قراءة في لوحة “آكلوا البطاطا” لفان كوخ

آكلو البطاطا

فينسنت فان كوخ، 1885

هشام روحانا – الكرمل

أنهى فينسنت فان كوخ الرسام الهولندي الشهير لوحة آكلو البطاطا عام 1885. مجموعة من الأشخاص تجلس حول طاولة طعام ضئيلة قاتمة ومتواضعة.  وأراد ليس أن يعكس من خلال هذه اللوحة حياة الفئات الأكثر فقرا في بلدة عائلته نينن (Nuenen) فحسب، بل وأن يؤسس له من خلالها موقعا فنيا متقدما وأن يعلن بها تمكنه من فنه واستاذيته. ولهذا فإنه يعتبرها رائعته الفنية أو على الأقل لوحته الأكثر تميزا الى أن أبدع رائعته الأخرى ليل النجوم (De sterrennacht) 1889 [والتي ستكون لنا وقفة خاصة معها في مقالة منفردة].

 تشكل هذه اللوحة محاولةَ الفنان الجدية الأولى لإنتاج تحفة فنية معقدة ومكونة من عدد غير قليل من الشخصيات والتفاصيل والموضوعات، مستخدما طيفا محددا وضيقا من الألوان القاتمة ليبرز ترابية الواقع المُعاش والذي يريد نقله والتعبير عنه داخل إطار محدد يوظف فيه لعبة الضوء مقتصدا به الى حدود التقتير. ويشهر بها يده المتمرسة وعينه التي صارت خبيرة بهذه اللعبة؛ لعبة الضوء والظل. غير أن جهدا متواصلا بذله فان كوخ قبل أن يشرع بلوحته هذه، وامتد بضعة أعوام تمرنت من خلاله يده وعينه وروحه. ولقد قضى وقتا طويلا يرسم وجوه الفلاحين وعمال المناجم ونسائهم والذين غدوا مواضيعه الودودة وموديلاته المحببة. ولقد وضع فان كوخ قبل عمله النهائي هذا عدة تخطيطات أولية له ضمت أربعة اشخاص في البداية، الى ان اجتمعت به الشجاعة فقرر إضافة شخص خامس.

وتشكل موضوعة “المائدة” موضوعة مطروقة في الفن وخصوصا الرسم. خذ على سبيل المثال “المائدة” الأكثر شهرة ونعني بها العشاء الأخير لليوناردو دافينشي. سنشير أولا الى فرق بارز ما بين اللوحتين من الناحية التشكيلية وهو أن مائدة العشاء الأخير مفتوحة تماما امام الناظر، بينما تحجب الشخصية الجالسة في مركز لوحة فان كوخ جزءا كبيرا من مائدته. بل انها تبدو وكأنها مائدة الفرسان المستديرة بدون مركز.

لنتناول الآن لوحة فان كوخ! يجلس خمسة افراد عائلة فلاحين فقراء حول مائدة متواضعة في كوخ خشبي سيئ الإضاءة، معتم، نوافذه مغلقة تماما وتبدوا بقضبانها وكأنها نوافذ سجن ما. ساعة تشير الى السابعة معلقة فوق الجهة التي يظهر فيها الرجل، وإناء معلق يضم بضعا من المعالق والمغارف في الجهة التي تحتلها المرأة الأكبر سنا. انها تصب الشاي في اقداح بيضاء. ما علاقة الشاي بالبطاطا؟ يسأل أحد النقاد فان كوخ. إن هذا الناقد يأتي من عالم آخر، فهو غريب عن العالم الذي عايشه وخبره فينسنت فان كوخ في حياته اليومية وتحديدا في الفترة التي قضاها بين عمال المناجم وفي القرى الفقيرة- سيأكل وسيشرب الفلاح وعامل المنجم ما يقع تحت يديه، فليس لديه ترف اختيار اطباق طعامه (1). ينصب الضوء من مصباح الانارة شحيحا ليجتمع فينير مائدة متواضعة يتحلق حولها خمسة اشخاص متساوون. وعلى هذه المائدة لا وجود لشخصية مركزية. حبات البطاطا تبدو هي مركز الكون. وتنعكس مركزيتها على تكوين الأيادي ومفاصلها التي تبدو هي أيضا كحبات البطاطا. تبدو الوجوه كرتونية وذوات سمات افريقية. ” اردت أن أنقل الفكرة، فكرة أن هؤلاء الأشخاص الذين يأكلون البطاطا تحت ضوء مصباح زيتي يتناولون الطعام بالأيادي نفسها التي كدحوا بها في الأرض؛ لقد كسبوا قوت يومهم بشرف” هذا ما كتبه فينسنت لأخيه ثيو حول اللوحة (2).

إن هذه المساحة المضاءة داخل هذا المشهد المعتم هي الفضاء التشاركي الذي أعتابه تنكسر قسوة الحياة وشظفها. وعلى العكس من مائدة العشاء الأخير لوحة دافنتشي التي تسودها الضجة واللغط عندما يبلغ المسيح تلاميذه:” الحق الحق أقول لكم، إن واحدا منكم سيسلمني” (3) فإن مائدة فان كوخ هادئة تماما. إن اشخاصها اللذين لا تلتقي نظراتهم بعضهم ببعض، مقطوعون عن تواصل مادي ما بينهم، لكنهم يتشاركون بصمتٍ نبلَ تقاسمِ طعامٍ نالوه بشرف وإنهم بالمجاز يشيرون الى مجتمع المسيحيين الأوائل، هؤلاء الذين تركوا ثرواتهم وتبعوا المسيح؛ “ف مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ” (4) بل ذلك الذي حرم ذاته طوعا بنبل وزهد واقتصاد. 

لا تبدو الإحالة هنا لمائدة دافنتشي مستبعدة على ضوء الأبحاث والنقاشات التي أثيرت مؤخرا حول حوار مستتر وخبيء كان فان كوخ يقيمه بين لوحاته ولوحة العشاء الأخير (5)

ومما لا شك فيه اننا إزاء فنان ذو معتقد ديني راسخ، ابن رجل دين متزمت وطالما أراد هو نفسه ان يكون مبشرا بالإنجيل، ولقد عمل فترة ما على ترجمة الانجيل بأربع لغات يجيدها جيدا، ترجمة متوازية. انه يصرح في واحدة من رسائله:” حاول أن تفهم الكلمة الأخيرة لما يقوله الفنانون العظماء، الأساتذة الجادين، فهناك في روائعهم تجد الله. شخص ما يكتبه في كتاب وشخص آخر في لوحة” (6). لكن فينسنت فان كوخ كان يرى أن المقدس كامن هناك حيث هي الحياة العادية، اليومية، في حياة الناس البسطاء. إن لوحة آكلو البطاطا تشير الى هذا المقدس، الى هذه المعرفة البدئية الأولية الكامنة في بساطة التجربة الصوفية الزاهدة والداعية الى الاكتفاء ب”كفاف يومنا”.

 لقد شكلت البطاطا طبق الطعام الأساسي والأهم لدى الجماهير الشعبية الدنيا في أوروبا. لقد ضربت آفة البطاطا هذا المحصول في معظم دول أوروبا لكن اعتماد الشعب الإيرلندي وهو الواقع تحت الاستعمار الإنجليزي حصريا على هذا الغذاء بالتوازي مع هذه الآفة بين الأعوام 1845 الى 1847 الى حصول واحدة من أكبر المجاعات التي عانتها الإنسانية، وأدت هذه المجاعة السوداء الى هجرة مليون أيرلندي والى موت مليون آخر منهم. فقدت إيرلندا ربع سكانها خلال هذا العقد موتا وهجرة، وهو الأمر الذي ترك أثره على حركة الشعب الإيرلندي الثورية المنادية بالاستقلال ومدها بالمزيد من الإصرار والبطولة. للمزيد، ينظر في ماركس ومجتمعات الأطراف، تأليف كيفين اندرسون، ترجمة هشام روحانا، دمشق دار نينوى الطبعة الأولى 2020، الفصل الخاص بإيرلندا.

          يذهب بعض النقاد الى أن لوحة فان كوخ شرفة مقهى في الليل هي إعادة صياغة للوحة العشاء الأخير، الشخص الواقف في الوسط ذو الملابس البيضاء هوا السيد المسيح، لاحظ أن هنالك شخصا إضافيا يقف متجها ليخرج من الباب (إنه يهوذا الإسخريوطي) هاربا، عدد الأشخاص اثني عشر بعدد تلاميذ المسيح، ترسم النافذة صليبا وراء المسيح بينما يكلله المصباح فوقه بهالة القداسة.
  • المصدر السابق.

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *