قراءة أولى في رواية ” حبيبتي السلحفاة” للروائي محمود عيسى موسى

ثقافات – ميس الطحان

قبل أن تشرع في قراءة هذه الرواية، عليك في البدء أن تعلن لنفسك بأن هذه الرواية كتبت لكي تعاش، لا لكي تقرأها وتمضي قائلا: هأنذا انتهيت من إضافة كتاب الى مكتبة معرفتي.

حدث معي مرتين في تاريخ قراءاتي، أن عشت الرواية في واقع مواز تماما للواقع، أجلس فيه في فواصل اليوم مع الكاتب على طاولة قهوة أو شاي ونمارس طقوس اليوم، فيما الكاتب يسرد تماما كما يسرد شخص سيرة حياته لصديق أو ابن أو أخ أو شخص يعتني الكاتب به، درجة أنه يخصص له من يومه كل هذا الوقت، لكي يخصه بهذا الكم من تذكر تفاصيل التفاصيل، بدقة متناهية.

 وإذا كان مجموع الوقت الذي قضاه كل من قرأ الرواية مجتمعين شاسعا، فلم يكن وقت الكاتب بأقل منه اتساعا وطولا وشسوعا أثناء الكتابة، فهو قد خصص لكل قاريء على حدة من الوقت كما خصص القراء مجتمعين من وقتهم، وبهذا يتكافأ الوقت رغم عدم التقاء الوقتين زمنيا، يتكافآن في حساب المدة النهائية، ويمكن لصوت أن يقول بأن هذا يحدث في كل الروايات التي نقرأها، وأجيب: بلى هذا صحيح، لكن لا يحدث أنك تستطيع أن تدخل في زمن الروائي، وتعي حضوره في السرد  كأنه هذه اللحظة بشحمه ولحمه يحدثك، وينحني عن انسكاب السرد قليلا ليغني لك مقطعا مرتبطا من أغنية، أو كجملة منفصلة معترضة  حديثه يقول مثلا شعبيا، أو بيتا من الشعر، أو جملة ساخرة مستوردة من إحدى المسرحيات الكوميدية، ذلك شيء لا يحدث إلا بالحضور الكامل للكاتب حضورا وجوديا، لا أدبيا داخل روايته.

وأكثر ما تشبهه هذه المعايشة “الرواية”، تشبه ميكانيزم الذاكرة في العمل، فالذاكرة لا تأبه كثيرا للترتيب الزمني للأحداث، أو لأعمار شخصيات الحادثة، أو مدى موضوعيتها في حدوثها وفق سياقها الزمني الخاص، بل كل ما تنتبه له هو العواطف المحتشدة في الحوادث، لا شيء آخر سوى أن السيد محمود كان يتذكر، وفتح ذاكرته على مصراعيها بفوضاها الزمانية والمكانية أحيانا، بأحلامها وأساطيرها وسلحفاواتها، بضعفها وقوتها، باعترافاتها المجردة الجريئة، دونما تجميل .. هكذا .. ذاكرة عارية من كل شيء توصلنا للحقيقة العارية النبيلة لمعنى أن نكون بعري كامل داخل حيواتنا الشخصية .. فمن يجرؤ على البوح؟

وكون الرواية كتكنيك مبنية على ميكانيزم التذكر أو طبيعة عمل الذاكرة في عملية التذكر، فإن تأثيرات هذه التقنية صنعت من البناء الروائي حالة تجريبية متفردة ومنفلتة من أشكال البناء الروائي التقليدية والكلاسيكية وحتى الحداثية، في وقت بتنا نحتاج لابتكار أنماط بناء جديدة في الفنون كافة، كما في الشعر والقصة القصيرة  وكل الأشكال الأدبية الكتابية، كذلك في الموسيقى والتشكيل والتصوير، وحتما، في الرواية الأكثر امتدادا وربما صعوبة في التجريب، وأعود للحديث عن عملية التذكر، حيث تعمل الذاكرة بتقنية كابوسية تماما، تقدم أحداثا متأخرة وتؤخر أخرى، وتربط شخصيات الحياة بروابط سحرية، ولا تعبأ كثيرا بالترتيب الزمني للأحداث، ولا تكترث بتوقيت وعمر شخصياتها، أو المدة الزمنية التي استغرقتها الشخصية في حادثة ما، في الذاكرة .. لا زمن ولا عمر ولا مكان .. الذاكرة محض عاطفة تسرد، وأجزم بأن الكاتب صنع هذه التقنية داخل الرواية بوعي كامل بربطه السرد بماكينزم عمل الذاكرة، وعلى هذا عشرات الأدلة.

ما لم أستطع الإفلات منه شخصيا!  .. هو جمع زمني بزمن السرد، وعشت مع الكاتب زمن القراءة بصوته الحي، حول طاولة كما ذكرت سابقا، ولم يحدث هذا الأمر بي من قبل سوى في كتاب: “هوذا الإنسان ” لنيتشه، حيث الكاتب دما ولحما يتحدث ويتذكر ويسهب في سرد مفاهيمه عن قضايا الحياة الكبرى، وعن ذكرياته الحميمة الصغيرة، السرية منها والمعلنة، الدقيقة والعارضة، أوليست تلك رواية يجب ان تعاش لا أن تقرأ؟

ليست رواية نقرأها ونمضي، عندما يعلن رجل يمتهن الكتابة بالإدلاء بذاكرته الممتدة لعمر كامل أمامك، أو تشكيلي يرسم تفاصيل المشاهد الحياتية المعاشة على تنوعها وثرائها، أو شاعر ينثر الشعر سطورا، يسرد الشعر كما يسرد حكاية قبل النوم، أو فيلسوف يمتلك رؤاه الفلسفية في الحب والوطن المرأة، ويفتح التساؤلات على كون القاريء الداخلي المنشغل أصلا بتلك القضايا الوجودية.

الحلم

اقتباس :(لا ندرك معنى الحلم وجمال التفسير)

متى ندرك، هل ندرك عندما نقف على منصة بعيدة  في آخر الحلم؟

ما أطول السرد عندما نعيش التفاصيل،

 يقول : “ما أقصر المسافة.”

يأتي هذا الحلم في لحظة فاصلة بين حلمين، حدثني بأن الحياة كاملة ليست سوى حلما، ربما تفصله حادثة خطرة تكون فاصلا بين زمنين صنفهما بأنهما حلمين، لحظة انتهاء محتمل فاصلة، جعلت الحلم بعدها يمتد، لكنه ليس امتدادا للحلم الأول بل حلما مستقلا بذاته، يستعيد كل ما حدث في الحلم الأول كشريط سينمائي منذ اللحظة الأولى للمرأة في الحياة، وكأن الحلم( الحياة) ليس سوى محطات للمرأة في عمر ذلك الطفل الكبير، الحكيم، الشاب فيما بينهما، وكأن هاتيك الأنثاوات العذباوات اللواتي أحبهن جميعا بدون شروط، سببا للنجاة في مخيلته، كأنهن قشة النجاة، وقيمة الأحلام:

“فالحلم سيد الأزمنة”.

الشتات:

لم تغب عن الرواية “الأنثى”، إحداثيات الزمن العربي الحديث، من نكبات ونكسات،أحب أن يؤكد لي أنه برغم تعدد التسميات وزوايا رؤيتها، غير أنها تحمل وحدة معناها:

“انشقت الأرض وما انشق المعنى”،

 فمهما كتب التاريخ عن قضية الإنسان في أحداث القضية الفلسطينية، لا يتغير معنى استلاب الأرض وشتات الإنسان عن بيته وقراه وموطنه، المعنى يوجد هنا في الإنسان، لا فيما يكتبه المنتصرون والمنهزمون على حد سواء، فالقصة في هذه القضية هي قصة الإنسان، ولا شيء سواه.

مقابلة:

نموذج الأنوثة عند الرجل نموذج أول (إلهة).

وعند الأنثى نموذج أخير  كما عند العيطموس، التي اختصرت جوهر حبها في الرجل الذي أحبت، ولم تقسه على نموذج سابق، بل حاولت الغوص في حياته، وعصفَ بها الفضول للخوض في تجاربه السابقة، من أجل فهمه بشكل أكثر عمقا، وفهم طبيعة حبه لها، بل وربما كانت تقيس حبه لها من خلال حبه لهن، لكي تعرف أنه يحبها الحب الأكبر الذي تستحقه”كما تراه هي”، ولا يساور الأنثى مثل هذا القلق، الا عندما تمتلك هواجسا يصنعها حب نادر، لحبيب نادر الحدوث، لا يتكرر في الحياة مرتين.

السؤال:

كم من سؤال يندلق من بين حواف الفكرة؟ أما الإجابات فبكل ذكاء تركها  فارغة، أسئلة ذات صدى يتردد في القلب منذ كان الإنسان في هذه المنطقة، يلمح لها من بعيد، في اشتباكات الأحداث وصوته الشخصي الساخر حينا، المرنم بمقطع من أغنية حينا آخر، أو مثل شعبي، أو كلمة عامية لا شيء في اللغة يفي معناها، وينذر منذ الجلسة الأولى ..الصفحات الأولى في الرواية، بأنه غير معني بالإجابة على الأسئلة بقدر عنايته بطرحها، ليجد القاريء نفسه مضطرا -محاكيا فلسفة الوجود في عدم الانغلاق على إجابة محددة-، على وضع جميع الإجابات المحتملة على محك التجريب:

-“الإجابة نهاية الأسئلة، أهمية السؤال أن يبقى بلا أجوبة”.

وأسأله:

فلماذا إذن كرهت الأسئلة من العيطموس؟ قلتَ : “تبكي، تسأل بلا كلام، كل نبسة استفسار، كل همسة سؤال

 ما الفائدة من الأسئلة؟”

وأفيض بسؤالي:

ألم تقل قبل قليل بأن الأجابة على الأسئلة هي العروة الوثقى؟

قال: “منذ صغري لا أحب الأسئلة، لأن الأجوبة نادرا ما تكون صادقة، ففيها العوج والعرج والغمغمة والشيطنة وخبث الخبائث”.

أعيد عليك السؤال بشكل آخر، :”هل الأسئلة مفتاح من مفاتيح الحياة؟” هي كذلك ربما للمحقق العيطموس التي أنحاز لها بداخلي، فهي النموذج الأقرب للسلحفاة الحقيقية التي “تفرغ الملح عن طريق الدموع، لحاجات البيولوجيا.”

ولكني أفهم .. فهمت أنك لا تحبذ أسئلة الحب الغيور، ولا تثق بالإجابة عليها.

والذي أدركتَ بفتح الفتوح على قلبك بأن :” الأسئلة أهم من الأجوبة”.

السلحفاة:

لماذا السلحفاة؟

للسلحفاة ميزة العمر المديد، وميزة الوجود الأول في الكائنات، عاصرت الحياة لأزمنة طويلة، شاهدة على التاريخ، عابرة للزمن بفواصلها الوسيطة وتطوراتها وانتكاساتها، باقية رغم بطء المسير، وقلة الإمكانات والقدرات، غير أنها محمية بما لم يستطع كائن امتلك حياة بهبة الامتداد، وكأنك تقول بأنها كانت الكلمة الأولى في صفحات هذا الوجود البشري.

تختلط الأسطورة المحلية، بأساطير التخييل الساحرة لديك، كيف لك أن تجدل أسطورتك الذاتية لبدء الخلق، بالكشف العلمي عن ميتافيزيقا السماء الغيبية، وتجدل بينهما خرافات العجائز اللذيذة ولا تقع في التناقض؟

أجاب:” لا تخافي سآكلك فقط، وتسكنين (جوا) بداخلي وأحميك.”

وأيضا: “سلحفاتي راضية بي بعشبة وبدون عشبة/ فهي تعرف أني عشبتها الغريبة.”

الحب:

والحب؟

يكرز الكاتب بالكثير من النصوص المكتنزة بعاطفة عميقة، وفكر غير مسبوق يؤسس لفكرة الحب حسب رؤيته له، ما يذكرني بنصوص جبران عن المحبة في كتاب النبي.

يقول: “يصير الزمن لحظة، تبدأ بشرارة الومض يتبعه الرعد، ممتدة، لا متناهية في العمر والتوهج، لا تهرم، لا تشيخ، لا تنطفيء، لا تخبو.”

 فيزياء الحب : الشمس هي الحب.

“علل:

لماذا تكذب الشمس ؟الشمس كذابة، وكذبتها الكبيرة الشروق.”

وأيضا: “كذبها حلو”، وأيضا : “ونصدقها”.

“الشروق الذي اعتدناه وخبرناه ونراه كل صباح ما هو إلا الصورة الخادعة للشروق الحقيقي”.

يقول:

“علل:

يشرق الحب قبل شروقه”.

أما صورة الحب الحقيقية : “صورة انعكاسه في خزائن العمر ومرايا الدنيا والذكريات”.

أفهم: الحب هو الحالة الكلية لمجموعه في العمر، لا بفردانيته في التجربة.

وبصوت كل إناث الأرض تقول سلحفاة التوت أكثر مما يشتهين قوله: –

“هاجسي كان دائما الزمن، الانطفاء، النهايات”.

-“هاجسي كان الموت، الذبول، فعرفت معنى الولادات المتولدة، المتجددة كل حين”.

-“سأظل مقيما على الهوى ما قامت الدنيا”

أجيبه مبتسمة: الحب كائن أسطوري، اختطف قلبك مبكرا من طفولته السعيدة.

بلا عنوان

خربوشة في حواشي الفصل الخامس:

 لا أعرف عند أية فكرة او كلمة أتوقف للتشبث بها، وعدم اللهاث وراء فكرة مذهلة جديدة تضرب ذهني بالسفر بعيدا فيها، حتى الآن الرواية كلمة وراء كلمة تضربني بالصخب العاطفي، لا تدنيني من شيء ولا تقصيني عن شيء.

إفاضة أخيرة لا آخرة:

السهل الممتنع في توظيف الحوار اليومي الى مونودراما أو مونولوج: “الشهد الشاهد” على الحب، على الحلم، على الولادة والموت و على الحقيقة بينها جميعا.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

تعليق واحد

  1. محمود سعيد

    عزيزتي ميس
    اعجبتني قراءتك للرواية، حبذا لو تكتبي عن روايتي بضعة أسطر
    تحياتي
    محمود سعيد.
    روائي عراقي
    maltaie39@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *