عماد الدين موسى
تحاول الباحثة والأكاديميّة السورية علياء الداية الكشف عن دور الجمال وتأثيره في بناء الرواية العربية في كتابها “جماليات الهوية في الرواية العربية المعاصرة، 1985-2015″، الصادر حديثًا عن دار نينوى في دمشق 2021، والذي يقع في أربعة فصول: الهوية وجماليات المكان العجائبي، جماليات الهوية وتحولات الزمن، وعي الهوية وجمالية العزلة، الرواية وجماليات الموسيقى في حلب. ويشمل دراسة تطبيقية لست عشرة رواية، لستة عشر كاتبًا وكاتبة: بثينة العيسى، خيري الذهبي، رجاء عالم، شهلا العجيلي، عبد الخالق الركابي، عبد العزيز بركة ساكن، علي المقري، فيصل خرتش، لؤي علي خليل، لينا هَوْيان الحسن، محمد المنسي قنديل، محمد شويحنة، موسى ولد ابنو، هاني الراهب، وليد إخلاصي، يحيى القيسي؛ مُحاولةً البحثَ عن نماذج لعلاقات إنسانية بين شخصيات الروايات الأكثر وعيًا بالجمال الذي سممته القباحة، وذلك من خلال جماليات المكان العجائبي، حيث الأمكنة المفتوحة والمغلقة، الأرض والسماء، والبلدان، والمدن والتلال، والمنشآت الحديثة والقديمة والآثار وغيرها، وارتباطها بالعجائبي الغامض الذي يستدعي همـّة الشخصيات لاكتشافه واكتشاف ذاتها وهويتها معه. فتضعنا في عوالم خيالية وهي تقرأ مظاهر الحياة في المكان باعتباره مكانًا مسكونًا ووسيطًا بين القارئ وشخصيات الروايات ومواقفها التي تؤمن المشاركة في تحقيق الجمال وتماهيها في المكان وسحره.
المؤلفة تجري عمليات تبادل في بحثها ما بين الواقعي والخيالي فتشغلنا بمساحات الموسيقى والنحت والتصوير وغائيتها في المكان الروائي، كان مكانًا مفتوحًا كجبل اللويبدة في الأردن، أو في روسيا، أو مكانًا مُغلقًا في أهرامات مصر أو جبال عجلون أو وادي رم أو حلب؛ وترى المؤلفة أن انغلاق الأماكن في رواية “عين جورية” للكاتب لؤي علي خليل كمثال؛ يعود إلى نظرة الشخصيات وموقفها من المكان، ولذا تأخذ حكمًا بأن كل الأمكنة مغلقة ما دامت خارج القرية، وبهذا؛ فإن كل الشخصيات التي اتخذت من عين جورية سكنًا لها هاربة من أماكن مغلقة لا تتيح لها الكلام والتفكير، وثمَّة مكان آخر مغلق في الرواية هو مدينة حلب، المدينة التي تركها الشيخ يوسف إلى غير رجعة، وتوجه إلى عين جورية، لأنها صارت تُنفره، لأن أعرافها تمنعه من ممارسة الرياضة والرقص الشعبي بحجة أنه شيخ، وعلى الشيخ الذي اتخذ من المسؤوليات الدينية مهنة له أن يلتزم الوقار. ففي حلب يحس بالقيود التي تجعل المدينة غير جميلة في نظره، بل ومنفِّرة، وتجعله يقارن بينها وبين مدينة دمشق، التي يرى أنها تتقبَّل الغريب من السلوك أو السكان.
في الفصل الثاني من الكتاب تدرس المؤلفة تحولات الزمن وتجلي جماليات الهوية، فثمة ماضٍ يؤثـّر في الحاضر، ومستقبل تنظر إليه الشخصيات وتتصوره بطرق مختلفة. ومع التغير الزمني الحتمي تتم صياغة مفاهيم كالهوية الجمعية والانتماء والاندماج. باعتبار أن الرواية فعل جمالي، بل هي عربيًا أول عمل ثقافي جماهيري، وإن قامت في جانب منها على الأساطير ومنطلقاتها؛ إذ يضعنا الروائي أمام وقائع وإن كان فيها شيء من عوالم سحرية، أو تتجاوز السحر، ولكن ليأخذ ويغرس في القارئ حب المشاركة في إنتاج الجمال عبر تحفيزه على التأمل والمشاركة في تحرير علاقة إنسانية أكثر سعة وإثارة.
وترى الباحثة بروز الهوية الجمالية في ثلاث روايات: “ألماس ونساء” للسورية لينا هويان الحسن، و “الرجل الخراب” للسوداني عبد العزيز بركة ساكن، و”خرائط التيه” للكويتية بثينة العيسى، حيث تتواتر الاهتمامات المشتركة زمنيًا بين هذه الروايات، والتي تقدم تجارب تُخلص لمفهوم الهوية، ولمفهوم حرية الشخصيات في عرض حياتها كما حصلت، بتكثيف كبير وشمول لأكبر قدر ممكن من المصاعب والمعاناة والأحداث الغريبة التي يندر أن يكون أيَّ قارئٍ قد مرَّ بها. وهذه الروايات حضر الزمن فيها على نحو مُدرك بسلاسة وترتيب، ولا سيما من الناحية الوثيقة بمفهومي الهوية والتحولات، فثمة الزمن الفيزيائي الفلسفي من ماض وحاضر ومستقبل، وهو زمن يختلف عن الزمن السردي من استباق واسترجاع مما يغلب عليه الطابع التقني، ومقابل الجمال ترى المؤلفة أن هناك مظاهر قبح في هذه الروايات الثلاث بوجود الجريمة بدرجات ونسب توزع مختلفة لكنها متقاربة؛ كالسرقة والغش والخداع والانتحار، واضطهاد الأطفال وخطفهم، والخيانة والغدر والقتل، والاتجار بالبشر والأعضاء، فكان على أبطال الروايات التعرض لاحتمال كونهم ضحايا قبل أن يتمكنوا من الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة. وقد تلازم حضور الهوية الجمعية مع مفهوم الجمال، في حين تلازم حضور الهوية الفردية عميقًا مع مفهوم القبح.
في الفصل الثالث تقرأ المؤلفة العزلة الجمالية التي ترتبط بتطور وعي الشخصيات في إعادة تشكيل هويتها، فهناك بحثٌ عن الهوية بعدة طرق مفصـّلة، وأثرٌ لنوعية المكان المعزول في عملية الوعي، سواء أكان المكان في الطبيعة أم بين البشر، ويؤدي العنف دورًا واضحًا في إدراك الواقع. وتتناول سبع روايات “بلد واحد هو العالم” للسوري هاني الراهب، و”سابع أيام الخلق” للعراقي عبد الخالق الركابي، و”مدينة الرياح” للموريتاني موسى ولد ابنو، و”صبوات ياسين” للسوري خيري الذهبي، و”خاتم” للسعودية رجاء عالم، و “طعم أسود رائحة سوداء” لليمني علي المقري، و”أنا عشقت” للمصري محمد المنسي قنديل. إذ هناك قاسم مشترك بين شخصيات هذه الروايات، وهو أنها شخصيات تبحث عن الهوية.
في الفصل الرابع من “جماليات الهوية في الرواية العربية المعاصرة” تأخذ المؤلفة مقطعًا طوليًا في الرواية من خلال الموسيقى، وهي مظهر للهوية الثقافية، فتقف عند الجماليات الموسيقية في مدينة حلب، إذ كانت الروايات وسيلة لتقديم الموسيقى موثقة بين طياتها وبوصفها مكونًا يوميًا أصيلًا ملازمًا لحياة أبطالها. خاصة وأن مدينة (حلب) تحتفي بالحياة و”بالموسيقى” قديمًا وحديثًا، بوصفها من أبرز الظواهر الثقافية الملتصقة بالحياة واستمراريتها، وملمحًا في هوية هذه المدينة التي تتميز ألحانها ويتفرَّد الأداء الغنائي فيها عن غيرها. وتأخذ المؤلفة ثلاث روايات لثلاثة روائيين من أبناء مدينة حلب؛ رواية “شمس الأصيل لفيصل خرتش و”الحروف التائهة” لوليد إخلاصي، و”وِرد الليل” لمحمد شويحنة. وهي روايات يتلازم حضور الموسيقى فيها، فروايتا “شمس الأصيل” و”الحروف التائهة” تنصان على أن الاهتمام بالموسيقى تراجع تراجعًا كبيرًا وانحسر في فترات الضيق والأحداث المتأزمة، أما رواية “ورد الليل” التي خلت من الموسيقى في البيوت، فإن آلات الموسيقى ووسائلها ومصادرها مثل الصوت البشري، والراديو، والعود، والفرق الموسيقية المرافقة للزفاف، والطبول والأهازيج الشعبية والحماسية، لم تخلُ من الرواية خاصة وأن الموسيقى في حلب تمتزج بالمكان والذي يؤدي وظيفة دينية كما أشارت إليه الروايات الثلاث، من خلال الإنشاد الديني الذي يرتبط بالمقامات والألحان التي تتبع قواعد وقياسات ذوقية وعلمية، وتنفرد رواية “وِرد الليل” لمحمد شويحنة بالجو الديني والروحاني الذي نفذ إليه بطل الرواية مطيع العبادي، الذي لم ينتسب إلى حزب أو جماعة سياسية معلنة.
المؤلفة قدَّمت قراءة جمالية من الواقعي إلى الخيالي وهي تبحث عن العلاقة السحرية التي تربط بين الإنسان وحريته في أن يرى الجمال جمالًا فلا يفلت في دروب القباحة والشر.