مسلسل لعبة الحبار: الدراما الكورية… وعوامل الاكتساح

*رامي أبوشهاب

يرى الفيلسوف الألماني نيتشه أن دراسة الظواهر الهامشية، أو قليلة الشأن يكاد يحتمل قدراً من الجدوى يفوق دراسة الظواهر الفكرية الكبرى، ومن هنا، يجب أن نتحول إلى دراسة الأحداث ذات التأثير الحقيقي على حياتنا أو وجودنا اليومي، ولاسيما تلك التي تتشكل بصور ثقافية، من منطلق أن كل ما يتصل بوجودنا الواقعي ليس له حقيقة تمثيل تاريخي، كالحب والحسد والقسوة، وغير ذلك.
ولعل التمثيل الذي يتأتى لوجودنا عبر السينما والأدب، كما الفنون عامة، يحتمل قدراً كبيراً من التفسير التاريخي الفلسفي لتكويننا العميق والحقيقي، وهنا تكمن أهمية النظر لهذا التمثيل بوصفه جزءاً من العوامل التي تصوغ وعينا، فربما تجلب رواية ما أو مشهد في فيلم تحولاً عميقاً في رؤيتنا، أو يكشف عن العديد من الادعاءات المضمرة في دواخلنا، ومؤخراً بدا المسلسل الكوري الجنوبي الذي حمل عنوان لعبة الحبارSquid Game جزءاً من تاريخ تلك الظواهر التي اكتسحت حياتنا اليومية، والتي على الرغم من هشاشتها، إلا أنها سوف تبقى مسكونة بوعي متغاير، تبعاً لرؤيتنا إلى ذاتنا في مواجهة أسئلة الاختيار، وما يكمن في داخلنا من هواجس، قد تبدو تافهة من جهة، أو قد تبدو على قدر كبير من العظمة من جهة أخرى، من هنا ينبغي أن نقرأ هذا المسلسل ضمن ظاهرتين: الأولى البحث عن أسباب هذا الاكتساح الهائل إلى حد الهوس، والثاني البحث عن العوامل الحقيقية لتكوين خطابه، عبر الاستناد لمقولة فكرية حقيقية، أو البحث عن تجسيد المتعة الدرامية عبر الولوج إلى النوازع العميقة للنفس البشرية، وارتهانها لفكرة المقامرة، وجاذبية الإثارة في حياة فقدت قيمتها، أو أهميتها، بعد أن سكنها عبث، وتشاؤم وجودي عميق.
في البدء يبدو المسلسل تكريساً لنزع أو كبح مركزية الأعمال الأمريكية على منصات المشاهدة، فقد أتاحت منصات البث الرقمي تنوعاً واضحاً للاطلاع على أعمال البلدان والثقافات الأخرى، في لمحة نصفها بأنها ذات طابع ما بعد حداثي، كما أن ذلك يعني بصورة أو بأخرى القدرة على تمكين خطاب قادر على الوصول لقطاعات واسعة، ما يقودنا إلى البحث عن كوامن هذا الإقبال، الذي تجاوز الحدود ليكون المسلسل الأكثر مشاهدة في التاريخ؟
لعل قيمة المسلسل تكمن في فكرته الأساسية التي انطلقت من عنوان يبعث على التساؤل، ففكرة اللعبة ترتبط برغبة الإنسان بالتسلية، كما المتعة، وفي بعض الأحيان المغامرة والحظ، كما الفوز والخسارة، إذن هكذا تتحدد ملامح الدلالات التي تؤدي إلى المقصد، ومن ثم يتعاضد ذلك مع المضاف إليه كلمة الحبار، وهو كائن ينطوي على دلالات كثيرة من حيث الشراهة والحجم، كما الذكاء الذي يتمتع به، إلى حد أن بعض الثقافات تؤسطره، بالتجاور مع اتصاله بلعبة أطفال شائعة تعتمد الدفاع والهجوم، لكن الجزء الأول من المسلسل يبقى جزءاً من مقولة ربما تتعزز في الأجزاء الأخرى، لكن يمكن أن نحدد الطيف الدلالي، عبر الانطلاق من قراءة التكوين الثقافي الذي ينهض عليه المسلسل.

المكون والإحالات

تبدو الصورة الأولية للجزء الأول قائمة في دلالة متخيل يسكن وعي البعض حول كوريا الجنوبية، التي شهدت تحولاً في بنيتها الحضارية، لتصبح إحدى القوى الاقتصادية الكبرى، على الرغم من رخاوة موقفها السياسي والعسكري، وارتهانها للهيمنة الأمريكية، مقابل جارتها القوية كوريا الشمالية، وهنا تبرز ثنائية الفقر والغنى، الضعف والقوة، وعلى ما يبدو فإن المسلسل ينهض على تجسيدٍ لمضمر، حيث توجد حيوات تعاني من الفقر والتهميش، وهنا تبرز قدرة صانعي المسلسل عن التعبير عن هذه القضية في بلد يمتلك مؤهلات اقتصادية عظمى، وهذا يقودنا إلى مقارنة الإنتاجات العربية التي تعيش في عزلة عن الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، على الرغم من أن معظم بلداننا يعاني من أحوال حضارية سيئة. ومن العناصر التي ساعدت على انتشار المستوى السيميائي الذي يحتقن فيه المسلسل، ليصبح نوعاً من الهوس في القدرة على تفسير الإشارات والرموز، كالبطاقة، وظهور الأشكال الهندسية: الدائرة والمثلث والمربع، بالإضافة إلى اللاعبين وعددهم (465) لاعباً، مروا بالعاملين في اللعبة، حيث الدائرة بالنسبة للعاملين تعني الأقل مرتبة، والمثلث للجنود، والمربع لمن هم في موقع القيادة، كما ترمز الأشكال أيضاً لدلالات أخرى، فالمثلث يظهر عند بقاء ثلاثة لاعبين تجمعهم علاقة جدلية، والمربع ينطوي على توازن، والدائرة لا تحتوي سوى على مركز واحد، كما تبقى الألوان جزءاً من تقاطعها مع رمز الدائرة القائم في علم كوريا الجنوبية، كما بروز اللون الأحمر، وكما هو معلوم فإن المشاهد يميل إلى هذا النوع من الألغاز، إذ يثير لديه نسقاً من الحماس لطبيعة الغموض في تكوين الحبكة، واتصالها مع هذه المستويات، والأهم محورية الخروج من اللعبة عبر الموت، وهو قرار لا يحتمل التفاوض، ومن ذلك جزئية الأقنعة، والسرية التي تحيط بمستويات اللعبة كافة، ما يعني تضمين نموذج من إدراك حساسية التوظيف لفضول الإنسان، لكن بعيداً عن المبالغة أو التضخيم الذي يمكن أن نراه في أعمال أمريكية مماثلة.

خطاب الغاية

ينهض المسلسل على خطاب يرى أن الإنسان لا يحكمه موقف أخلاقي، ووجوده يرتهن للعبة الربح أو الخسارة، فالتضحية بالمجموع مقابل الفرد، يتصل بالرؤية النيتشوية، وهذا ما نراه عبر ما تقوم به الشخصيات في إحدى الألعاب، ومن ذلك التضحية بالصديق أو المجموع، من أجل الوصول إلى الفوز، أو الخلاص، بالإضافة إلى تجنب مصير الموت، والحصول على المال، وفي موقف أراه الأكثر قدرة على عكس بعض مقاصد المسلسل، وأعني اللقاء بين الشخصية (المحورية) الرجل الذي ينتمي إلى مرجعية غير مثقفة، واسمه «سيونغ جي هون» بوصفه شخصا فاشلاً، مع الصديق المثقف «تشو سانغ وو» الذي تعلم في جامعة سول، ليتضح لنا بأن الإنسان لا يتحدد جوهره عبر ما نراه، أو لا يتحقق عبر كتلة من المظاهر الخارجية، إنما عبر التجسيد الحقيقي الذي ينهض على الموقف الأخلاقي كما يجسده بطل المسلسل في الكثير من المواقف، حيث نلاحظ أن بناء شخصيته، بدا مقنعاً من ناحية درامية، ولاسيما تحولاته، فكلما مضينا في تتبع الحلقات سنشهد تحوله من رجل مأزوم على صعيد عمله، وحياته الاجتماعية، إلى شخص قادر على الخروج من الأزمات عبر اتباع حدسه، وقيمه، وهذا ما يجعله على اتصال مع مبتكر اللعبة، أو مصممها الرجل العجوز، الذي أراد شخصا مختلفاً عن الآخرين ليلعب معه، ولعله أدرك حقيقة «سيونغ جي هون».
في قراءة للصورة الكلية نرى أن من أوجد اللعبة (الرجل العجوز) ينطلق من تصور مغاير للمتوقع، فاللعبة ربما تكون للتسلية، لكنها تنطوي أيضاً على مدارك فلسفية أخرى، ربما يتضح قسم كبير منها في الأجزاء المقبلة، ومع ذلك فإن العجوز الذي تتكشف حقيقته في الحلقة الأخيرة من الجزء الأول، ينطلق من رغبات في استعادة الماضي باللعب، وهنا نقرأ اللعب في إطار فلسفي كونه يناقض معنى الضجر الوجودي، ولاسيما في عوالم الأغنياء من خلال لعبة الموت التي تثير حماساً غير مسبوق، وهنا نلمح مازوشية بارزة، فضلاً عن تصوير الضيوف الراعين للعبة بمستوى لا قيمي، ومنها المثلية، وهكذا تتحول حيوات هؤلاء الذين سحقهم المجتمع إلى تسلية للبعض الآخر، لكن الأهم.. هل ثمة مبعث أو مقاصد أخرى لهذه اللعبة؟ في أحد المشاهد نلاحظ أن الرجل المسؤول عن مركز اللعبة، أو المقنع باللون الأسود – وهو أحد الفائزين السابقين باللعبة – يضحي بشقيقه (الشرطي) من أجل استمرار اللعبة، كما نرى دلالة على وحشية الإنسان، عبر تجارة الأعضاء من قبل اللاعبين، وهنا تبدو كل المستويات تؤيد فكرة الغاية تبرر الوسيلة، على الرغم من بروز فكرة العدالة، حيث يصرّ قائد اللعبة (المقنع باللون الأسود) على قيمة المساواة، من منطلق أن هؤلاء المشاركين لم ينالوا في مجتمعاتهم فرصة للحصول على ما يريدون ضمن تكوين عادل أو يراعي المساواة.

هل يمكن أن يطرح المسلسل في أحد أبعاده الأكثر عمقاً أسئلة تتعلق بفكرة الاختيار؟ في المرحلة الأولى من عملية اللعب، أنهى العجوز اللعبة تبعاً لرأي الأغلبية، وهكذا ثمة تكوين ديمقراطي، لكن اللاعبين الذين ينسحبون سرعان ما عادوا للمشاركة باختيارهم، أو دون إكراه، كما وقعوا على الشروط الثلاثة، فاللاعب لا يمكن أن ينسحب بشكل فردي، وعليه أن يلتزم بشروط كل لعبة، وهنا تكمن حساسية فكرة التصفية الجسدية عند الخسارة، وهي رسالة تبدو حساسة، كونها تجسد فكرة الحياة برمتها، فنحن في تكويننا ومسلكنا في رهان مستمر، وعلى الإنسان أن يقاوم كي يستمر في الحياة، بل أن يتجاوز مواطن ضعفه، وأوهامه، وألا يثق بالآخرين.

إنها خلاصة نظرية النشوء والانتخاب الطبيعي، ومقولة الرجل السوبرمان كما ناقشها نيتشه، لكن هل يمكن الالتزام بقدرة هذا التحليل على تحقيق ذلك! معظم الشخصيات التي مارست فكرة إفناء الآخر، بما في ذلك الصديق أو الحليف السابق، كما جسدتها علاقة الشاب المتعلم مع المهاجر الباكستاني «علي» الذي خُدع من قبل من كان يثق به، وعلى الرغم من كل محاولات تأويل التصرف غير الأخلاقي، ومن ذلك قتل الفتاة من كوريا الشمالية، والصديق الباكستاني، فضلاً عن التضحية باللاعبين، سوى إن ذلك يعني تجسيداً للذاتية المتأصلة في داخل الإنسان للبقاء على قيد الحياة، والفوز، في حين أن شخصية الشاب الآخر «سيونغ جي هون» بإصراره على موقفه القيمي تمكن من أن يفوز، ويخرج من اللعبة، وهو يحمل المليارات، لكنه خرج معطوباً نفسياً، وقيمياً وأخلاقياً، إذ لم يتمكن من التمتع بالمال، إنما على العكس، تسبب المال بتعاسة أشد من التعاسة التي كان يعاني منها حين كان مفلساً وفاشلاً، غير أنه خرج بخلاصة تتمثل بأن أمثاله في هذا العالم ليسوا سوى أحجار على رقعة شطرنج يتحكم بها الآخرون.
إن الهوس العالمي بهذا المسلسل الذي يتمثل بالتحليلات، وتداول مشاهده، ورموزه يبدو تجسيدا للبحث عن محاولة سد فراغ في محاولة فهم العالم كما عدميته، ولهذا بات هذا التعلق جزءاً من لعبة صانعي الترفيه، على استثارة المخيلة التي أشبعت بالأعمال الفنية التقليدية عبر البحث عن نمط مغاير، لاسيما تجاوز البعد القائم على التقنية، والنموذج العاطفي، أو الخيالي المستهلك، فالعمل في ظاهره بسيط، لكنه كان قادراً على تحفيز الوعي، والعقل، مع ربط ذلك بجوانب تبدو ذات طابع إنساني، وهنا نلاحظ أن قيمة المسلسل تتحدد بقدرته على جعل الإنسان محور الفعل، بتعالقه مع النظام المستتر، لاسيما معاناة الأول، وأسئلته القيمة، لكن الأهم تعرية دواخله؛ ولهذا تبدو عملية التكميه والكشف ثنائية واضحة في تكوين العمل على الرغم من طابعه التشويقي، لكنه من ناحية أخرى يعرّي الذات من الداخل، ويكشف عن نوازعها الأكثر قتامة وتشوّهاً.

كاتب أردني فلسطيني

(عن القدس العربي)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *