*لطفية الدليمي
لن تنسى ذاكرتي الباريسية أبداً ذلك المشهد الدراماتيكي صيف عام 2008 عندما احتفلت مجلة النوفيل أوبزرفاتور – المعروفة برصانتها الثقافية – بالذكرى المئوية لميلاد الكاتبة / الفيلسوفة سيمون دي بوفوار التي كانت واحدة من كُتّاب المجلة . كان الإحتفال صادماً بكلّ المعايير ؛ إذ وضعت المجلة صورة خادشة لسيمون دي بوفوار على غلافها ، ثمّ أرفقت العدد بتحقيق موسّع عن بوفوار إختارت له عنوان ( سيمون دي بوفوار الفضائحية ) ! ، ولازلتُ أذكر كيف قامت مظاهرات نسوية مندّدة بالمجلّة أمام مبناها الشهير في قلب باريس ، وطالبت رئيس تحرير المجلة بسحب هذا التحقيق ومنعه من التداول أو نشر صورة رئيس تحرير المجلة على غلافها وهو في الوضعية ذاتها التي نُشرت بها صورة دي بوفوار .
في مقابل هذا المشهد الفضائحي الشعبوي تكفّلت جامعة باريس السابعة بعقد حلقات دراسية أشرفت عليها المختصّة بالألسنيات والثقافة النسوية جوليا كريستيفا وآخرون لإحياء الذكرى المئوية للمفكرة والكاتبة والروائية دي بوفوار ، وخُصّصت منابر عدة في معهد رولان بارت وجامعات فرنسية أخرى لدراسة أعمالها ومناقشة طروحاتها الفلسفية تحت سؤال مشكّك : هل كانت دي بوفوار فيلسوفة ؟
غير أنّ بلدية باريس كانت أشدّ وفاءً من الجميع لصاحبة كتاب ( الجنس الآخر ) ؛ فأطلقت اسمها على جسر للمشاة في باريس , وأعيد طبع عدد من كتبها وظهرت عشرات الكتب عنها وعن حياتها الإشكالية مابين دراسات وروايات وحوارات ، وتصدّرت صورها المحتشمة عدداً كبيراً من الأغلفة بعكس صورتها على النوفيل أوبزرفاتور .
تداعت هذه الصور في ذاكرتي وأنا أقرأ مراجعات عديدة منشورة في النيويورك تايمز والغارديان والنيويوركر للرواية الجديدة للكاتبة دي بوفوار ، الرواية التي كتبتها عام 1954 واختارت لها عنوان القرين Inseparable ثمّ وضعتها في أدراج النسيان . القصة الكلاسيكية معروفة وتتكرر على الدوام : تعثر ابنتها المتبنّاة على مسوّدات هذه الرواية فتقرّر نشرها ، وتتصلُ بكبريات دور النشر التي لن تتأخر في استثمار هذه الفرصة والتمهيد لها بمقدمات كتبها روائيات ذوات شهرة عالمية طاغية ( على شاكلة مارغريت آتوود و ديبورا ليفي ) .
شاعت في حقبة الحرب الباردة ظاهرة تصنيع النجم الثقافي ، وكانت هذه الظاهرة واحدة من متطلبات الصراع الآيديولوجي في جانبه الثقافي . هذا لايعني أنّ كلّ الأسماء الثقافية التي شاعت في تلك الحقبة هي أسماء ملفّقة أو لاتنطوي على ثراء ثقافي ؛ لكن يحصل أحياناً وفي مفاصل زمنية محدّدة أن تعاضد القدرة الثقافية المميزة نمطاً من التوجّه الآيديولوجي السائد ، وحينها يحصل نوع من ( التخادم ) بين المثقف – المفكّر والتيار الآيديولوجي ، وأحسبُ أنّ هذا هو ماحصل مع جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار مع التيارات اليسارية السائدة آنذاك ؛ لذا عندما تهاوت الجدران الآيديولوجية وانتفت الحاجة لها مع مطلع تسعينيات القرن العشرين حصل تحطيم متزامن لصورة المثقف الأيقوني .
أنا – على المستوى الشخصي – أكنُّ تقديراً عميقاً ومحبة لاحدود لها لسيمون دي بوفوار ؛ إذ كم قضيتُ أوقاتاً رائعة في قراءة أعمالها غير الروائية . هل ثمّة منّا من يستطيع تناسي أعمالها المبهرة : ثلاثية سيرتها الشخصية ، أو كتابها المذهل ( قوة الأشياء ) ، أو العمل الرائع ( الجنس الآخر ) الذي حقّق انتشاراً عالمياً يستحقّه بكلّ المعايير ؟ لكنّ دي بوفوار ليست كاتبة روائية مميزة . لعلّ أحد الأسباب وراء هذا الأمر هو عقلها التحليلي / الفلسفي الذي إستفاد من تجربة معايشة سارتر وسعى لمنافسته ، وهنا مكمن الخطر الأكبر : مَنْ يمتلك عقلاً ينزع نحو الرؤية الفلسفية المفرطة للأشياء قد لايكون مؤهلاً للتعامل الروائي مع العالم . هل هذه مقايسة ؟ ربما ، وقد تصحّ حتى مع سارتر ذاته .
بالعودة إلى رواية دي بوفوار الجديدة المشار إليها أعلاه فهي استمرارية لمذكراتها عن طفولتها المدرسية عندما تلتقي بصديقتها التي تسميها ( آندرييه ) في المدرسة وتشعر إزاءها بشغف عجيب مَلَكَ فؤادها . كانت آندرييه ضئيلة البنية الجسدية بالمقارنة مع عمرها ؛ لكنها إعتادت المشي بثبات وثقة كما البالغين . عندما رأتها سيلفي ( وهو اسم إختارته بوفوار لنفسها في هذه الرواية ) لأوّل مرة تشعر على الفور أنّ هذه الفتاة الضئيلة عبقريةٌ تستحقُّ أن تُصنّف كتب كثيرة لأجلها في المستقبل .
تصبح الفتاتان قريبتين من بعضهما كما التوأم ( ومن هنا جاء عنوان الرواية ) ، وسرعان ماتتحدثان ساعات طوالاً عن موضوعات كثيرة ومتنوّعة : المساواة ، العدالة ، الحرب ، الدين ،،،، ، ثمّ لاتلبث الفتاتان تفقدان الاحترام الواجب آنذاك تجاه المعلّمات في المدرسة الكاثوليكية التي انضوتا فيها ، وراحتا على مهل تنسجان عالماً تخييلياً هو صناعتهما الخاصة المشتركة ؛ لكن بالطبع لم يكن في مقدورهما المضي في هذا العالم إلى أمد لانهائي .
تكتب بوفوار في مذكراتها المعروفة ( قوة الأشياء ) أنها عندما عرضت روايتها ( القرين ) على سارتر « حكّ سارتر أنفه « ، ثم أردف قائلاً : ليس بمستطاعي مجاراتك في قبول هذه الرواية . أرى أن ليس من ضرورة لها ، وبدت لي أنها تفشلُ في الإمساك باهتمام القارئ .
المسألة واضحة إذن . لاتقبل دي بوفوار نشر هذه الرواية في حياتها ( بسبب طبيعتها الموغلة في الشخصانية والحميمية ) ، ثمّ تأتي إبنتها المتبنّاة فتجد في مسوّدات أمها التي تبنتها فرصة للحصول على مغنم مالي لم تشأ أمها الحصول عليه . هل يمكن قبول هذا الأمر من ناحية الأعراف الأخلاقية والقانونية السائدة ؟
قرأتُ نحواً من عشرين صفحة من هذه الرواية فماوجدتُ فرقاً يذكرُ عن طبيعة كتابة بوفوار في مذكراتها المسهبة التي ماتركت فيها شيئاً إلا وقالته . الرواية سلسلة متصلة من عبارات استرجاعية منسابة من ذاكرة طفولية . ماالجديد بعد كلّ هذا ؟
كتبتُ قبل سنتين تقريباً بشأن كتابٍ نشره أولاد ( ستيفن هوكنغ ) بعد وفاته ، وهو لايعدو أن يكون تجميعاً لمقالات منتخبة لوالدهم ضمتها دفتا كتاب أضاف له بعض الكُتّاب بعضاً من التوابل لكي يكون مستساغاً طيباً وبطريقة إحتفائية مبهرجة . هل كان هوكنغ في حاجة لهذا الإحتفاء الاستعراضي ؟ أم أنّ الكتاب كان الفرصة الأخيرة لوارثي هوكنغ لاهتبال مايمكن جمعه من مال ؟
يبدو لي أنّ ماحصل مع هوكنغ هو ذاته الذي حصل مع دي بوفوار . رأت الإبنة المتبناة مع دور النشر أنّ هذه هي فرصة مناسبة للجميع في الحصول على نصيب من إرث بوفوار حتى لو جاء الأمر بصيغة مخالفة لرغبة بوفوار ، وليس الأمر معضلة كبيرة : تنويهات لاتنفك تبشّرُ بقرب نشر رواية غير منشورة لبوفوار ، مع مقدمات إحتفائية مسهبة ومطوّلة . كم كانت خيبتي كبيرة مع تقديم ( مارغريت آتوود ) للنسخة المترجمة للإنكليزية من هذه الرواية .
هل خلا عالمنا من موضوعات إشكالية حاسمة شديدة الأهمية والخطورة في تشكيل طبيعة نوعنا البشري ومآلات وجوده في العقود القادمة حتى ننشغل برواية بسيطة لاأحسبها ستضيف شيئاً لإرث بوفوار ؟ لكن يبدو أنّ هذه المشهدية هي جزء متأصل في عالم مابعد الحقيقة الذي يٌعلي مثابات ويخفض أخرى بحسب مرجعيات لاتأصيل ثقافياً مسوغاً لها .
أحبّ – بقدر مايختصُّ بي الأمر – الحفاظ على صورة سيمون دي بوفوار في كتاباتها الفلسفية التحليلية المبثوثة في كتبها التي قرأتها بشغف عظيم في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ، ولستُ في حاجة لقراءة أعمال لم تشأ نشرها وهي بعدُ حية ، ورأت فيها وريثتها ودور النشر فرصة مجانية للتكسّب على حساب التراث الفكري الثري لصاحبة العمل .
نحنُ في عالم مابعد الحقيقة ، والكتب المنشورة كثيرة ، ويبقى لزاماً علينا أن نعرف كيف نقرأ بعقل نقدي واعٍ لايغيب أو يتصاغرُ أمام سطوة الأسماء الكبيرة التي صارت ضحايا مجانية لآخرين .