جماليات الشجرة في قصص سورية معاصرة

(ثقافات)

جماليات الشجرة في قصص سورية معاصرة

د. علياء الداية

تشترك قصص سوريّة معاصرة في عنصر الشجرة الذي يرتبط جمالياً بعدة نشاطات بشرية، ولاسيّما أن الأشجار عنصر أليف في البيئة التي تحيط بالقاصين، وقلّما نجد بيئة جغرافية سورية خالية من الأشجار، إذ إن البادية ليست صحراء بالمعنى القاحل وإنما تتضمن غطاء نباتياً لا يخلو من الشجيرات وأشجار من أنواع خاصة.

فالشجرة، النبتة ذات الجذور الراسخة في الأرض، والفروع المتطاولة نحو السماء، تعطي الظل وإحساس الحماية لمن يستجير بها، وتمنح الثمار أو المظهر الأخضر بما ينطوي عليه من معنى الحياة والتجدد. والشجرة ارتباط بين الأرض والسماء، وهي مكوّن طبيعي قديم منذ أن أوجد الإنسان الحضارة في العالم. وكذلك فإن الشجرة ـ كغيرها من الموجودات المحيطة بالإنسان ـ مكوّن نجده في الأدب العالمي. وعلى سبيل التحديد فإن تأثير الشجرة في أحداث القصص له سمات متقاربة، كما في كل من: “دمية عالقة في الشجرة” لوليد إخلاصي، و”فاكهة الجنّة” لشهلا العجيلي، و”شجرة في المطعم” لمحمد أبو معتوق، و”ويتساقط الياسمين” لغفران طحان، و”لوحة” لوصفية محبك.

البيئة المحيطة بالشجرة:

تهتم ثلاث قصص على نحو خاص بالبيئة المحيطة بالشجرة، وأثرها في الشخصية الرئيسية التي تعاني من الشجرة أو ما تثيره حولها من تساؤلات.

ففي قصة “دمية عالقة في الشجرة” لـ(وليد إخلاصي) يتملّك الرجل المتقاعد قلق على مصير الدمية، وكأنها شخص حقيقي عالق في الشجرة، فمن على مقعده على الشرفة، وعلى مدى عدة أيام، يتأمّل شجرة الزنزلخت، ويقلّب الاحتمالات الممكنة: أغصان الشجرة تُسبب الأذى للدمية وتشغل خواطره هو، مما يعكر صفو جمال جلسته اليومية الهادئة الهانئة، فقد تسقط الدمية بسبب تناقص الأوراق المحيطة بها يوماً بعد يوم. ثم إنه يلحظ الأوراق اليابسة المكدّسة على أرض حديقة الجيران، ويقدّر أن الدمية ربما تسقط فوقها. ثم إنه أيضاً يديم النظر ويتأمل فيلحظ وجود حفرة أسفل الأوراق، ويفكّر بأن الدمية قد تقع داخل الحفرة وتنطمر بالأوراق “فقال لا بدّ أن الأوراق تخفف من صدمة الوقوع، ثم يكتشف أن حفرة صغيرة تظهر واضحة لمن يراها بعد أن كنست الريح بعض الأوراق”(1). إن المكان مليء باحتمالات الرحيل والفقدان، والرجل المتقاعد وحده من يهتم لأمر الدمية، ويرقب شدة الرياح وبرودتها يوماً بعد يوم، فالبيئة المحيطة تحتوي الرجل والدمية معاً في مصير مشترك، فقد اختفت الدمية مع بوادر الشتاء، كما بقي الكرسي وحيداً على شرفة الرجل العجوز.

أما قصة “شجرة في المطعم” لـ(محمد أبو معتوق) فهي تحتفي بالشجرة بوصفها مكوّناً جميلاً مهماً في البيئة الطبيعية، وما يحصل في القصة هو أن طرفين يتنازعان على الشجرة، وإنما بشكل غير معلن. فالسارد وباقي رواد المطعم جالسون في القسم الشتوي المغلق، ويطلون منه على القسم الصيفي حيث يتمّ التخلص من الأشجار بأمر من مدير المطعم “وقد تبرّع المدير المسؤول بشرح فوائد قطع الشجرة بصورة أرعدتنا”(2). تنتاب السارد حسرة على الغطاء النباتي المفقود الذي كان يمتدحه في بداية القصة، وعلى تسلل القبح إلى المكان، ولكنه لا يملك أن يفعل شيئاً تجاهه “وقد جلسنا معاً في الطرف الشتوي للمطعم العمّالي المعروف بأشجاره الباسقة التي تشكّل جزيرة خضراء وسط محيط من الحجارة والضجيج، وكان القسم الشتوي للمطعم يطلّ بنوافذ كبيرة على القسم الصيفي الأخضر، لذلك كنا نضطر لأن نلتفت إلى الخضرة المجاورة”(3)، فالسارد خاسر حزين يكتفي بالتفرج والمشاهدة.

وتظهر ملامح من البيئة الطبيعية في قصة “لوحة” لـ(وصفية محبك)، ففي الغابة لا يبدو أمام الرجل سوى أشعة الشمس المتسللة تضيء بعض الملامح التي تكسوها الظلال، لتضفي لمحة من الجمال في المكان. ويتبيّن الفنان بعض الحيوانات التي رسمها في وقت سابق داخل اللوحة “أوه… هذا سنجاب يتسلق الشجرة سريعاً، حاولت اللحاق بأرنب، لكن قدمي تعثرت بخلد صغير، اقترب مني غزال استغرقت الليل أرسمه، وأظن أنني أتقنت رسمه، ظهره ناعم ولونه جميل، عزفت الحيوانات لحن الغابة”(4). ولكن حيوانات أخرى غريبة الشكل تستدعي دهشة الفنان ومقابلته بين المظهر الجميل لما رسمه والشكل القبيح المنفّر لما يراه أمامه “كيف أرسم حيواناً بلا أرجل؟ آخر ذا شكل هلامي يتغير كما يشاء؟ وآخر يقفز فوق الشجرة؟ كأنها دمى مرعبة”.(5)

الشجرة والنهايات:

تتخذ الساردة في قصة “فاكهة الجنّة” لـ(شهلا العجيلي)، من شجرة الرمّان موضوعاً خصباً للحب، ومن اللافت تقسيم القصة إلى حكايات ثلاث؛ الضحية في الحكاية الأولى امرأة، هي جدّة الساردة، أما الرجل فيكون الضحية في الحكاية الثالثة، في حين تبيـّن الحكاية الثانية نظرة الجدة إلى المرأة الأخرى على أنها قبح وشرور؛ لقد قضت الجدّة سنوات طويلة من الحسرة والحزن لأن زوجها أعجب بالجارة فتزوجها، “كانت تكسر الثمرة وتُطعمه بيديها حبّة حبّة، وهي تنشد شعراً وتغنّي. برمّانة خطفَت الرجل مني، تلك الحيّة، فزرعتُ هذه الشجرة عسى أن أكشف سرّها”(6). أما في الحكاية الثالثة فالضحية هو الخليفة يزيد بن عبد الملك بن مروان، وقد مات كمداً على جاريته الحبيبة التي شرقت بحبة رمان فماتت، وكأنّ ما حصل إثبات لما ظنّ الخليفة أنه أمر احتمالي ويقبل الصحة أو الخطأ “وفي تلك الليلة قال يزيد: زعموا أنه لا تصفو لأحد عيشة يوماً إلى الليل إلاّ يُكدّرها شيء عليه، وسأجرّب ذلك”(7). فكان ما جرى هو تنغيص عيشه كله، لا إفساد يوم واحد فحسب. إن التقابل بين هاتين الحكايتين تعززه نظرة الساردة إلى الجمال الكامن في طرفي ثمار الرمّان في اللوحة “قويةٌ الألوان التي استخدمها الفنان في هذه اللوحة. لقد جعل لكلّ رمّانة خدّاً أحمر، وخدّاً ذهبياً، فأضاء الفضاء محاولاً الابتعاد عن الواقع ببعث شيء من السحر بواسطة اللون الذهبي”(8)، إذ تجد احتمالين، وطرفين لكل ثمرة تختلف معهما مصائر الشخصيات.

وتنفرد قصة “ويتساقط الياسمين” لـ(غفران طحان) بالنهاية السعيدة، فقصتا “دمية عالقة في الشجرة” و”لوحة” تنصرفان إلى تأمّل شؤون الحياة، أو التفكّر في أحوال المجتمع ومشكلات علاقات أفراده، وتشترك قصتا “فاكهة الجنّة” و”الشجرة” في النهايات الحزينة أو المؤسفة. أما “ويتساقط الياسمين” فقد بدأت فيها الأحداث من نقطة المشكلة فالتأزّم فالحلّ المبهج في النهاية؛ بدأت بالرجل الوحيد من دون إشارة إلى حالته الاجتماعية، وهو يثير فضول جارته الفتاة التي تطل عليه خلسة من نافذتها التي تعلو داره، ثم تنتقل القصة إلى شعوره التدريجي بالضيق، وكأن المكان لا يسعه، وكأن النشاطات المتعددة التي يمكنه القيام بها، من قضاء الوقت بالقراءة، أو بممارسة هوايته وعمله في الوقت ذاته، أو حتى الجلوس وحيداً، لا يمكنها أن تخفف عنه العناء، وأن تعوّضه عما يفتقده. ثم إنّ النهاية تأتي مفاجئة وحاسمة مع مجيء زوجته “أمل” لتكشف سرّ ضيقه بالعزلة، وسرّ مصالحتهما بعد طول جفاء، “بعد قليل ينكسر ظلّه بظلّ آخر… إنّه هو… أهمّ بمناداته، فأتعثر بشهقة المفاجأة… إنه ليس بمفرده كما العادة: أمل… إنّ حياتي من دونك عتمة دائمة… أنت نور حياتي الوحيد”.(9)

الشجرة الضحية:

يرتبط العنف الممارس ضدّ الشجرة في القصص بكون العنصر الذكوري هو من يقوم به. ففي كل من “شجرة في المطعم” و”ويتساقط الياسمين” و”لوحة”، نجد حنقاً من البطل على الشجرة القريبة منه، بحيث تبدو خصماً له ينبغي التخلص منه. وفي حين تتحقق السعادة المنشودة للطفل في قصة “لوحة” لـ(وصفية محبك)، يحقق المدير أحد أهدافه من قطع الأشجار في “شجرة في المطعم” لـ(محمد أبو معتوق)؛ أما الرسّام في “ويتساقط الياسمين” لـ(غفران طحان)، فيعدل عن الاندفاع القبيح بالانتقام من الشجرة في لحظة غضب، وينعكس هذا إيجابياً على لحظاته التالية الجميلة ولقائه أخيراً بحبيبته.

والشجرة ضحيّة علنية للعنف في قصة “شجرة في المطعم” لـ(محمد أبو معتوق). فالعامل الذي يحمل المنشار يتقصّد إنهاء وجود الشجرة والقضاء على مكانتها الأثيرة في نفوس رواد المطعم ـ ومنهم السارد وصديقه الحقوقي والشاب الوحيد على الطاولة المجاورة ـ والشجرة تهوي بكل ثقلها واخضرارها وجمالها وحيويتها إلى غير رجعة “وكان عاملٌ يحمل منشاراً كهربائياً يحاول بواسطته أن يقطع شجرة… وقد تمكّن بضربتين اثنتين أن يوقع الشجرة أرضاً”(10). لا يُفصح السارد عن سبب هذا السلوك القبيح تجاه الشجرة، غير أنه يلمّح إلى رغبة مدير المطعم في اكتساب مساحات جديدة، ولعلّه يريد تحويل الحديقة التي يجلس فيها الزبائن صيفاً إلى استثمار آخر. ومن اللافت أن شجرة ثانية يتمّ قطعها بالطريقة نفسها خلال زمن قياسي لا يتعدّى بضع دقائق “ثم سمعنا معاً صوت السقوط العميق… فانتبهنا إلى الشجرة فوجدناها وقد طرحت أرضاً وطرحت معها خضرتها العريقة وما تختزنه من فتنة وشهقات”(11)، الأمر الذي يشير إلى إمكانية فقدان كل القسم الصيفي بأشجاره خلال وقت قصير، والقضاء على ذكريات أهل المكان وأحلامهم الخضراء. فالسارد لا يملك سوى تبادل الأنخاب عن بُعد مع الشاب الجالس إلى طاولة مجاورة “كان الرجل الذي صفعته المرأة جالساً في موضعه وحين التقت أنظارنا… ابتسم لي ورفع كأسه، فرفعت كأسي مثله وتبادلنا على البعد الأنخاب”(12) فكلاهما نال صفعة من جليسه ـ الشاب صفعته الفتاة الغاضبة التي رحلت عنه، والسارد صفعه صديقه الحقوقي ـ وكلاهما مع رواد المطعم نالوا صفعتين مؤلمتين بسقوط الشجرتين.

أما “علي” الرسام في قصة “ويتساقط الياسمين” لـ(غفران طحان)، فينتابه الضيق من شجيرة الياسمين في أرض الدار، لأنها تذكّره بحبيبته الغائبة ـ التي تكشف نهاية القصة عن شخصيتها وعودتها إليه ـ وهكذا فإن الشجرة تتقمص صفات حبيبته “أمل” التي يشتاق إليها ولا يتمكن من استعادة طمأنينته إلى طقوس حياته اليومية من دونها. إنّ علي يتألّم بسبب غياب “أمل” عنه منذ شهرين إثر خلاف بينهما، وللحظة يتخيّل أن الحلّ يكمن في إلغاء وجود الشجرة، كأن اختفاءها سيجعل أمل تختفي من حياته ويجعل السعادة تزوره من جديد، “يأتي مسرعاً وبيده منشار… يقترب من الياسمينة محاولاً تقطيع أوصالها… ولكنه يتراجع فجأة”(13)، ففي اللحظة الأخيرة يعدل عن قراره وقد تغلّب عليه اعتياد صحبة الياسمين وألفة وجوده وجماله، فالعنف ليس طبعاً متأصلاً لدى علي، ولاسيما أنه رسّام يعشق الجمال والقيم الإيجابية في الحياة. والدليل أنه ابتعد عن العنف عائداً إلى طبيعته المسالمة.

ومن المميز في قصة “لوحة” لـ(وصفية محبك) أن من يمارس العنف هو طفل صغير، وأن وسيلة العنف هي جهاز الحاسوب. وتشير الأحداث إلى مفارقة خطيرة بين الأب وابنه، فالأب الرسّام يستخدم الوسائل التقليدية في رسم الغابة والأشجار، اللوحة والفرشاة والألوان. أما الابن فيستخدم الحاسوب في تصفّح اللوحة، وإدخال تعديلات غير مرغوبة عليها، وهو من منظور والده يشوّه اللوحة، مما يدفع الأب إلى مناجاة ابنه كي يترك له اللوحة، ويرسم ما يشاء في مكان آخر. أما الابن فهو لا يسمع، لأنه في عالم آخر، يطلّ على اللوحة والأب من خلف شاشة الحاسوب “بدا وجه ولده كبيراً جداً، بدت أصابعه وهي على اللوحة مثل جبال ضخمة”(14). وفي النهاية فإن الابن لا يفرّق بين أبيه والكائنات الأخرى في محيط الشجرة، بل يجده كائناً مزعجاً فيسارع إلى التخلص منه بمسحه من اللوحة كاملة، في سلوك عنيف يلغي الآخر من دون مساءلة أو حوار. مما يرمز إلى انقطاع حوار الأجيال، مع اختلاف الوسائل المستخدمة من الطرفين، ووجود فجوة في أسلوب التفاهم، لا يمكن ردمها حتى عن طريق الفنون الجميلة وتصورّ واقع مشترك.

*  نشر المقال في في العدد 691 ـ نيسان 2021 من مجلة المعرفة ـ شهرية تصدر عن وزارة الثقافة في دمشق

الهوامش:

1 ـ عن الدهشة والألم، 50 قصة بأقلام عربية، كتاب العربي 68، (قصة: دمية عالقة في الشجرة، وليد إخلاصي، نشرت القصة للمرة الأولى في مجلة العربي العدد460ـ آذار 1997)، مجلة العربي، الكويت، ط1، 15ـ 4ـ 2007، ص138

2 ـ  لحظة البرق، (قصص)، محمد أبو معتوق، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ط1، 2002، ص51

3 ـ المصدر السابق، ص48

4 ـ قلب وقلب آخر (مجموعة قصصية)، وصفية محبك، دار الفرقان للغات، حلب، ط1، 2009، ص65

5 ـ المصدر السابق، ص65

6 ـ المشربية (مجموعة قصصية)، شهلا العجيلي، دار كلمات، حلب، ط1، 2005 ، ص87

7 ـ المصدر السابق، ص89

8 ـ المصدر السابق، ص87

9 ـ كحلم أبيض (مجموعة قصصية)، غفران طحان، دار تالة، دمشق، ط1، 2009، ص104

10 ـ لحظة البرق، محمد أبو معتوق، ص50

11 ـ المصدر السابق، ص52

12 ـ المصدر السابق، ص52

13 ـ كحلم أبيض، (غفران طحان)، ص101

14 ـ قلب وقلب آخر، (وصفية محبك)، ص65

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *