د. علياء الداية *
( ثقافات )
يتسم الشعر العربي المعاصر بحضور لافت لمفهوم “الماء” ضمن مفردات القصيدة، بوصفه مكوّناً طبيعياً يؤثّر في وجدان الشاعر. ومن خلال القصيدة تتضح علاقته الجمالية بالعديد من المكونات والمفاهيم، بحسب المكانة التي يوليه إياها الشاعر. ويتفاوت حضور الماء في القصائد ضعفاً وقوّةً، قلة أو كثرة.
ومن الشعراء الذين يحتفون بمفهوم الماء، كل من الشاعر البحريني “قاسم حداد، والشاعر السوري “سعد الدين كليب”، والشاعر العراقي “عدنان الصائغ”. وتلتقي تجاربهم الشعرية في عدّ الماء مكوّناً يسهم أحياناً في عزلة الشاعر وزيادة معاناته وحصاره، ويفتح أحياناً أخرى باباً للهرب، والتأمّل، ومغادرة المكان إلى أفقٍ آخر.
وتبرز جماليات الماء من حيث كونه بحراً حيناً، ونهراً أو مطراً حيناً آخر، وما تتصف به البيئات المحيطة بهذين النوعين، من جمال أو قبح، وتأثيرها في نفس الشاعر المعذّبة أو المتألمة، فالماء هو “وطن الموت الكامل الذي يكونه البحر اللامنتهي أو النهر الهادر. وحده الماء يستطيع أن يخلص التراب”(1).
وفي هذا الإطار يتناول البحث المجموعات الشعرية الثلاث: “عزلة الملكات” لقاسم حداد، و”أشهد هاك اعترافي” لسعد الدين كليب، و”تأبّط منفى” لعدنان الصائغ.
وفي العوالم الشعرية ذات الصلة بالماء لدى الشعراء الثلاثة، نجد القصائد تدور في فلك قيم الجمال والقبح والمعذّب، في حين تخلو بشكل واضح من قيمة البطولي، فليس ثمة مكان للبطولة وتحققها الجمالي وسط افتقاد الجمال، وحضور القبح، فأقصى ما يمكن للمعذّب فعله تجاه واقعه هو الشكوى، والحلم الذي محوره الماء غالباً.
جماليات البحر
يدل البحر في قصائد الشعراء الثلاثة قاسم حداد، وسعد الدين كليب، وعدنان الصائغ، على حالات من الضياع، ينجم عنها قليلٌ من الأمل في أحيان نادرة، واستسلامٌ في أغلب الأحيان، حيث لا يحقق البحر حلم السباحة في أمواجه، أو السفر بعيداً عن الخطر وألم الذكريات، بل تنطبق على البحر صفة الغدر، سواء القوارب والمراكب والبواخر، أو المسافرون والربّان؛ إذ “يكون الماء، لحالمين عدة، الحركة الجديدة التي تدعونا إلى الرحلة التي لم تحدث أبداً. وينتزعنا هذا الرحيل المُمدّى من مادة التراب”(2). إنّ البحر يقترن بدموع الشاعر ونحيبه، فالبحر مالح والدموع مالحة، و”ستأتي صورة الدموع، ولا شك، ألف مرّة إلى الفكر لتفسّر حزن المياه”(3)، والشاعر معذّب في مكانه لا يستطيع الإقدام على الفعل بسبب اشتراك البحر في حصاره وسلب حريته.
ويشكو الشاعر في قصائد قاسم حداد من وحدته بين أصحابه القدامى، هم على الشط، أما هو ففي عرض البحر منفردٌ بذكريات طفولة غائبة. ينتمي إلى عالم الموتى، ولا يمْكنه الالتحاق بالحياة الجميلة، لأنها لم تعد جميلة بالنسبة إليه. يفتقد الضوء والغيم، ولا يحصّل من سمات ماء البحر سوى الألم الناجم عن قناديل الماء، مفارقة بين المظهر المضيء والجميل، والفعل المؤلم الشبيه بالخنجر وطعنات الأصدقاء.
“غطّاك الغيمُ
تفزع في قمصانك أخبارٌ تهذي
مثل قناديل الماء
كأنكَ تشحبُ في جسدٍ يقتتلُ الآن
كأنكَ مثلكَ
تمنح رفقتكَ الخنجرَ
كي يختبروك
كأنكَ مثلكَ تلهو” (4)
ومن اللافت أن الشاعر يخاطب الماء بقوله “أيها السيّد” مرغماً على أمره، ومع أن البحر ذو اتساع، فإنه لا يوحي بالجمال أو بالمدى الرحيب ومغادرة الألم أو القبح، بل إنّ الشاعر يحتاج إلى عدد كبير من المراكب والضمادات والزجاجات، حتى يعود إلى الساحل، وإلى الذاكرة، وإلى إمكانية دخول الحياة القديمة من جديد. فالبحر محفوف بالمخاطر وهي هنا صور منفّرة حيث يستعيد ذكرى الحرب والمستنقعات، ويعي كونه معذَّباً بسطوة الزمن، غير أن ثمة أملاً بالانسياب مع الموج تارة، ووصول الهدف تارةً أخرى، والثبات بإلقاء المرساة إلى القاع.
“كان لنا أن نعبّئ الحرب في المستنقعات
وننساب في جرأة الموج
ونحشو مدفأة الكوخ بالمبتكرات
ومحظيات المخيلة
الآن
ينبغي أن نقذف المرساة
ونَعِد الأرضَ بغوايةٍ جديرةٍ ،
ونقول للماء :
أيها السيد . ” (5)
وهذا يثبّت صورة البحر في قصائد عديدة لديه، فالبحر مخاتل، مَوجُه حزين، وسواحله كثيرة، يترادف اسمه مع الخداع والغرق والمصير المجهول للقوارب. فالشاعر يرغب في الوقوف من البحر على مسافة، أو أن يحتويه مع إمكانية للثبات والتأمل، فالخوف الشديد “يجعلنا ننكمش في ذواتنا، ثم لا نلبث أن نشعر بأننا في أمان أو أن لا شيء سيؤثّر فينا، فيولّد هذا فينا حركة عكسية فنشعر بالانفصال والتحرر وهو الشعور الذي يتألف منه الجلال”(6).
إن البحر لا يحمل الاطمئنان إلى الشاعر، بل نلحظ تكرار مفردة “القوارب” في قصائد قاسم حداد، بوصفها من لوازم البحر، في ارتباطها بالخداع؛ تخدع الأسماك، وتتقنّع بالماء لتَكون الشباك من ورائه فخاً، وتصبح الأسماك طريحة الطين وأسيرة الشاطئ. وفي قصيدة “السبايا” على سبيل المثال يتحول الجمال ويتغيّر ويتلوّن إلى نفاق، وتقترن صورة البحر لدى الشاعر بالجباة، والصيارفة، والأحزاب، والدسائس، التي تلتهم الأسماك، وتنشب شباكها في البحر، مما يذكّر بقصيدة “مذكرات مجنون” لسعد الدين كليب. وتذكّر بها أيضاً شخصية “مجنون الأحلام” في قصيدة “المبارزات”، إنه الذي يقتحم المجهول والتجربة والمغارة، وهو ليس سوى ساحلٍ يأتي إليه البحر، والبحر غامض يحتار الشاعر فيه، هل سيقوم بابتلاع جمال الحلم، والقضاء على تجديد الحياة، وسينشر القبح في المكان، أم أنه سيترك المجنونَ في حاله، وستستمر الأحلام وينجو الشاعر من الهلاك.
تحتفي قصائد سعد الدين كليب بالمطر والماء، ولكنّ للبحر حضوراً كثيراً ما يقترن بالحلم، و”بكاء العذاب الجميل”، والنوارس والموج. إذ يحلم الشاعر بالمساء، وينظر إلى الحلم نفسه بجلال، فهو القادر على تخييل ما تفتقده الحياة المحيطة بالشاعر. وعلى خلاف ما يرد لدى قاسم حداد والصائغ، فإن الزورق يسكن الحلم والقصيدة الجميلة والغبطة، حيث رحلة الانتقال إلى السعادة. فالحلم فعل حقيقي، والبكاء هو الطرف الآخر لوعي الحقيقة، إنه ليس وهماً، فالمفردات القبيحة المنفّرة المرادفة لخطر الفناء تحفّ به، من قبيل: النعش، الغثاء، المنهار، الجِراء، الضواري، السيّاف، الأجداث. فالشاعر يعاني من “سيّد الخوف”، الذي يَِظهر البحرُ إلى جانبه بعيداً عن كونه حلماً أو أملاً بالخلاص، بل هو عاصفة تذكّره ببقايا الأخشاب والأضرحة. إنه يدخل عبر القصيدة من الحلم إلى النحيب، فلا يغادر الواقعَ المذلّ.
” زبدٌ يحكم البحرَ ،
والموجُ نصَّب أخشابنا رايةً تائههْ
زبدٌ مارجٌ من رميمٍ وأضرحةٍ
زبدٌ .. يَسْفَعُ الآلههْ ! ” (7)
كما يبدو البحر موغلاً في القسوة، والفقد، حين يصوّر الشاعر نفسه غريقاً، ويخاطب الملاّح بأن يدعه وشأنه، فلا يحاول إنقاذه لأن البحر غادِر، كما هو طيفُ السفائن الغارقة المخادع.
” يا أَيُّها الملاّح ،
إنّي قد فقدتُ الشَّطَّ
لا ترجِعْ إليَّ ، اهربْ
بجلدكَ .. والسفينهْ
إنّي غرقتُ ..
وذي بقايايَ الضريرةُ
فوق أرصفةِ المدينهْ ” (8)
قلّما تظهر الصورة الإيجابية المبهجة للبحر لدى سعد الدين كليب، كما في قصيدتيه “غرفة وحسب” و”غنائية”، إذ يستمر الشاعر بالحلم وتتردد في أشعاره عبارة “دفء الأزقّة”، وهو يحلم بأن يتحول الماء سريعاً في دورته الفيزيائية، فيصبح البحر المالح غيماً مطيراً، وتتحقق أمنياته في غرفة للسكن، حيث يسكن إلى الآمال والأحلام بالجمال البعيد. كما يوجّه خطاب القصيدة إلى مخاطَبة مؤنثة، ويفارق البحر صورته في باقي القصائد؛ فهو هنا موجٌ قوي، ولكنه لا يدمّر الفرح، بل إنه يشْبه المطر في الإيحاء بجمال الورد والرفيف والصباح والعشق الجميل.
” … لها الوردُ ،
والشادن القلبُ ،
والغيث مغرورقاً بالفرحْ
لها الموجُ
يغوي عصيَّ الشراعِ
ويدعوه ..
هلاّ استبحتَ المدى بالرفيفِ
وذرذرتني في قدحْ ! ” (9)
أما الشاعر عدنان الصائغ فكثيراً ما يصوّر ما يجري من منطلق النتيجة، ونقطة النهاية، لا الوسط أو البداية ، فهو صابر على افتقاد الجمال المتمثّل في الورود التي سارع غيره إلى قطفها، وقد عذّبه انتظار الأغصان حتى أزهرت، وانتظار الرايات التي تركه أصحابها على الرصيف وحيداً. ويصل إلى النهاية حيث انتهى انتظاره السفنَ بعودتها، غير أن البحر لم يحمل له البشارة ولا الجمال، بل خلّف في نفسه الخذلان والخيبة، فالبحّارة والمسافرون أنكروه، وحتى إنّ الزنازين التي قرعها حتى فُتحت، أَخرجت من فيها واحتجزته هو. إنّ “البحر يعطي قصصاً قبل أن يعطي أحلاماً”(10)، ويقترن البحر بالخسارة على نحو واضح، ويفارق كل إمكانية للجمال، فحتى الجُزر التي قد يُنظر إليها على أنها أجزاء من الأرض، ومكانٌ يمكن رصد البحر فيه وتأمُّله، تتحول في ذهن الشاعر إلى مجرّد خيبة أخرى، لأنّ البحر مثقل بالعجز، لم ينتصر على شرور الأرض وقبح من عليها.
” الجزرُ
عثراتُ البحرِ
راكضاً باتجاهِ الشواطئ
هكذا تلمعُ خساراته من بعيد ” (11)
ولا ينكر الشاعر أن البحر يمتلك أسباب الحياة، كالأسماك، غير أن الشاعر عاجز عن الوصول إليها، وهو أسيرُ البحر بمعناه الواسع، وكأنه هو الذي مزّق شِباكه ليمنع عنه العيش. وكما لدى قاسم حداد، وسعد الدين كليب، فإنّ الشاعر يعاني من انتشار القبح فيما حوله، ويجد نفسه معذّباً بافتقاد الجمال، يتنقّل من حانة إلى أخرى.
” أتسكعُ تحتَ أضواءِ المصابيحِ
وفي جيوبي عناوين مبللةٌ
حانةٌ تطردني إلى حانةٍ ” (12)
ويقول سعد الدين كليب:
” وذاك الذي آخرَ الليلِ ،
يُسعِف روحي لتنهضَ ،
أسعفه كي يسيرَ ،
ويسعفُنا نادلُ الحانِ
( البابُ يا سيدي من هناكْ ) ” (13)
أما قاسم حداد فيصور المفارقة بين المكان وشاغليه:
” يقفون بين السفينة وثقبها
القصر ومنتهاه
السجن ونزيله
الدولة وعارها
الأمل ويأسه
… … …
… … …
الحانة والكأس المترعة . ” (14)
إن الشاعر عدنان الصائغ يعتمد الصورة الكلية في قصائده، فتظهر عناصر الطبيعة والنفوس البشرية وبعض آثار الإنسانية والحضارة، ولكن ليس أمامه سوى العطش، والجوع، تحتويه الأرصفة، والعناوين التي في جيبه مبللة. وإمعاناً في العذاب والعجز فهو قابع في مياه البحر، ولكنه يشبه باخرة مثقوبة لم تنل غموض الغرق، ولا بهجة الإبحار. وهو مفتقِد كل جمال في حياته، الذكريات والأصدقاء، ولا يملك سوى الكآبة.
” أنا ضجرٌ بما يكفي لأن أرمي حياتي
لأيةِ عابرةِ سبيلٍ
وأمضي طليقاً
ضجراً من الذكرياتِ والأصدقاءِ والكآبةِ
ضجراً أو يائساً
كباخرةٍ مثقوبةٍ على الجرفِ
لا تستطيعُ الإقلاعَ أو الغرق ” (15)
ويَظهر على نحو واضح، اقترانُ البحر بالدموع، ما إن يُذكر البحر، حتى تتبادر الدموع أو البكاء، الطبيعة مقابل الإنسان، والجمود والقسوة مقابل العواطف الحزينة لنفسٍ معذّبة. يتحسر الشاعر على بلاده التي فقد فيها الجمال، فبات من سمات الذاكرة وحدها، إنه داخلَ سفينة، يغادر كل شيء من دون عودة، متجاهلاً الدموع والزنازين واللافتات والنفط والدماء، وكلَّ ما يمكن أن يثير فيه ذكرى للنفور والألم، ومع ذلك فإن الرحيل مقترن بالبكاء والشوق والحزن والحنين.
جماليات النهر والمطر
يتفاوت تأثير النهر والمطر اللذين يعبر عنهما الشعراء أحياناً بمفردة “الماء” اختصاراً، فقد يستدعي الماء حالة الأمل والحلم بكل ما هو جميل مفارق للواقع القبيح، “إن الحدس الحالم بالماء العذب يستمر رغماً عن الظروف المعاكسة. يعطي ماء السماء، والمطرُ الخفيف، والينبوع الصديق الشافي، دروساً أكثر مباشرة من مياه البحار كلها”(16). وقد يكون النهر رمزاً للقسوة والحرب خصوصاً حين تكون الغابة على ضفافه، إذ إنّ للغابة دلالةً أقرب إلى الوحشية، و”رمزاً للموت لأنّ الغابات والأدغال والظلمات تنطوي على رموز إلى العالم الآخر، وإلى الجحيم”(17). ويتقنّع النهر أحياناً بالمرايا في وعي الشاعر، ويبدو أحياناً أخرى سجلاً لتاريخ الوطن، ولخيبات الشاعر الذي كان يعيش فيه، أو بوابة للأمل. وكذلك هو المطر حين يقترن بالنهر أو يليه في قصيدة الشاعر، ليعمّق من إحساس الشاعر بالضياع والفقدان والعذاب، وحالة من الخسارة.
إنّ قصائد قاسم حداد تكثّفُ إحساس الشاعر بالحرب والخراب والقذائف، أمّا الضياء والمرايا المتكسرة فيحضران بوصفهما عنصرين مخاتلين، يُظهران الجمال ولكنهما يبطنان القبح. وكذلك هي الطبيعة قاسية حين يرِد الماء في قصيدة الشاعر، متمثلاً بالنهر؛ فهو ذو نشيج، وهو محاط بالغابات ذات الأنفاس التي توحي بالوحشة والغربة، والتي تحتوي على هاوية تتناثر فيها الجثث. إنه عالم كابوسي يتكرر في قصائد الشاعر، ومن اللافت أيضاً اقتران الأشجار بالوحشية والرعب والأخطاء. إنّ المكان الذي لم يألف الماء يحتوي على سيّدٍ يطلق الطرائد، فالشاعر يعيش في عالم الغابة حيث تُفتقد المياه الأليفة، وتسود ثنائية الفريسة والصياد السيّد ـ مما يذكّر بشخصية السيّد الطحلبي لدى سعد الدين كليب، يقول قاسم حداد:
“لم تزل لأشجارنا طبيعة الوحش
لم تزل شريعةُ الرعبِ فينا
نَشْغرُ الوقتَ بالكتاب ونكبو .
طينةٌ تبرأ
لم تزل هذه الفرائس تهرب
والذي يطلق الطرائد فينا
لم يزل سيداً
عبده سيدٌ في دمانا . ” (18)
وفي قصيدة بعنوان “الغابة” يقترن الماء العذب بالغابة القاسية، التي يتخذ منها قاسم حداد رمزاً للعنف والقسوة والوحشة والوحشية في آن؛ فالماء محروس ومحاط بالنيازك، وليس في الغابة من لغة سوى الفأس والنار والدسائس، والثعالب والفخاخ، حتى إنّ البشر يتحولون إلى قبيح المعاني والصفات، فالصيادون ذوو صلف وخداع، والأنبياء ضحايا الغابة التي تَصلبهم حتى لا تترك فسحة من أي جمال معهود أو مأمول. أما الشاعر فهو يعاني على مدار قصائد عديدة من خسارة الحرب، ومن البيئة المتوحشة، التي تقدِّم ثنائية العبيد مقابل السادة. وتنتشرُ كلماتٌ توحي بالقبح والقسوة، كالصخور، والجنائز والموتى، والأنين والأرامل، أمّا الأحلام بما هو جميل فمجرد أفكار معسولة تُنشبها أظلاف الوعول القاسية، وليس ثمة مجال لجمال الورود.
” تهذي كلما تحشرج عندليبٌ في الفخ
تهذي كلما سَفحَ الماءُ مراثيه ونذوره
لكن
عندما يفقد الجنود غَدّاراتهم
ويخسرون الحربَ تلو الحرب
تبدأ القوافل الرافلة بالعبيد في النزوح .
أفهمُ أن الصخور
لم تكن سوى أنين الأرامل
وكآبة الغريب . ” (19)
وتبدو السجّادة مفردةً تُقابل العشب، فما يصنعه الإنسان من نسيج معقّد، يفارق العشب الذي يرمز إلى بساطة الطبيعة، ولونها الواحد، فالشاعر يقدّم ملمحاً للضياع، ولعدم امتلاك أي جمال، والإنسان مهيأ للذبح ليكون ضحية الوحشية والحرب، ويفتقد كل جمال القصائد والحكايات، وجمال الحديقة ذات العشب التي قَدِم منها، وهو كثيراً ما يعاني من الطغاة، ويلجأ إلى الحانة في محاولة لمواجهة “شهوة الينابيع المحاصرة”، فالأقداح والأنخاب تدل على الهزيمة والعجز وتعزز صور الموت والخراب والقتل والشظايا، مقابل الأمور الجميلة الغائبة كالبياض والملائك والجنّة.
” قادمٌ من الحديقة
أعطيتها تاريخ الماء
ورأيت العشب يكفّرُ عن أحفاده .
زرعتُ بوحشتها حكايات وقصائد
عن أسرى حربٍ ينتظرون على شرفاتي ” (20)
إن الشاعر يتماهى مع حلمه، وتأسره المخيلة، فكأنّ أجواء القصائد كلها مجرّة يكون الشاعر هو الماء فيها. إنّه يلتقي مع عدنان الصائغ في أن السفر يقترن بالبلل، يقول حداد:
” ربما ينهض القتلى بقمصانهم الباهرة
ربما يقرعون أقداحهم ويتبادلون الأنخاب
في صباحٍ مسكونٍ بالضجيج
عندئذ يفقد النبيذ جسارته
ويحاورني مثل رفيقٍ مبللٍ بالسفر
وأعرف، آنذاك، أنني كنت الحلم
وظل الحلم
وأنني ماءٌ في مجرّة القصيدة ” (21)
وفي اتجاه محاولة مقاومة عذابه، ومحاولة التقاط شذرات من الجمال، يجرّب الشاعر أن يقاوم الماءَ ومرآتَه المخادعة، ويصرّح بأن لا أجوبة لديه. إنه يقف على طرف النقيض من الشجرة أو الغابة ـ رمز القسوة ـ وغصونها وأوراقها، ويدعو الريح لأن تأخذ كل ما حوله من قبح. إنه معذّب يأمل برؤية ومضة جمال قبل أن يموت، إنه يرى حياته كأنها ظلّ على الماء، فعلاقة الشاعر بالماء ملتبسة، فالنهر يلتمع ويخادع الناظر إليه بانعكاس الوهم، والنهر أيضاً مجال ممكن للحلم.
” … لذلك برى خشبةً ناعمةً
وبَرَم حبلاً ليّناً
وترك ظلهما يسقط في هدوءٍ
على الماء
ثم استند يشحذ ذاكرته ” (22)
فالشاعر يحلم برؤيا تتجلى فيها الجنة والأسماك والهدايا عالماً من الجمال يمكن أن يقدّمه له النهر، ولكنه يُصدم بالواقع المخاتل الذي ترمز له المرايا والضياء الكاذب، والهرب إلى النبيذ الذي يوصد دونه باب الواقع، فلا يجد سوى النار والغرور والفقد من جديد.
” يحارُ
هذا موكب الأسماك حتى صخرة الجنة
هذي غيمةٌ
يحار ،
لا يسأل
لكن ناره تسرج أجناساً وتستثني
وتختار من الغابات أشتاتاً ” (23)
أمّا الشاعر سعد الدين كليب فيحتفي بالحلم، على الرغم من كل العوائق والرموز القبيحة من حوله، إذ نجد القصائدَ محاطةً بالمذلّة والخوف والبرد، وتبدو عيوب المدينة، فهي تحاصِر الشاعر، ويَبرز كل من “السيّد الطحلبي” والغربان والموت وسلال المهملات والذباب وحشد من الصور الكئيبة الباعثة على النفور.
” والمدينةُ بكماءُ ،
تأكل بالثدي
يلهو بنعمائها فاحشٌ .. وطريدْ
كلُّ شيءٍ كما شاءه السيدُ الطحلبيُّ
كما شيَّدته العظايا النهوماتُ
والأغربهْ
كلُّ شيءٍ كما ينبغي أن يكونَ
ولا شيء يكسر هذا النشيجْ
ثمَّة الطينُ يُحصي بقاياهُ :
عينينِ .. كيما يرى ما يميتُ
يداً أو يدينِ لهشِّ الذُّبابِ
وقلباً ترمَّل كيما يغني
لهذا المكان البهيجْ ..!! ” (24)
ويسائل الشاعرُ اللونَ عن عجزه وسأمه، ويطلب أن ينسلّ الماء من اللون لعلّه يُدخل البهجة إلى المكان المحيط به، الذي يتصوره على شكل لوحة، ويتساءل عن الأريج والغناء والمعاني الجميلة. كما تتجلى المدينة في بعض القصائد بهيئة ضفاف النهر، ومستودع الغيم، ولكن ليس فيها سوى الوهم. إنّ مصدر المطر يقترن بالوهم والخداع، وفي قصيدة “بورتريه” يتفق سعد الدين كليب مع عدنان الصائغ في كره الانحناء والإمّعات، ومع قاسم حداد في افتقاد مباهج الطفولة، المقترنة بجمال الطبيعة حيناً، وبالحلم حيناً آخر. فالعصافير والعشب والورود والأناشيد والأزقة الدافئة والحلوى والأمن، كلها حلم بالطبيعة والواقع الجميل، والتخلص من هاجس الجوع والحاجة والفاقة. أما الجانب القبيح هنا فهو كلٌّ من المدينة والقرية اللتين تبدوان شحيحتين بالأحلام في زمن القحط، وتبدو العجائز في الأزقّة، والغربان والطحالب والريح الفتاكة. أما النهر فهو يجري من دون أن يغيّر شيئاً مما حوله، فتتعزز الدلالة السلبية له في القصيدة، مما يدعو الشاعر إلى أن يحلم بالماء الذي ينعش الحياة ويقضي على القبح المهيمن حوله والعذاب المسيطر على الطفل في قصيدته.
وكثيراً ما تبدو الأنهار على حافة الموت، أما القمر فيذوي. إنّ الصورة قاتمة والغابة ـ كما لدى قاسم حداد ـ تحتوي كلَّ شيء بكآبة وقبح وألم، فالعصافير يقابلها العنكبوت، والحلم عارٍ لا يتحقق، والمدينة لا يتمكّن الشاعر من ألفتها لأنها تخذله، وبدلاً من الجمال يكون القبح والعذاب والبحث عن المجهول سيد الموقف.
” قمرٌ يذوي ، وأنهارٌ تموتْ
غابةٌ تصفرُّ ،
أحلامٌ عرايا
وعصافيرُ تصلّي للجليل العنكبوتْ
أيَّ شيء صِرْتُه
حتى لبستُ الليل في عزِّ الضُّحى
عَمْداً
وقدَّستُ الكآبهْ ..؟! ” (25)
والشاعر يحلم بالمطر الذي يسقي العطاش، ويقضي على هواجس الجثة والطحالب، يحلم بالجمال والأشجار، ينادي “سيّد الماء” وهو يتخيل أن في الماء الحياة والجمال، ولكنه يحصد الصور القاتمة حيث الموت، والجثة ـ كما لدى قاسم حداد وعدنان الصائغ ـ والخوف والذلّ وصحراء الصمت، والثعالب. أما “شيخ اليعاسيب” فلقبٌ يتماهى معه الشاعر، فلا يملك التصدي للطبيعة والجفاف. وكما لدى عدنان الصائغ أيضاً، تبدو القصيدة مخاتلة، يقول سعد الدين كليب:
” تجيء القصيدةُ موصودةً بالتقاريرِ ،
مضفورةً بالحديد المذهَّبِ ،
تدخلني خلسةً
أفتديها بصمتي
وما ملكتْ مقلتاي من الخوفِ
ما قد كنزتُ من الذُّلِّ ،
في روحي التالفهْ
تجيء القصيدةُ ،
تدخلني خلسةً
أحتمي بالبكاءِ .. وأُصغي إلى موتها
كلْمةً .. كلْمةً
ثمَّ تتركني جثَّةً .. واجفهْ ” (26)
وهي تمضي نحو الموت الذي يوازي موت الشاعر بموت ما كان جميلاً فيه يدفعه للحياة. ومع ذلك، يحاول الشاعر ـ على قلّة ـ أن يدمج الصورة السلبية المؤلمة للنهر في صورة الأمل والحلم، ففي قصيدة “رجل وامرأة” يشير الغيثُ والندى، والزبدُ والمجاذيفُ إلى بيئةٍ من الأنهار والمطر، مما يجدد روح الشاعر، ويدفعه إلى الأمل بالحياة مع العشب واللون والمرأة، فهما ضوءان ـ حيث الضوء ملمح جميل في القصيدة بما يختلف عن قاسم حداد ـ وليس ثمة مجال للمخاتلة هنا، بل مساحة واسعة للحلم والرغبة في الهرب والخروج إلى واقع جميل مشتهى؛ مغادرة قبح الحريق والطعان والأنشوطة والنزيف، نحو جمال الهديل والعصافير وشجر السرو والطبيعة التي تبدو وديعة حين تقترن بالماء ـ ويختلف هنا عن الطبيعة لدى قاسم حداد، ويتفق مع عدنان الصائغ في تقنيات الحلم ودلالاته. وفي قصائد تالية من الديوان يفتقد الشاعر الجمال في الوردة والياسمين، ويعاني من البرد والهشيم والفجيعة والطحالب في صورة قاتمة قاسية ـ وتعود مفردة “السيد” ليعاني الشاعر من “السيّد البهلوان” الذي يجعل المهرجان ستاراً. ولكن ـ مع ذلك ـ يحلم الشاعر بالغيث، وبأمّه الأرض أي بالجمال والحياة.
كما وجدنا لدى قاسم حداد وسعد الدين كليب، فإن البلل يصيب القصائد، ويتسلل الماء ليدمّر ما هو جميل في الأيام القديمة التي يرغب الشاعر في استعادتها، مثل طُرُقات الطفولة، وحقائب الفتيات اللامعة، والكرة الصغيرة. وكذلك فإنّ المرايا المتعاكسة مخاتلة، فهي تُظهر للشاعر أثر الزمن في وجهه، وهو الأثر الذي لا يرغب في إدراكه لأن فيه وعي معاناته الطويلة، فمع بداية القصائد يُطرد الشاعر تحت وطأة المطر الذي يشبه السياط، وكان ورق الخريف إيحاءً بالذبول ونهاية للجميل، لتبدأ رحلة العذاب التي تتخللها الدموع والوحدة والاغتراب الطويل، فكأنّ سجن المكان باقٍ لم يختف.
” أيها القلبُ الضال
يا مَن خرجتَ حافياً ذاتَ يومٍ
مع المطرِ والسياطِ وأوراقِ الخريفِ
ولمْ تعدْ لي
سأبحثُ عنكَ
في حقائبِ الفتياتِ اللامعةِ والمواخيرِ ومحطاتِ القطاراتِ
حافياً أمرُّ في طرقاتِ طفولتي
وعلى فمي تتراكمُ دموعُ الكتب والغبار ” (27)
وتتكرر سمة إحساس الشاعر بالاحتجاز ضمن إطار الماء، وعدم القدرة على الفعل، إنها حالة من العجز، والتأمل السلبي، حيث يتحدث الشاعر بضمير الجمع:
” نلوبُ بزعانفنا في طياتِ الماء
الهواءُ يختنقُ بنا
والجالسون أمامَ زجاجِ حوضِنا الأنيقِ
ينظرون بلذةٍ لشهقاتِنا الملونةِ وهي تخبطُ السديمَ
بحثاً عن بقايا الهواء
نحن الأسماك المحاصرة في حوضِ الوطن ” (28)
وفي صورة مشابهة ليس ثمة سوى الزعانف وطيّات الماء، والشهقات، في عالم من الألم. أما الألوان فليست سوى مظهر خادع برّاق يشبه ما لدى قاسم حداد من مخاتلة المرايا، تنم على موت وشيك وجمال مفتقد غائب. وكثيراً ما يقرن الشاعر الخيبة بالاستسلام، فهو يرى التاريخ أخيراً أشبه بالنهر الذي يَشهد الأحزاب والجنرالات وجسور الأرياف، ولا تتبقى منه سوى موجات المياه يتأملها الشاعر ومن شابهه من الحالمين.
” ونحن نتأمل خريرَ مياهِ التاريخِ
ونبتسمُ بعمقٍ
لأمواجِهِ التي ستتكسرُ عما قليلٍ
أمامَ صخورِنا ” (29)
***
وفي نظرة إلى الشعراء الثلاثة، نجد لدى كلّ منهم قصيدة مفتاحية تكثّف صلة الماء بكل ما يحيط بالشاعر في القصيدة، وما يجول في وجدانه من انفعالات أملاً وحزناً، وإحساساً بالجمال أو هرباً من القبح، أو ألماً من عذابٍ يترصّده أو يعاني منه.
إذ نرى في قصيدة “الأنخاب” لقاسم حداد ذاتَ الشاعر تتماهى مع شخصية الحسن بن الهيثم، فتبدو لنا ثنائية الماء والضياء، وتظهر مرادفات الضياء في عدة مفردات، فهو النار والشمس والفضة والبريق، أمّا صلة الوصل فهي المرايا التي تعكس نور الشمس. “إنّ من يلعب بالنار يُحرق نفسه، يريد إحراق نفسه، يريد أن يحرق الآخرين. ومن يلعب بالماء الخادع يغرق، يريد أن يغرق”(30)، وهنا يظهر سعي الشاعر إلى الجمال، ولكنه جمال مُفتقد غير حاضر، ولذلك فإن طريقة الحصول عليه ليست سوى حيلة لمخاتلة الضوء، ولاختلاس لحظات عابرة تشبه السحر. فالحسن بن الهيثم ـ عالم البصريات الشهير ـ بحسب القصيدة هو “ساحر المرايا” القديم، والشاعر هو ساحرها الجديد، يستحضر الحسنَ بن الهيثم، ويتراءى له النهر مرآة كبرى ممتدة تعكس النور الجميل الموحي بالحياة، ليغطي قبح الجثة التي يتصورها الشاعر، ولعلّها جثّة نفسه المثقلة بالمعاناة.
” والمرايا في دورةٍ في دُوارٍ
له الطريق خطيئة الأرض
نهراً يراهُ
يفضّضُ الجثةَ كي تُحسنَ الحلم
والماءُ زينة المرايا ” (31)
إنه يغطيها بالحُلم الذي يشبه الفضّة ـ وتبرز الفضة في قصائد كثيرة لقاسم حداد في هذا الديوان وغيره بوصفها لوناً متموجاً مفارقاً لنمطية الألوان الأخرى في الطبيعة خصوصاً، فـ”حين نتأمل العالم المرصع بالنجوم في الأمواج، فإنه يرحل على غير هدى. إن الومضات التي تمرّ على سطح المياه مثل كائنات لا عزاء لها؛ إن الضوء ذاته قد غُدر به، قد استُخفّ به، نُسي”(32)، لذلك يمضي الشاعر في تقصّي شراب يشابه الماء في انسيابه وتواصله مع أحلامه: الزجاجة والسُّكر، وشغف النار. إنه يَدخل في خندق ذاته، يتطلع إلى الضوء ويشرب نخب الشمس، فالنهر هنا يقترن بالحلم وبالرغبة في حياة أخرى مختلفة جميلة مفارقة لقبح الواقع.
أما قصيدة “مذكرات مجنون” لسعد الدين كليب، ففيها تلتقي حال الشاعر بحال قصيدة قاسم حداد، فهو يقابِل بين القبيح والجميل، ويتخذ من مفردات السكر والحانات والبكاء وسيطاً للمرور بين مفاهيم الجميل والقبيح، بين الطفولة والشباب. ويؤدي استذكار سمات الماء إلى وعي الشاعر عمقَ أزمته ومعاناته التي لا يبدو أنه يستطيع الخروج من وطأة الواقع فيها، إذ “إنّ تباشير المطر توقظ حلم يقظة خاصاً، حلم يقظة نباتية للغاية، تعيش حقاً رغبة المرعى في المطر الخيّر. وإنْ الإنسان، في بعض الأوقات، إلا نباتٌ يشتهي ماء السماء”(33). ففي الطفولة كانت البراءة، وجِدّة استكشاف العالم، وإدراك قيمة هطول المطر، وترقّب عطاء الغمام، وأغاريد الروح بالمطر، ومن ثمّ الحصاد في الريف، وعبق أزقّة المدينة بالياسمين، وزهوّ أحيائها بالقمر، وترقّب الفجر بما يحمله من قيمة الجديد الجميل الذي يعني الحياة، ويقرّب الشاعر من صيغة التجدد والنماء.
” تجيء الغماماتُ من آخر الأفقِ ،
ريّانةً بالأغاريدِ
تأتي الأغاريدُ من أوَّل الماءِ ،
مسكونةً … بالحصادْ
وتغتسل الروح بالغيثِ ،
يبتلُّ شَعْر السنابلِ ،
تزهو القُرى والأزقّةُ :
( فالعامُ عامٌ مطيرٌ
ولا خوفَ من مَرَضٍ أو جرادْ ) ” (34)
يستعيد الشاعر طيش الطفولة والحماقات على هيئة حلم مقابل قبح الواقع، ففي واقع الشاعر ليس ثمة ماء أو مطر، بل مفردات مضادة لها، ولكل ما رافقها من أدلّة الجمال. إذ نجد الشاعر محاطاً بابن آوى، والذئاب، بدلاً من الورود والقصائد، إنه يفتقد أمه الأرض وفصول السنة، يعاني من النحول والذبول. ويفقد كنوزه من الأيام الجميلة، فلا يعيش سوى حالة من العذاب لا يستطيع الخروج منها. بدلاً من المطر ثمّة النار، والجوع، والعطش. وبعد أن كان الشاعرُ “سيدَ الوعد”، نراه الآن يعاني من “السادة الجوف”، و”السيد الطحلبي” ـ الذي يرِد في عدة قصائد داخل الديوان نفسه ـ بما في مفردة الطحالب من اللزوجة المنفّرة، وإيحاء الانزلاق وإعاقة التمسك بموضع الماء والحياة. والشاعر محاصَر بالدم، والعنف، والسباب، وبالناس المتحوّلين من قيم الصداقة إلى الخيانة والخذلان والاغتيال. لقد خاب أمل الشاعر في المدينة التي تراءت جميلة في السابق بوعود الشباب والياسمين والقمر المنير والغيوم الجميلة التي تعِد بالمطر، واختُصرت الآن إلى مواخير ومصرف أجنبي ومجرّد مزاد تباع فيه القيم، ويبقى فيها الشاعر وحيداً يعتزل القبح، لكنّه معذّب لا يدرك الجمال الذي يسكن زمناً آخر. ومن اللافت أن صورة المدينة في شعر سعد الدين كليب مرادف لخيبة الأمل والضياع والمستقبل المجهول، حيث الشاعر ضحية الحنين إلى جمال غائب غير موجود.
” ولكنّه المحلُ ..
في معطف السيّد الطُّحلبيِّ
أراهُ يسوقُ الغماماتِ والزهوَ ،
إنّي أرى :
غيمةً أُزْهِقتْ في المواخيرِ ،
أُخرىْ تُسجِّل في المصرف الأجنبيِّ ،
وثالثةً هُرِّبت
عن طريق المزادْ
أرى غيمةً ضحلةً ،
قد تعاورها السّلُّ ،
أفتى بها السيّد الطُّحلبيُّ ..
لكلِّ العبادْ ! ” (35)
أمّا في المقطع السادس عشر من قصيدة “أوراق من سيرة تأبّط منفى” لعدنان الصائغ، فيعاني الشاعر من حياته ومن مماته، فهو يتصوّر نفسه تارةً جندياً وحيداً جريحاً، وتارة جثّة ـ كما في قصيدة قاسم حداد ـ يُسرق منها كل ما هو جميل من قصائد.
” ليس لي غير الحبرِ والسلالمِ والأمطارِ
سائراً مثلَ جندي وحيدٍ
يجرُّ بين الأنقاضِ حياتَهُ الجريحةَ
لا أريدُ أوسمةً ولا طبولاً ولا جرائدَ
أريدُ أن أضعَ جبيني الساخنَ
على طينِ أنهارِ بلادي
وأموت حالماً كالأشجار ” (36)
ومن نهاية القصيدة نعود إلى أوّلها، ففي النهاية يختتم الشاعر بأمنيات الحلم، ويتشبّه بالأشجار ويرغب في العودة إلى أنهار بلاده، وطينها، إلى الأرض التي أُرغم على الخروج منها إلى المنفى. فالنهر تجلٍّ مائي مركزي في القصيدة، حين يتمثّل الوطن بنهر، أو بالأمطار التي لا يملك الشاعر غيرها من مظاهر الجمال المُفتقد.
فكلّ ما كان جميلاً في حياته غائب، كالحبر والسلالم، أو منفصل عنه. فحين يتصور نفسه جثة، يعاني من عدم الاكتراث إذ تشيح الفتيات عنه بأبصارهن، ولا تنعاه مئذنة، ولا مشيّعون. لقد تمّ إقصاؤه عن أي مظهر احتفالي جميل أو جليل يليق بالموت، بل إنّ الجمال الذي يصنعه بنفسه يقابَل بالقبح والنكران والأذى؛ الورود والقصائد تُقابل بالطعن والغدر والوشاية، والسرقة والانتظار، ويتوغّل القبح المقترن بالعنف ليُباح دمه على الرصيف ذاته الذي كان رصيفاً لقصائده. إنّ مفارقات القصيدة والغدر تشْبه ما يرد لدى الشاعر سعد الدين كليب، كما أنّ الدم مقابل الماء يوافق الصورة المؤلمة العنيفة لدى قاسم حداد، غير أن المفارق هنا هو أن الشاعر لا يكتفي بعذابه، ويتلقّى الطعنات، بل إنه يواجِه بأضعف ما لديه: القهقهات، والشتائم، يطلقها ضد الظلم، وكل ما هو قبيح، ويتمسك بالماء والنهر الجميل رمزاً للوطن الذي يحبه لأنه مكان نشأته وقصائده.
الهوامش:
(1) غاستون باشلار، مقالات، ترجمة: سلام عيد، وزارة الثقافة، دمشق، 2006، ص65
(2) نفسه، ص67
(3) نفسه، ص90
(4) قاسم حداد، عزلة الملكات، أسرة الأدباء والكتّاب، كتاب كلمات[3]، البحرين، الطبعة الأولى، 1991، ص22
(5) نفسه، ص64
(6) جورج سانتايانا، الإحساس بالجمال، ترجمة: د. محمد مصطفى بدوي، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2001، ص318
(7) سعد الدين كليب، وأشهد… هاك اعترافي، دار الينابيع، الطبعة الأولى، دمشق، 1993، ص51
(8) نفسه، ص78
(9) نفسه، ص80
(10) غاستون باشلار، الماء والأحلام ـ دراسة عن الخيال والمادة، ترجمة: د.علي نجيب إبراهيم، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، 2007، ص221
(11) عدنان الصائغ، تأبّط منفى، دار آفاق، الطبعة الثانية، القاهرة، 2006 (صدرت الطبعة الأولى عن دار المنفى، السويد، 2001)، ص46
(12) نفسه، ص73
(13) سعد الدين كليب، وأشهد… هاك اعترافي، ص62
(14) قاسم حداد، عزلة الملكات، ص26
(15) عدنان الصائغ، تأبّط منفى، ص74
(16) غاستون باشلار، الماء والأحلام، ص226
(17) ميرسيا إيلياد، الأساطير والأحلام والأسرار، ترجمة: حسيب كاسوحة، وزارة الثقافة، دمشق، 2004، ص301
(18) قاسم حداد، عزلة الملكات، ص18
(19) نفسه، ص24
(20) نفسه، ص59
(21) نفسه، ص13
(22) نفسه، ص34
(23) نفسه، ص38
(24) سعد الدين كليب، وأشهد… هاك اعترافي، ص19
(25) نفسه، ص33
(26) نفسه، ص40ـ41
(27) عدنان الصائغ، تأبّط منفى، ص85
(28) نفسه، ص29
(29) نفسه، ص19
(30) غاستون باشلار، مقالات، ص77
(31) قاسم حداد، عزلة الملكات، ص28
(32) غاستون باشلار، مقالات، ص85
(33) غاستون باشلار، الماء والأحلام، ص224
(34) سعد الدين كليب، وأشهد… هاك اعترافي، ص59
(35) نفسه، ص60
(36) عدنان الصائغ، تأبّط منفى، ص91
* أديبة وأكاديمية من سوريا