الرُّوبوت 215

الرُّوبوت 215

قصَّة قصيرة[1]

الأديب السُّوري موسى رحوم عبَّاس

كنتُ سعيدا جدا عندما تلقيتُ رسالةَ القبولِ في المعهد الملكي لتقنية المعلومات، ووصلتُ خلال مدة قياسية إلى تلك البلاد البعيدة الباردة. أوراق كثيرة، اختبارات محكَّمة، أوراق بأختام، توثيق لكلِّ شيء.  حسبتُ لكلِّ شيءٍ حسابَه بدقَّةٍ، إلا هذه المقابلة التي لم أستطع وضعها في سياق فني مهني، ولا تنتمي لاختبارات الذَّكاء أو حتى الميول المهنية والإرشاد الأكاديمي. كدتُ أن أقولَ إنَّها مخابراتية، لكنَّني طردتُ هذا الهاجسَ، فقد قلتُ لنفسي: كلُّ شيءٍ عندنا نحن أهل شرق المتوسط يبدأ وينتهي بالمؤامرة. حتى ذلك الرُّجل قريبي الذي خلعته زوجته لسوء طباعه وبخله، كان يقول إننا حِكْنا له مؤامرةً وإنَّهُ ضحيةٌ، لا أكثر!

مَنْ أدارَ المقابلة شابٌّ صغيرٌ لم أظنَّ أنَّه بروفيسور البرمجيات في هذا المعهد. قال لي مباشرة: لماذا اخترتَ معهدنا؟ بدأت برشق العبارات التي حفظتها غيبا، وإنَّهم رسلُ حضارةٍ وعلمٍ، ولا يُظْلَم عندهم المؤمنون! أعاد السُّؤال بهدوء، ففهمتُ أنَّه لا يريد سماع تفاهاتي. عندها قلتُ أريد أن أتعلَّمَ شيئا أحبُّه. التقط العبارة بسرعةٍ، قائلا، “ولكنك قلتَ في هذه الاستمارة إنَّكَ مهتمٌ بالرُّوبوت ولديك محاولات بدائية في بلادك! أدركتُ ألَّا مجال للمراوغة، فأخبرته أنَّ معهدهم يحسن صُنْعا لو اختار لهذا القسم طلابا من الشرق الأوسط! رفع نظارته وزَوى ما بين عينيه، وكأنَّه يستفسرُ سببًا منطقيًا لتوصيتي هذه!

“وهل تظنُّ أنَّكم أذكى من شعوب العالم؟”

“لا، يا سيدي، لا أقصد.”

“أحتاج إلى تفسيرٍ معقولٍ لفكرتك.”

“يا سيدي، نحن روبوتات بالولادة، يبرمجنا أهلنا وجيراننا وأسلافنا الأموات وأبناء القبيلة كافَّة، وتعيد برمجتنا الوكالات السِّريَّة، وتُحسِّنُ المُنْتَجَ منظَّماتُنا الشَّعبيةُ وجامعاتُنا تحسينًا نهائيًا.”

“وماذا بعدُ؟”

“لا شيءَ، نمارس حياتنا بمنتهى الدِّقَّةِ وفقا للخوارزمياتِ المُخَزَّنةِ على شريحة دماغنا، ونمشي على العجين دون أن يلتصق بنا!”

هزَّ رأسه. ربما لم يفهم قصة العجين هذه، لكنه ابتسم، وكتب ملاحظة على الجهاز اللوحي، الذي يحمله، ولا أعرف إن كان حديثنا هذا مسجَّلا، أم لا.

   من التقاليد الجامعية العريقة في هذا المعهد دعوة العائلة المالكة للحفل الختامي الذي تعرض فيه المشاريع التي يقدمها الطلبة في كلِّ عامٍ جامعيٍّ، وبما أنَّني في قسم الرُّوبوتات حسب توصية البروفيسور، ولسبب آخر طلبتُ استثنائيا من القسم أن أكون وحيدا في المشروع، وليس ضمن مجموعةٍ بحثيةٍ. فقد أطلقتُ مشروعي بعد أنْ قدَّمته بعبارات موجزة، قائلا، بعد أن شكرتُ أساتذتي، “هذا الرُّوبوت الذي أمامكم هو مشروعي. وقد منحته الرقم 215، وهو رقم بيتي الذي دمَّرته الطَّائرةُ!” صحيحٌ أن بعض الحاضرين امتعضوا من التَّسمية، ولكنَّهم تجاوزوا ذلك بانتظار الرُّوبوت والبرمجيات التي صُمِّم على أساسها. عندها استأذنتُ مدير المشاريع في البدء في العرض، أشار بيده موافقا، فأعلنتُ إشارةَ البدءِ. انطلقتْ موسيقا محليَّة لأغنية فُرَاتيَّة حزينة، لكنهم صفَّقوا لها وتمايلوا، فالإيقاع يقول إنَّها أغنية مبهجة وراقصة، أما الكلامُ فلا شأنَ لهم به.

 بدأ الرُّوبوت 215 بتحريك رأسه بزوايا تمسحُ أركانَ الصَّالة، ولا تترك أيَّة نقطة عمياء، فالخوارزميات التي أنشأتُها في ذاكرته دقيقةٌ جدا، بعد أن حصلتُ على قياسات الصَّالة حتى السنتيمتر الواحد، وبعدد الكراسي المُخصَّصة للضُّيوف، والفراغات بين الصُّفوف، واتجاهات الإضاءة، وقسم الطلبة المشاركين، وأجهزة الضَّوء والصَّوت. فوجئتُ به ينتقل بحركته الموزونة الرَّتيبة بين الصُّفوف، ثم يتوقفُ فجأة عند أحدها، تماما أمام تلك الصَّبية ذات الشَّعر الذَّهبي بالضَّبط، ينحني قليلا، يغمِزُ بعينه اليُسْرى عدة ثوانٍ، يتابع مشواره، ينحرفُ يسارًا إلى الصَّف العاشر من كراسي الضُّيوف، ويُخْرِجُ ملصقا بعلامة X حمراء يلصقه على ظهر الرَّجل ذي الشَّعر الأسود، ولا يأبَهُ لغضبه، بينما أنا منشغلٌ بتلقي تقاريره آنِيًّا، عبر الحاسوب الذي أضعه أمامي لمتابعة تقديم مشروعي. هاهي ذي قائمةٌ بأسماء الضُّيوف رصدتْها الكاميراتُ السُّداسيةُ المركَّبةُ على جوانب رأسه كخليَّة النَّحل، ويمكنها الارتفاع بالقدر الذي تتطلَّبه الحالة. لا أنكر أنني استوحيتُ ذلك من درس تشريح الضِّفدع في مدرستي القديمة في قريتنا، فعيون الضَّفادع يمكنها الرؤية بكلِّ الاتِّجاهات. وإلى جانب كلِّ اسمٍ نبذة مكثَّفة عن عمله واتجاهاته السِّياسية وعدد خياناته الزَّوجية أيضا. لاحظتُ أنَّ الرَّجلَ ذا العلامة الحمراء – الذي صنَّفه روبوتي على أنَّه شخصية خَطِرة من خلال المِجسَّات الجانبية التي تستجيبُ للروائح والأصوات والحركات – يحاول الهرب من الصَّالة. وضعتُ قدمي أمامه، فسقط. وصلتني من الرُّوبوت أرموزةُ يدٍ مرفوعة الإبهام إلى أعلى. تحفظ عليه رجالُ الأمن بناءً على طلبي. التفتُّ إلى روبوتي، وقد وصل إلى مجموعة الشَّرف في مقدمة الصَّالة، حيث كبار الشَّخصيات، فبدأ ينحني أكثر. بدا لي كأنَّهُ يُقبِّلُ أيدي أفراد العائلة المالكة، ثمَّ توقف مرفوع الرأس، مُسْبل اليدين، مستعدًّا كجندي، وأطلق موسيقا الختام، وهي أغنية وطنية شهيرة في بلادنا.

في اليوم التالي وصلني تقرير لجنة تحكيم المشاريع، خلاصته بعد الإشادة بجهدي ودقَّة برمجتي للروبوت 215، ……….  سأترك باقي التقرير، وأكتفي بالملاحظة الأخيرة فيه للبروفيسور ساندبيرغ، الشَّاب الذي قابلني أول مرَّةٍ بالمعهد.

“لقد صنعتَ روبوتا يشبهك، نحن نريد روبوتا فحسب، آلةً حياديةً بعيدةً عن المشاعر، نتحكَّمُ بها نحن! “

حملتُ التقريرَمحتجًّا، وصعدتُ إلى مكتبه في الدور العاشر من المبنى الإداري، بادرني بقوله (حرفيا)

 We just want a machine. وبعد أن استعاد هدوءَه، ابتسم وأعاد ضبط الكرسي إلى الوراء قليلا، وهو يهمسُ “لا تنْسَ أنْ تأخذَ معكَ الرُّوبوت 215، هديةً من المعهد إلى بلدك. ربما يحتاجُ إليه!”

حَمدتُ اللهَ أنَّهُ نسيَ أنْ يسألني عن تفسيرِ غمزة الرُّوبوت لتلك الصَّبية ذات الشَّعر الذَّهبيِّ، ولو سأل لأقسمتُ له أيمانا مُغلَّظةً أنَّني لم أبرمجْ ذلك، وأنَّه تصرفٌ شخصيٌّ لا علاقة لي به، ولا يمتُّ بِصِلَةٍ لكلِّ خوارزمياتي.

Inspired by Joanna Kavenna’s “Zed,” translated into Arabic by Prof. Musa Al-Halool

[1] استوحيت أجواء هذه القصة من رواية “زِد” (للكاتبة البريطانية جُوانا كَڤِنَّا) التي ترجمها إلى العربية الدكتور موسى الحالول، أستاذ الأدب المقارن والترجمة بجامعة الطائف، لصالح مشروع كلمة أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، 2021.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *