بيان

   خاص- ثقافات

*محمود شقير

   وصلنا القاعة متأخرين، فالمطر الغزير لم يتوقف عن الهطول منذ ساعات، وموعد الاجتماع المبكر لم يكن مواتياً، ومع ذلك فقد اختصرنا ساعة النوم اللذيذة في فترة ما بعد الغذاء، واتجهنا الى القاعة متدثرين بمعاطفنا الصوفية بعد أن أوقفنا سياراتنا في الساحة التي يغسلها المطر، غادرنا السيارات وهن يرمقننا مثل نسوة شهوانيات فيما كنا نبتعد عنهن مضطرين.

       صعدنا الدرجات النظيفة وكلنا يقين بأن بعض المتحذلقين لن يجعلوا الاجتماع ينقضي سريعاً كما نحب، ولا بدّ من أن يعكروا صفونا باقتراحاتهم الثقيلة. دلفنا عبر الباب الزجاجي الذي ينفتح تلقائياً وفق تعليمات جهاز تقني دقيق، فرحنا لأن سيارات الشرطة المعنية بمراقبة التحشدات لم تكن حول المبنى ولا في أية ناحية من نواحيه، فنحن في كل الأحوال لا نخرق القوانين، فهذا أمر طالما حفظناه حتى أتقناه.

       اجتزنا الممر الطويل الذي ترصع سقفه ثريات متألقة حالمة، وعلى السجاد ذي الوبر السميك داست أحذيتنا التي بللها المطر، انعطفنا يميناً نحو القاعة الرصينة التي تغطي نوافذها الواسعة ستائر الحرير. كنا نعرف أن الحوار قد يمتد وقتاً طويلاً بفعل حذلقة المتحذلقين الذين قد يجرّون علينا موقفاً لا تحمد عقباه، ثم إن لدينا مواعيد أخرى تنتظرنا ولا تحتمل التأجيل: في السادسة مثلاً علينا أن نكون في المطار لنودع أخانا السفير الذي طالما سهرنا وإياه، وتداولنا في شؤون بعضها قريب وبعضها بعيد. في السابعة لا بد من أن نعود صديقنا الوزير الذي أقيل قبل الأوان، وهو الآن مريض أو متمارض، فالأمر سيان، وقد يعود له ذات يوم النفوذ، فلا بدّ من أخذ الأمر بالحسبان، وفي التاسعة ثمة حفل راقص نستعد له منذ أيام، ولن نتردد الليلة عن مراقصة النساء الجميلات اللواتي يعشقن الرقص في جو المطر، لكي يزدن التصاقاً بنا ونزداد التصاقاً بهن، ونحن نخاصرهن في الصالة البهية تحت الأضواء التي تخفت حيناً ثم تندلع حيناً آخر.

       وكما توقعنا، فقد كان المتحذلقون السفلة يترصدون كل فرصة سانحة، تحدثوا باستفاضة عن الدم النازف في المخيمات، ثم استنكروا مجرد الاكتفاء ببيان باهت – على حدّ زعمهم – لا يشير إلى الجريمة بوضوح. غطسنا في دفء المقاعد ولم نتفوه بكلمة، فنحن نعلم أن ثمة أخوة لنا جاهزين للرد على كل الحذلقات، لأننا لا نريد أن نغضب أحداً هنا أو هناك، ولا نريد أن يظن أحد ما أن بياننا موجه إليه دون غيره من عباد الله، صحيح أن ثمة دماً ينزف، وعلينا أن نثبت أن الدم لا يصير ماء، غير أن الأمور ليست بمثل هذه البساطة، ولا بد من توخي الحذر في كل ما نفعل أو نقول، ثم لماذا كل هذا التنفج والتحذلق والخوض في المحظورات، ونحن لنا حدود بينات لا نستطيع تجاوزها بأية حال!

       امتد الحوار وطال، كدنا نغفو في مقاعدنا الوثيرة تحت طقس القاعة الدافىء وبهاء الستائر الممتدة على الجدران بحشمة واعتدال، غير أن إخوتنا الذين لا يخيبون آمالنا في مثل هذه المناسبات، حسموا النقاش أخيراً، وأعلنوا أن الدم المراق عزيز على كل واحد منا، ثم قرأوا صيغة بيان لا يسبب إحراجاً لأحد. صفقنا بتؤدة ووقار، ثم غادرنا القاعة، ركبنا سياراتنا المستسلمات تحت المطر، وسارعنا إلى قضاء واجباتنا الملحة قبل أن نمضي في رحلة الليل البهيجة بين صالات الرقص وأجساد النساء الحسان، حيث نكون آنذاك قد نسينا البيان والدم المراق، والعالم كله بما فيه المخيمات.

_________

*روائي وقاص فلسطيني.
من مجموعته “صمت النوافذ”/قصص قصيرة جداً/ منشورات الأهالي/ دمشق/ 1991

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *