*منال رضوان
لن آخذ معي سوى ذلك المغزل الذي يجيد السكنى بأخدود صنعته براحتي منذ سنين.
هنا جلست أعلى سطح الدار القديمة أراقب في صمتٍ دورات النهارات اللافحة، وهي تلثم شقوق الجدران الرطبة.
على الأرض رقدت سُعْدَة هادئة كعادتها
يجب عليَّ ألا أتركها وحيدة في هذا القيظ بل يتحتَّم أن أعيدها إلى أمها قبل رحيلي، هي في الأصل ابنة أرض يبدو لي أنّ الجّان قد لبسها ساعة مولدها، أو ربما بعد ذلك لا أعرف إلا أنني لم أتعجب عندما نقرت دجاجة إحدى عينيها كحبة قمح وصار النسوة يصرخن فإذا بالعين تنبت ثانيةً بعد أيام قليلة..!
منذ ذلك اليوم لم تعد أمها تخشى أن تتركها كزهرة قِبْلتُها الشمس أينما حطّت بشعاعها الدافىء لترسم دوائر ضوء بكليم القصاقيص الذي تتوسد عليه ابنة عمي الصغيرة،
على الرغم من رحيلي المُتعجّل فإنّني سأتركها على باب الدار فقد تنساها أمها وسط جلبة يحدثها قطيع الحبل في عشرة عيال، وهي لن تصرخ بالطبع فقد ولدت طائعة، تعي أنّها كرقم وسط أرقام الصغار ومهما فعلت لن يلتف أحد؛ فلا هي بالكبرى لتنال الحظوة ولا آخر العنقود كي تنام على صدر الجدة، تلقم ثديها الجاف وخشخشة حبات الحزون تداعب أصابعها القصيرة فتلقنها بنغمات مختنقة:
(يا حمامة عمتي تلقطي ما تلقطي
تلقطي حصى حصى من جنينة محمصة
ولا عبده بدخانه ولا ميه بصبيانه
صبيانه ميه ميه تحت الأرض مخبية خبتني وخبت حالي)
آه.. كم هي مسكينة سُعْدَة إذ أنها لم تحظ أبدا بأغنية الحزون
من ‘صدقات’ ستي العجوز
إلا أنني كنت حفيدتهم الأولى؛ لذا فقد ملأوا فمي بالحلوى على استحياء وتلونت يميني بأساور خضراء وحمراء ، وبمشبك كبير كانت عين زبيدة لا تغادر صدري، كما أنهم صنعوا لي (من الحرير توبين )..
تغيّرت الحال بعد موت أمي وهى تلد نجيب، وزواج أبي بسيّدة خالتي التي قطعت عنا سرسوب التدليل، وأمسى أخي رضيعاً لمودتي حتى شبّ وأصبح في طول الرجال وسافر حتى يدبر المهر للمقبورة – إن شالله – عِفة ابنة أمها لا ربحها الله إذ غربت عني كبدي، (هَنَّاَك الله يا نجيب مع ابنة الحرباء).
حتى العام الماضي لم أحظ برجل يرعاني، أردت الزواج كي أنجب طفلة لا تعاني الصمت كتلك الخرساء بإرادتها وقد حدث ذلك؛ كان رجلي يدعى زين وهو بلون الضي أحببته ذلك الحزين لكنّه قُبر بعد ثلاثة أشهر من دخلتنا، فرجعت إلى سطح الدار أحفر أخدودي ثانية براحة يدي وإن كان أثره لم يلتئم بعد.
تعايرني وداد زوجة عمّي بأنّي بُومة بين، ويضحك سن سيدة الفضي في استهزاء، كما أن منيرة لا تكف عن توبيخي،
فأطعم سُعْدَة بسيسة سمن وسكر وآكل معها حتى نشبع ثم تمد يدها إليَّ بالمغزل مبتسمة.
فأغزل وأخيط مناديل الخرز وأهدهدها بأغنية الحزون فقد أصبح هذا من حقي الآن.
نظل هكذا أنا وهي حتى تغيب الشمس عن سطح الدار
والتي سأتركها قريبًا ليأخذني شديد بلا مهرٍ يذكر.
أعرفه جيدا، كثيرًا ما كنت أراه يجلس بصدر قهوته يختلس النظر إلى سليمة العايقة كلما تعمدت أن تمر أمامه زامة بردتها على خصرها السمين.
جلوسي هنا يجعلني أراهم يلعبون الورق على رهان الجوزة كما أشاهدهم يستحمون في الترعة القبلية نهارًا وعند الليل يدلفون إلي دار سليمة.
أبدًا لا أبوح بأسرار أعلمها خشية أن تسمعني الصغيرة فتتعلم الكلام من دون أن تأمن عاقبته..
سأمضي اليوم إلى دار شديد لكن منيرة وبَّختني رافضةً أن آخذ مغزلي وسط الأغراض معقبة بأنه نذير الشؤم، سكبتْ ستي زيت الزيتون براحتي هذا الزيت الطيب كم أسكت وخزاتي بحنوه.
رأيت من أعلى السطح رجال القرية يتحلقون حول الشيخ والمنديل الأبيض قد اختطفه سعيد التربي (لا أعرف من يدعو غرابًا إلى العرس؟!)
بهذه الكلمات صرخت منيرة كعادتها منفعلة قبل أن تجذب ذراعي وننزل إلى صحن الدار، لم تسمح لي أن آخذ مغزلي كي لا أرجع، لكنني احتضنت الصغيرة بفرحة بعد أن احتفظت لي به بين طيات ملابسها والآن سأكمل مراسم عرسي وفي حجري سُعْدَة تداعبني بسرٍ بيني وبينها دون أن تلحظ ذلك منيرة أو تضحك سيدة التي باتت تمتلك أسنانًا فضية كثيرة.
- قاصة من مصر