-
هشام روحانا
تشكل هذه اللوحة واحدة من أكثر لوحات سلفادور دالي مباشرة، رغم كثرة العناصر الشكلانية المتزاحمة المبسوطة على أرضيتها والتي تبدو لأول وهلة مُغرقة في الغموض والإبهام، لكنها تعبر تعبيرا دقيقا عن المأزق العدمي الذي تسير عليه الإنسانية تحت وطأة الرأسمالية. رسم دالي هذه اللوحة خلال سنوات تواجده في الولايات المتحدة التي هاجر إليها مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وغادرها ما بعد انتهائها بقليل. ويستلهم دالي فيها لوحة أخرى تسير على نفس النمط بعنوان عذابات القديس أنطونيوس، وهي ثيمة متكررة منذ عصر النهضة.
لا يستطيع المرء إلا أن يتفق مع النقد القاسي الذي وجهه جورج أورويل لسلفادور دالي (1) حيث يوجه هذا الأديب والصحافي الراديكالي سهام نقده لدالي الذي عبر عن افتتانه بالفوهرر، ويضيف أورويل بأن دالي استطاع التهرب من اتخاذ موقف أثناء الحرب الأهلية الاسبانية (وهو الكتالوني المولد) والتي اندلعت بين حماة الجمهورية المنتخبة و المتألفة من اشتراكيين وشيوعيين ولاسلطويين، والمدعومة من النقابات (والتي تطوع أورويل محاربا في صفوفها وهو البريطاني) من جانب، وبين الانقلابيين الفاشيين بقيادة الجنرال فرانكو من جانب آخر؛ ثم صداقته مع الارستقراطية الايطالية التي احتضنته فترة ما؛ ثم هربه إلى أمريكا إبان الحرب العالمية الثانية. ويُذكر هنا أيضا أنه قد تم فصله من الحركة السوريالية والتي قادها حينها اندري بريتون لهذه الأسباب.
رغم جميع الجوانب المرضيّة التي قد يوصف بها سلفادور دالي كالنرجسية المفرطة وجنون العظمة، يجزم جورج أورويل: “علينا أن نتذكر أن دالي رسَّامٌ ذو موهبة استثنائية، وهو أيضًا وبالحكم على دقة التفاصيل في أعماله، رجل مجتهد. صحيح أنه محب للاستعراض ذو طموح مرضي مهنيا، إلا أنه ليس محتالًا. إنه يمتلك موهبة أكبر خمسين مرة من معظم هؤلاء الذين يهاجمون أخلاقياته ويسخرون من لوحاته. إن هاتين الصفتين مجتمعتين تجعلنا نتساءل لماذا لا يتم طرح نقاش حقيقي الا نادرا“.
ورغم ما يمكن أن يقال عن ذاتية ومثالية الحركة السريالية ونزوعها نحو الفوضوية احيانا، الا انها ومن دون شك تتقاطع وتشترك مع الماركسية في الكثير من وجهات النظر. تسعى السريالية الى تحطيم السلطة والمؤسسات المتحكمة بالفكر والفن وتحاول كسر القواعد الفنية التقليدية مستخدمة تقنيات تجريبية وثورية جديدة. “إنها تسعى إلى التعبير عن عناصر العنف والوحشية الكامنة تحت الطلاء الباهت للحضارة البرجوازية. ليست سلوكيات المجتمع البرجوازي المتأنقة و”ذوقه الرفيع” سوى واجهة تختبئ ورائها أفظع الآلام والاستغلال والقمع. السريالية تمزق هذا القناع المنافق وتفضح الحقيقة الفظيعة المثيرة للاشمئزاز التي يغطيها” (2) من المثير إذًا أن يكون الرجل الذي ارتبط اسمه بهذه المدرسة الثورية، إي سلفادور دالي وهو اليميني المعجب بـهتلر وفرانكو والملكي صديق الطبقات السائدة، هو صاحب هذه اللوحة التي وكما سوف نرى تعكس بأمانة وجهات النظر الأكثر ثورية للحركة السريالية المتطابقة مع الماركسية هنا.
تجتمع شخوص اللوحة مزدحمة على سطحها الممتد صحراء قاحلة جرداء، في مشهد كرنفالي استعراضي لقافلة عجائبية. وأول من يتقدم القافلة شخص معصوب العينين بملابس رسمية فيبدو أنه هو قائدها ومرشدها، حاملا ميزان العدالة العمياء، لكنها ليست أي، ولا كل عدالة، بل عدالة السوق الحرة – تدلنا على هذا الاشارات والعلامات المنثورة على سطح اللوحة؛ الدولار والنسبة المئوية وجدول بياني- عدالة السوق التي ستتحقق وفقا لآدم سميث إذا ما كانت السوق حرة من تدخل المجتمع ومتوقفة على حركتها الداخلية. وهكذا فإن قوى السوق من عرض وطلب ستحقق نقطة من الاستقرار الذي سوف يضمن رفاهية المجتمع ككل. إنه الوعد بعدالة لا تتحقق. تغادر القافلة موقعا يبدو على أنه مدينة نيويورك حيث تمثال الحرية. تبدو المدينة وكأنها تغرق، تغمر عماراتها مياه البحر القريب. نرى إلى جانب رأس التمثال رأس تمثال لجورج واشنطن ولشخص آخر لا استطيع تمييزه، لربما هو أحد “الآباء المؤسسين” ( تجب الإشارة هنا أنني لم استطع الوصول الى دراسة تفصيلية للوحة في أدبيات اللغات التي أجيدها). لكن قاعدة التمثال، أي قاعدة تمثال الحرية غائبة فيكاد التمثال يكون عائما في الفضاء مثله مثل الشخوص بجانبه.
تمثال الحرية هو هدية الجمهورية العتيقة، فرنسا، صاحبة الوعد بالحرية والمساواة والإخاء، للولايات المتحدة بمناسبة مئة عام على استقلالها. تغيب قاعدة التمثال عن لوحة الهيئة المتكاملة لربة الحرية الرومانية “ليبرتي” وتغيب قدمها الذي تطأ السلاسل الحديدية المكسورة رمزاً لإلغاء العبودية. وبدل النور المنطلق من الشعلة بيدها والمضيء بعيدا على المعمورة نرى دخان المصانع يملأ السماء. سقط المشعل من يدها اليمنى كما وسقطت أيضا اللوحة التي تشير إلى إعلان الاستقلال من يدها اليسرى. نبحث عن بقايا الوعد فلا نجده في لوحة دالي لهذا الحلم الأمريكي.
لا نجد أثرا للقاعدة التي يرتفع عليها تمثال الحرية هناك حيث حفرت ابيات شعر كتبته الشاعرة الامريكية إيما لازاروس :
” ابعث إلي بأبنائك المتعبين المعدمين
ابعث بالجموع حاشدة تتوق للتنفس بحرية
وبالبائسين المهملين يملؤون شطئانك
أرسل المشردين تعصف بهم زوابعك
أرسلهم إلى
ها أنا ذا ارفع مصباحي المضيئ
عند البوابة الذهبية” (ترجمتي الخاصة)
تتقدم هذه القافلة في خريف الرأسمالية بقوة القصور الذاتي للضرورة البحتة، وتدب بين كلا المشهدين لانهيار الوعد بأفق إنساني، مخلوقات هجينة يستحضرها أسلوب الغروتيسك (3) ويدفعها أمامنا. يلجأ هنا هذا الأسلوب الفني، الغروتيسك، الى مشاهد كرنفالية تهريجية متحررة من النمط والقوالب المتعارف عليها، مؤدية دور الصبي في قصة ه.ك. أندرسون “ملابس الملك الجديدة” الذي يصيح : “إني أرى الملك عاريا”، مزعزعا الأيديولوجيا السائدة والمعتقد المعتمد. ومن خلال هذه السخرية قد يتم استحضار وعي تنويري إنقلابي وفهم جديد. إن ترتيب هذه الشخوص الوهمية المرعبة والسخيفة على حد سواء في مسار خطي ذي إيقاع زخرفي مضاد للكلاسيكية، يبعث على خلق حالة احساس بلا واقعية المشهد رغم أدواته المادية الملموسة.
إن العناصر المادية للغروتيسك تعتمد استحضار “الغريب” و”الغرائبي” و “الهجين” مفهوما وشكلا، من خلال خلق خليط من المكونات الواقعية لكن المتنافرة ونسف طبيعة الأشياء والشذوذ في تناسق الصور والأشكال، لاجئة الى تقزيمها أو عملقتها بعضها أو كلها. تتولد ها هنا حالة بينية تكثف الجوانب المغرقة بالغرابة والخوف والشذوذ وتذهب بها الى حدودها القصوى لتنقلب بعد التمعن الى ضدها، ساخرة وعبثية، مولدة حالة من التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance )(4).
تنطلق القافلة مبتعدة عن اليوتوبيا الموعودة الغارقة بمياه البحر والمحترقة بنيران المصانع، لا تنظر الى الخلف فليس الجميع بمثل جلادة نيرون المحدق الى مدينته المحترقة، تدب في صحراء الجائحة ذليلة وكأنها مصابة بالطاعون. لسنا هنا أمام أية يوتوبيا بل نحن في خضم نقيضها، الديستوبيا (5) بأل التعريف. نبحث فلا نجد أي بصيص في اللوحة للرقة أو العطف أو الرحمة. والجميع هنا رهائن حبيسة مسخّرة لإله الربح الواحد الوحيد. تنتظم شخوص القافلة في صف مشدودة في سلاسل جديدة، تسير خلف حامل راية ‘عدالة السوق العمياء‘. نعم لقد تحطمت السلاسل الحديدية للعبودية السوداء، لكن عبودية جديدة تنشأ؛ عبودية رأس المال. وأول شخوصها مخلوق هرم عديم الحياة لا يبقيه فيها سوى شبقه للنقود، فغدا من شدة شبقه إليها آلة لعد النقود. إنه كمصاص الدماء ذاته لكن النقود هي الدماء الجديدة لهذا العصر. تليه نملة عملاقة، طاقة لا نهائية للتخزين والادخار. تعتليها لتحمي الخزائن كالي (Kali) العظيمة؛ الإلهة الهندية بأذرعها العديدة وتحولاتها الكثيرة، وهي إلى جانب كونها ربة الزمن اللانهائي فإنها أيضا طاقة التدمير السوداء.
يتدافع في المؤخرة كل من الأفعى والجمل. إن للأفعى حضور واسع في أعمال سلفادور دالي وحياته. وهي كرمز تستطيع أن تتخذ معاني ودلالات وايحاءات عديدة ليست بالضرورة متناقضة فيما بينها، لكنها قد ترمز هنا الى الخروج من الجنة والتيه في الأرض بوصفها ملعونة إذ قال الرب “ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية على بطنك تسعين وتراباً تأكلين” (6). نحن إذا أمام التيه والغربة التي يؤكد حضور الجمل عليهما وهو رمز السفر والتجوال. لكن حضور الجمل هنا حضور يؤكد أيضا على الغربة فهو كعربي المتنبي غريب اليد والوجه واللسان في هذه اللوحة. فكأنه نخلة صقر قريش؛ عبد الرحمن الداخل مطلا من قصره في الأندلس عبر النافذة فينظر فيرى نخلة فيصاب بالحنين فينشد
نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبةٌ
فمثلُكِ في الإقصاءِ والمُنْتأى مثلي
ولسان حاله يقول :
إن جسمي كما علمتَ بأرض
وفؤادي ومالكيه بارض.
أننا إذا امام الغربة أو على وجهة أدق أمام الاغتراب؛ اغتراب مطلق في نظام استطاع تعميم الطبيعة اللاإنسانية للوجود البشري، اغتراب وجودي للذات التي لا تجد ذاتها إلا كغرض ضمن علاقات شيئية.
(الكرمل)
__________________________________________________________
//هوامش
(1)George Orwell: ‘Benefit of Clergy: Some Notes on Salvador Dali
First published: The Saturday Book for 1944. — GB, London. — 1944.
(2) آلان وودز، عن الفن من وجهة نظر ماركسية، والذي صاغه بمناسبة الذكرى السنوية لوفاة الفنان السريالي الثوري، أندري بريتون.
(3) الغروتيسك؛ Grotesque مفهوم فكري فني وجمالي يعود الى الرسومات التي وجدت في روما ايطاليا في نهاية القرن الخامس عشر في الحفريات الأثرية في الكهوف وتمثل كائنات إنسانية ونصف حيوانية ونباتية والكلمة في أصولها الإيطالية grotto تعني الكهف.
(4) تنافر معرفي ؛ حالة استعصاء وجداني وعقلي تتناقض فيها المشاعر والأفعال مع المعتقدات أو الوقائع والمعطيات العينية.
(5) ديستوبيا (Dystopia) نقيض الاتوبيا، مجتمع غير فاضل ووجود انساني تسيطر فيه القيم والمفاهيم السلبية، حيث يسود الاستعباد والخوف والاستغلال.
(6) سفر التكوين، الاصحاح الثالث، فقرة 13
-
عن الاتحاد – الكرمل
اخالف الاستاذ ، في تحليله اللوحة هو رائ نملة تحمل خزانة
وانا اراها خنزير ، كناية ان الخنزير لا يتورع عن لوقوع في الرذائل
أنا الجمل فهو كناية سيطرتهم على نفط العالم وخصوصا في منطقة الخليج والافعى المربوطة في ساق الجمل هي إسرائيل .