
صدأ على تفاحة المعنى
وأشهد أن هذي الأرض
دونك دودة عمياء تسري في لحاء يدي
وأن الشعر نحلٌ ميّت فوق الشفاه!
وفي الختام نشير إلى أن يوسف عبد العزيز من مواليد قرية بيت عنان بالقدس، ويقيم حاليًا في العاصمة الأردنية عمّان. وقد تُرجِمَ شعره إلى عدد من اللغات منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية. وقد حصل على عدد من الجوائز الشعرية المهمة منها جائزة الدولة التقديرية عن جميع أعماله الشعرية، من وزارة الثقافة الأردنية، وجائزة زهرة المدائن عن ديوانه (ذئب الأربعين)، من منتدى المثقفين المقدسيين بفلسطين، وجائزة التفرّغ الإبداعي من وزارة الثقافة الأردنية، وجائزة عرار عن مجمل أعماله الشعرية، من رابطة الكُتّاب الأردنيين، وجائزة الدولة التشجيعية عن ديوانه (دفاتر الغيم) من وزارة الثقافة الأردنية، وجائزة الرابطة التشجيعية عن ديوانه (حيفا تطير إلى الشّقيف) من رابطة الكُتّاب الأردنيين.
-
عن جريدة عمان