شخصيّات «دفاتر الورّاق» بين مطرقة الخوف والغدر والقهر وسندان الهويّة والفساد والخيبة

* مجدي دعيبس

لعلّ الكتابة عن (دفاتر الورّاق) للروائي الأردني جلال برجس- والصّادرة عن المؤسسة  العربية للدراسات والنشر- من الصعوبة بمكان بعد كل هذه المقالات التي بحثت فيها شكلًا ومضمونًا، وكل هذه التّغطية والمتابعة الإعلامية التي رافقت صعود الرواية إلى القائمة الطويلة ووصولها للقائمة القصيرة ومن ثم فوزها بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) للعام 2021، وهي الرواية الرابعة في رصيد الكاتب بعد مقصلة الحالم وأفاعي النار وسيّدات الحواس الخمس.

تصدّى من كتب عن الرواية لتسليط الضوء على بواطنها وخباياها، وكشفِ الكثير من محمولاتها الثقافيّة والنفسيّة ودلالاتها الاجتماعية وإسقاطاتها السياسيّة. هناك من تحدّث عنها بشاعرية متأثرًا بلغة الرواية التي حملت عاطفة صادقة وصوّرت الحدث بحميميّة لافتة تجبر القارئ على الانخراط في الحركة والصّورة، ليصبح جزءًا من المشهد وليس قارئًا محايدًا. وهناك من تحدّث عن تعدّد ثيماتها وحبكتها المتشعّبة المشغولة بعناية ومكانها وزمانها وتقاطع مصائر شخصياتها وتصاعد الأحداث ونمو الشخصيات وصولًا الى العقدة والحل أو الخاتمة.

لعل هذه السطور تسعى للبحث عن موطئ قدم بين ما كُتب عن الرواية لتكون مادةً صالحةً للقراءة وتضيف إلى ما سبق جملةً مفيدةً. ولعل البحث في الشخصيّات وسماتها ودوافعها يقدم الرواية من زواية مغايرة يجد فيها القارئ طريقًا أخرى للوصول إلى النتائج والاستنتاجات عينها التي وصل إليها الآخرون.

ونبدأ بالشموسي وهو جد إبراهيم الورّاق؛ الفلاح البسيط الذي لم ينل حقّه من التعليم؛ مثله مثل باقي أبناء جيله الذين ارتبطوا بالأرض والشمس والمطر والقمح والبيدر والمحراث، واعتمدت حياتهم على ما تنتج سواعدهم من حقولهم. الشموسي نموذج لمرحلة وجيل عاش حكاية جميلة لم يبقَ منها سوى رائحة التراب المجبول بالمطر الذي يعود بعد أشهر الصيف الجّافة. يرسل ابنه جاد الله لدراسة الطب في روسيا. على الرغم من صعوبة العيش وطمع المرابين يتمكن من تأمين مصاريف ابنه في الغربة. تحت وقع خيبة كبيرة وتبخر حلمه- الذي انتظره لسنوات طويلة- يطلق النار على جاد الله عندما يكتشف أنّه درس الفلسفة وليس الطب. هذه الحادثة تكشف سلطة الأب التّقليديّة التي رافقت تلك الفترة، وتكشف أيضًا واقع الحال المرتبط بالزمان من حيث تطلّع الأباء لتعليم الأبناء وخاصة الطّبّ الذي يشير إلى نظرة المجتمع الزّراعي والرّعوي إلى مهنة الطبيب التي لا تعادلها أي مهنة أخرى. ما بين قسوة الحياة- بغض النظر عن مصدر هذه القسوة- وخيبة أمل فادحة يجد الشموسي نفسه عالقًا في وضع صعب ومعقّد.

جاد الله الابن الذي يتلقّى رصاصة غير قاتله من أبيه، يتعرّض للملاحقة بسبب نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي. يتزوج ناردا الصحفيّة الجميلة قبل أن تسوء العلاقة بينهما ويطلّقها. يملك كشكًا لبيع الكتب في وسط البلد. يموت منتحرًا بسبب الخوف والقلق من الملاحقة واليأس من تحسّن الأحوال وانعدام الشعور بالأمان. يمثّل شريحة كبيرة من الذين درسوا في الاتحاد السوفييتي وانخرطوا في العمل والحزب الشيوعي وأصبحت حياتهم تنقّل ما بين السجن والتضييق على معاشهم ومصدر رزقهم وحريّاتهم. جاد الله هو الجيل الذي سحقته المرحلة ودفع غاليًا في سبيل المبادئ التي آمن بها. دراسة الفلسفة بدل الطب يؤشر إلى أنّنا أمام جيل مختلف عن جيل الآباء والأجداد الذي كان يدور في فلك الأرض ويستمدّ منها المثل والمعايير والقيم، في حين وجد الأبناء أنّ الإنسان وحريّاته ورفاهه جدير بمركزيّة نظام الحياة وليس أيّ شيء آخر. هذا الانتقال من رؤية إلى رؤية مغايرة لم يكن سهلًا ولا مقبولًا فسقط من سقط من أمثال جاد الله وغيره، وتابع البقيّة إلى خط النهاية ليجدوا أحلامهم محبوسة في قمقم بالٍ لم تُجدِ معه كل محاولات سندباد وعلاء الدين لإخراجها من سجنها القديم. 

ليلى؛ الفتاة مجهولة النسب تغادر الملجأ بعد أن تعرّضت للاغتصاب من قبل رناد محمود المشرفة هناك. تعيش على الهامش في بيت مهجور مع أقرانها من مجهولي النّسب. ترفض الانجرار وراء الرذيلة وتقف بوجه مجتمع ذكوري مقزّز. تتنكّر بهيئة شاب حتّى لا تتعرض للمضايقة؛ فالصورة النمطيّة لفتاة وحيدة تتجوّل في وسط البلد لتبحث عن عمل، سلبيّة وقاتمة. تلتقي إبراهيم الورّاق تحت الجسر وتدعوه للمبيت في البيت المهجور. لاحقًا، تعمل عند السيدة إيميلي التي تحسن معاملتها، وتتمكن أخيرًا من النجاة بروحها وجسدها. عندما يسطو إبراهيم على فيلا السيدة إيميلي تتعرف عليه ليلى وينكشف أمره. الهروب من الماضي والبحث عن هوية وموطئ قدم في مجتمع من الذئاب المسعورة، يضعنا مجدّدًا أمام حالة موجودة وتتحرك بيننا لكنّنا لا نراها. دفاتر الورّاق ليست الرواية الأولى التي تتعرض لمجهولي النّسب، لكن جلال برجس من خلال السرد الجميل والتحليل المتقن أدخلنا إلى رأس ليلى وقلب ليلى وعيون ليلى، فصرنا نفكر بما تفكر ونشعر بما تشعر ونرى ما ترى. لعل ليلى بكل سوداويّة المشهد من حولها تمثل نقطة بيضاء في الرواية، فمصائر الشخصيّات كانت في عمومها مفجعة ومحزنة، لكن ليلى جاءت لتقول إن خيط الأمل ما زال موجودًا لمن يبحث عنه. المفارقة هنا أن هذا الأمل جاء من نموذج مرشح للانهيار والانكسار أكثر من غيره.

إيميلي تتعرّف على إياد نبيل في الغربة وهو شاب مستهتر يدخل معها في علاقة فتحمل منه ويهجرها عندما يعلم ذلك. تلد ابنها الذي يصبح لاحقًا الطبيب النفسي يوسف السّمّاك ويصبح إبراهيم الورّاق أحد مرضاه. إياد نبيل يمثّل الانتهازيّة والفساد والمحسوبيّة وكل ما هو سيء وقبيح في المجتمع. إياد نبيل هو الوجه المظلم لمدينة لم تعد ترى سوى الحجارة البيضاء والشوارع  الإسفلتيّة والمراكز التّجارية والبنوك وأهملت الإنسان وصوته المشحون بالظلم والقلق واليأس. السيّدة إيميلي تعيش مع أحزانها بصمت موجع، وناردا ينهشها الاكتئاب والحبّ الضائع، ويوسف السّمّاك تخنقه عقدة تخلّي الأب عنه. تقاطع مصائر الشخصيّات جاء ليشكّل شبكة من العلاقات المتداخلة، فتظهر أمامنا عند نهاية الرواية لوحة فسيفسائيّة معقّدة التركيب ومشغولة بعناية فائقة، سقوط أي حجر منها يعني الذهاب في طريق أخرى لا يخدم الرؤية العامة للعمل.

إبراهيم جاد الله الشموسي المعروف باسم إبراهيم الورّاق. تموت أمّه بالسرطان ويهرب أخوه عاهد من ذكرياته وحياته في جبل الجوفة إلى تركيا ثمّ تنقطع أخباره. يرى أباه ينتحر أمام عينيه. يخسر كشك بيع الكتب الذي يعتاش منه بسبب المتنفّذ إياد نبيل الذي يبني محلًا لبيع الأجهزة الخلويّة بدلًا منه. هذه المتوالية التراجيديّة تدفع به إلى حافة الإنهيار. يحاول الانتحار في العقبة بعد أن خسر بيته الذي ورثه عن أبيه في جبل الجوفة. يعدل عن الفكرة بعد أن يلتقي ناردا الصحفيّة التي كانت تنوي الانتحار أيضًا، وهي الفتاة الجميلة التي نشأتْ في بيئة محافظة. تتعرف على ابراهيم عندما تراه في العقبة. تنسى دفتر مذكراتها في المكان الذي كانت تنوي الانتحار فيه ليجده إبراهيم ويقرأ فيه ليعرف الشيء الكثير عن حياتها ونشأتها. الدفتر الثاني الذي يشير إليه العنوان (دفاتر الورّاق) يعود لجاد الله وهو الدفتر عينه الذي تقرأ فيه ناردا، أمّا الثالث فهو لإبراهيم الذي شرع بكتابته بعد دخوله مستشفى الأمراض العقليّة.

يصاب إبراهيم بفصام حاد كرد فعل على قسوة الحياة، ويتجلّى هذا من خلال الصوت الذي يأتي من بطنه التي تنتفخ مثل بطن الحامل كلما عاوده هذا الوسواس الخنّاس. يتقمّص شخصيّة أبطال الروايات التي قرأها مثل بطل اللص والكلاب وموسم الهجرة إلى الشمال وأحدب نوتردام وغيرهم. يقتل إياد نبيل ورناد محمود وعماد الأحمر ويقوم بعمليات سطو ويكون آخرها على بيت السيدة إيميلي حيث يُلقى القبض عليه ويودع في مستشفى الأمراض العقليّة. إبراهيم الورّاق هو إنسان هذا العصر الذي يشبه حبّات الذرة في مقلى فوق نار قوية، حالما تصلها الحرارة تبدأ بالرقص والتّقافز وكل ما تأمله هو أن تكون الحرارة كافية لتندفع خارج المقلى وتسقط على الأرض لتدوسها الأقدام وتنتهي معاناتها. عمليات التّصفية والقتل التي قام بها الورّاق ليست من باب الانتقام، بل هي رغبة دفينة لتخليص المجتمع من أمراضه المستعصية التي لا ينفع معها سوى البتر. خدمة يؤدّيها للناس الفقراء على غرار الشعراء الصعاليك في الجاهلية الذين أغاروا على الأغنياء ليطعموا الفقراء.

جلال برجس روائي أردني عربي، أو عربي أردني إن شئتم، يدلف إلى أعتاب العالمية من خلال هذه الرواية المدهشة.

* روائي وناقد أردني

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *