عبد الرحيم جيران
يُعَدُّ موضوع الهوية إشكاليًّا، ولا يُمْكِن فصله عن تاريخ التفكير فيه، خاصّة عن مبعثه الأصيل الذي يرتبط بالتجديل بين الـمُكتمِل وغير الناجز، وربّما كان السبب في تكوُّنه عمى الأصل (المبتدأ).
ويزداد الأمر حين ينقل المفهوم من مجال الفلسفة والأنثروبولوجيا إلى مجال السرد. وهنا ينبغي التمعّن في المفهوم من زاوية الكيفية التي حاول التفكيرُ بوساطتها صياغةَ أسئلة تتعلّق بالأدب، انطلاقا مما هو فلسفي. وقبل ذلك لا بدّ من وضع مُقدِّمة أوليّة تكُون بمثابة مُوجِّه أساس لنقاشنا هذا، ومُفادها ضرورة التجديل بين الهوية الإجناسيّة (التي لا تنفصل عن آلية التمثيل الخاصّة بكلّ جنس أدبيّ، والتي تستهدف القبض على العالم من حيث هو صيرورة، انطلاقا من غير المحدود، أو من المحدود، أو من التركيب بينهما) والهوية الأنطولوجيّة الـمُتعلِّقة بالذات، وهي تسعى إلى أن تُعبِّر عن انتمائها إلى العالم بوساطة الفعل الذي يستهدف الاكتمال (الكلِّيّ) متجاوزا نقص العالم، بما يعنيه ذلك من توتّر بين التصوّرات (التطلّعات) والتحقّقات.
تسمح لنا المقدمة التي وضعناها أعلاه بِعَدِّ الفكرة التي تجعل من الحبكة مُحدِّدةً الهويةَ- كما أعدَّها بول ريكور- في حاجة إلى إعادة نظر، فلا يكفي ضبطها بالاعتماد على كُلِّ الفعل في علاقته بالزمن، بما يعينه ذلك من القبض على وحدتها، وفق فعل الذاكرة وفعالية استمرارها؛ فسؤال الهوية السرديّة يظلُّ- من حيث هو فعل تخييليّ مسندٌ إلى ذات تسعى عبره إلى تحديد نفسها في حاجة في فهمه إلى فهم تفاعل أشكال من الكلِّ الـمُختلفة، لا في فهم كُلِّ الفِعْلٍ وتأويله. ولهذا نَعُدُّ الهوية السردية تجديلا مُتضافرا بين ما يضعه النوع في علاقته بالجنس الأدبيّ زمنيا من أسس لتمثيل علاقة الذات بالعالم، ورمزيةِ التخييل التي تُصاغ وفق وضع الذات الأنطولوجيِّ داخل تنميط ثقافيٍّ مُحدَّد في الزمن. وحين نقرر مثل هذا القيد النظري ينبغي عدم تفكُّر الهوية الأدبيّة خارج التمييز الجوهريِّ بين الـمُعطى الأنطولوجيِّ والمبنيِ الاصطناعيِّ، فالأدب من طبيعة اصطناعيّة (الهوية عند لايبنتز)، لكن طبيعته هذه لا تجعل منه عديم الهوية، أو على الأصحّ لا تجعل منه منعدم الصلة بمسألة الهوية، ويُمْكِن عدُّه بموجب هذا الفهم توسُّطا هوياتيًّا؛ بمعنى أنّه يقع بين الذات التي تسعى إلى إدراك نفسها والعالم بوصفه متَّسمًا بالنقص، وينقل إليها عدوى هذا الأخير؛ فحتى الخُلُقي والتخلُّق ينبغي النظر إليهما انطلاقا من عدم كفاية العالم، لا بوصفهما متعارضين فحسب، وإنما بوصفهما يتبادلان عدم الكفاية، وإن اختلفا في الهدف، فالأول يُعاني من عدم تحدُّده العيني، ويُعاني الثاني من عدم فعاليته في جلب الرضا إلى الذات؛ فهوية الذات السرديّة، خاصّة الذات الروائيّة، ليست مشكَّلة – إذن- من أجل تظهير العقاب الـمُسلَّط عليها من قِبَل الذات الكلّيّة القامعة والكاذبة والـمُضلِّلة، وليست تعبيرا عن مُجاوَزة التخلّقي بوساطة نزوع القوّة اﻹرادوي، والتشبّث بتطلُّب الحرية الأصيلة، وقوى الحياة الأصيلة (نيتشه) فحسب، ولكنّها أيضا أفق مُجاوزة عدم كفايةٍ ما، حتّى ما تُقدِّمه حرّية الإرادة يصير سؤالا منظورا إليه من زاوية مدى كفاية تحقّقاتها. وليست الهوية مشكَّلة أيضا بفعل التسوية بين الذات (الخُلُقي) والتخلّقي (التأسيس الاجتماعي للذات) كما يذهب إلى ذلك فوكو، وليست أيضا حاملة لتأسيس اجتماعيّ مستقبليّ يكون الخُلُقي مفحوصا في ضوئه (النزعات الإيديولوجيّة)؛ لأنّ من طبيعة الخُلُقي الروائيّ كونه تطلُّبا فردانيّا يُعَدُّ كلُّ تخلّقي جماعيّ معوِّقا له؛ فالذات في كلّ نوع حكائيّ مُواجَهةٌ دوما بعدم كفاية ما يُقدِّمه العالم إليها من استجابات، حتّى في مستوى التأسيس الطبيعيّ (البيولوجيّ)؛ إذ يتأسّس أفق الحياة الأصيلة انطلاقا من الوعي بالمحدود (الجسد) في علاقته بلا محدود الإرادة (ريكور)، وحدود الوسائل التي توضع رهن إشارة الذات فحسب، بل أيضا من تعارض الإرادة مع ذاتها (المحدود مع المحدود). لكن ينبغي النظر إلى كل هذا في ضوء نقصان القوّة الوسائليّة (عدم ملاءمتها للطوية) التي تُعَدُّ المحرِّكَ الأساس للذات؛ فالعجز مُتأتٍّ من جهة الوسيلة بوصفها امتدادا اصطناعيّا، لا الجسد، ويُعَدُّ بصفته هاته الـمُكوِّنَ الأساس في الحكي، لا القوّة، بل الدافع الرئيس في تشكيل اللغة نفسها (دريدا)، وفي استيقاظ الوعي بالذات في عالم مُحاط بالموت والدمار؛ ثمّ أنّ القوّة ليست دوما تجهيزا بيولوجيّا، أو غريزيّا، بل هي رمزية، وتتبدّى في الصراع حول تملّك الرمز، بل هي مظهر لتلافي عدم الكفاية والنقص، إنها العجز وقد طوّر استراتيجيته في حدود دائرته.
وبهذا يعدُّ النقص (الآيل إلى الذات من نقص العالم) الدافعَ الرئيس لتأسيسها، ويُقال الأمر نفسه بالنسبة إلى جدلية العلاقة بين السيد والعبد (هيغل)، فالوعي الثاني الـمُنعكِس ماثل في الحاجة إلى الآخر الكامن في الذات لا في خارجها، والمضاد للذات الـمُجهَّزة سلفا بوعي الآخر الـمُهيمِن الذي يُشكِّل نقصا في الأفق ينبغي تجاوزه، لكن معضلة التجاوز هاته لا تحدث إلا في حضن العالم الذي هو موضوع للتجاوز، فلا مجال لتحقيق شرط الكينونة اعتمادا على الاستغناء عنه، والاكتفاء بالذات الأخرى الـمُجاوِزة الكامنة داخل الذات نفسها، لأنّ الإلهي وحده يمتلك هذه الميزة. فمعضلة الهوية السرديّة كامنة هنا، فكلّ السلوك البشريّ يُعَدُّ تعبيرا عن العجز الآيل إلى الذات من نقص العالم التي هي جزء منه بوصفها وعيا.
ولا ينبثق الوعي الانعكاسي إلا حين تبدأ مسؤولية التدبّر الذاتيّ؛ غير أنّ هذا الأخير يُقام على التباسه بالأصيل بوصفه لاوعيًا مُحرِّكًا من دون إدراكه، وهذا الأصيل يتمثّل في الخروج من ثقل الهمّ، والعيش في حضن عدم الحاجة الذي يُميِّز الطفولة.
إنّ أزمة الذات تبدأ بمجرَّد أن تصير مسؤولة عن مصيرها، أو عن مصير الآخرين، فهنا يبدأ نقص العالم لأنّ المسؤولية لا تنفصل عن الاختيارات والإرغامات والحدود المرسومة للقوّة بوصفها تدبيرا للعجز، لا بوصفها قوّة مُجرَّدة، وهنا تتدخَّل العلاقة بين الوسيلة والغاية، ويتشكَّل التأسيس الاجتماعيّ للذات الذي لا يُعَدُّ سابقًا على تولُّدها، فهي تُدرك نفسها في حدود ضياع اكتمالها الذي يُشكِّل ما قبل تاريخها، أي ما قبل دخولها إلى الرمز بما يعنيه من علاقة، ومن مقارنة، ومن توتُّر بين جزء مُبعثَر وكلٍّ مُلتبس موضوع في اللامكان (اليوتوبيا)، وما قبل تشكُّل الزمن الـمُنفصِل الذي يتَّخذ شكل عناء، وما قبل المكان الرمزيّ الذي لا يُعَدُّ سوى استبدالات بغاية استعادة المكان الضائع المفقود، الذي هو مكان الأصل الضائع أيضا حيث كانت الذات هي العالم، وكانت تُعَدُّ محوره، وتتسيَّد فيه بوصفها مُنصَّبة يخدمها الجميع، ويوضع المكان تحت إشارتها، وكانت مُكتفية بذاتها بفعل انتفاء التوسُّط الرمزيِّ، وتتمتَّع بالحرية الأصيلة.
لا يُمكِن فهم روائية هذا التصوّر الأُنطولوجيّ للهوية (القائم على تجاوز النقص من دون الاستغناء عن العالم، وارتباط ذلك باكتمال لا واع كان ماثلا في ما قبل التاريخ الشخصيّ) إلا ّفي ضوء التجديل بينه وهوية الجنس الروائيّ. لكن ينبغي أوّلا فهم ما تتحدَّد بوساطته هوية هذا الأخير.
أظنّ أنّ المركزي في هذا التحديد يمثُل في الطاقة التمثيليّة للرواية، فهي من جهة تنتمي إلى الجنس الحكائيّ الأعلى الذي يستهدف ما هو محدود في الزمن، ويحاول القبض بوساطة المحدود المتغيِّر (المادي غير المعتدِّ به في تحديد الهوية: أرسطو) على غير المحدود (الخُلُقِي)؛ ومن ثمّة يُصاحب كلَّ فعل يسعى إلى تجاوزُ نقص العالم وعيٌ محايث يتمثل في إدراك تعذّر تحقّقه الكامل، ويُبْسَط هذا التعذُّر في هيئة أزمة، ويصير تسريد الأزمة بمثابة سعي نحو مغالبة تدرُّر العالم بوصفه كلّا خفيا لا تُظهره إلّا الأجزاء؛ هكذا لا تكون الحبكة بوصفها كلّا إلّا تظهيرا لكلٍّ شكليٍّ، ومعنى ذلك تظهيرُ الأجزاء بوصفها دالّة من جهة على النقص، ومن جهة أخرى بوصفها تُظهر جزءًا من كلِّ كمالٍ لا يتبدّى بصفة مكتملة، وهذه خاصّية روائيّة أساس تتعاضد مع تعارض الوسيلة والغاية.
وما يجعل فعلَ الذات الروائيّة مُبرَّرًا كونه يسمح لهاته الأجزاء بأن تتجاور من دون أن تتقلّص إلى بعضها، ويكون هذا الفعل الذي يستقطب تجاور الأجزاء مُسرَّدا من خلال تجريبٍ غير متأكّد من نتائجه، وهو تجريب يستند في نسبيته إلى عدم تلاؤم الوسيلة والغاية، وعدم وجود منطلق فهم أوليّ يُؤَوِّل به العالم من حيث هو تبدٍّ جزئيٍّ مُفكَّك ومُدرّر. ولذلك تُقدِّم الرواية نفسها دوما بوصفها تأسيسا خلقيًّا (وعيا مُغايرا) لصيرورة حياة، ويكون الأصل دوما حاضرا بوصفه مبتدأَ انبثاقٍ في العالم. وهذا الأصل زمنيٌّ يحمل في ثناياه علاقةَ التوتّر بين المحدود (الذي يظهر مُمفصَلا عبر آناء) واللا محدود بوصفه لا زمنا غامضا.
وينبغي فهم الأصل بعدِّه ماضيا، غير أن الماضي لا يعني- هنا- دوما حضوره في صيرورة، بل قد يحضر في هيئة مجاز مرسل يُشير فيه الجزء إلى الكلِّ (كأن يشير الأب مثلا إلى ماض غير سعيد). وغالبا ما يحضر الأصل (زمن الانبثاق) بوصفه مُلتبِسا، أو غامضا، بيد أن الذات الروائيّة لا ترى فيه غموضا، بل وضوحا بإمكانه تفسير العالم الـمُجزَّأ.
كما لا يُمْكِن للتجديل بين نقصِ العالم وتدرّره وفعلِ مجاوزته روائيا أن يكون مُبرَّرا إلّا في تعارض التحقّقات مع التصوّرات، وما ينجم عن ذلك من خيبة، لكن الرواية لا تضع النهاية دوما- في مجال تمثيلها العالم- في الاختتام، بل تفعل- ذلك في الأغلب- من خلال استشعار الخيبة ومحاولة تلافيها، ومن ثمة تُعَدُّ الهوية السرديّة في الرواية تجريبا يجعل منها مفتوحة على احتمالات مُستشعَرة، لأنّها تُمثِّل التعيين بالسلب بامتياز؛ فهي تُؤسِّس ذاتها في مستوى الـمُفكَّر فيه أكثر مما تفعل ذلك في مستوى الـمُنجَز الـمُتحقِّق، وذلك بسلب التخلّقي (القائم هنا على التطابق بتضافر مع الجاهز الـمُعمَّم) كلَّ فعاليته بإدخال حركة النفي عليه. وكلّ التحقُّقات هي مجال لقياس فعالية الـمُفكَّر فيه، ومن ثمّة تكون الهوية السرديّة في الرواية نتاجَ تسريد المعاناة من التبدّي الجزئيّ لهذا الـمُفكَّر فيه، لا كلّه.
ولعلّ السبب في تشكل الهوية على هذا النحو الـمُجاوِز غير الـمُحيَّن في نسق واضح هو نتاج اليوتوبي. فهذا الأخير يوضع دوما في زمن مستقبليّ، لا في الحاضر. ومن ثمّة فلا مكانَ له محدَّدا، مكانه الأصيل منتمٍ إلى زمن قديم لا زمنيّ (ما قبل تشكُّل الرمز والقاعدة)، وهو ضائع، ويأخذ الـمُفكَّر فيه بفعل صبغته اليوتوبيّة هيئة بحث؛ ولا يتعلّق هذا البحث بإخضاع صيرورة العالم للتصوّر فحسب، بل أيضا بإيجاد المكان الأنسب لموضعة الفعل، وموضعة الذات من خلاله في سياق أنطولوجيّ مُلائم.
وما دامت اليوتوبيا خُلُقيّة ترتبط بالفردانيّ في تطلّبه الجذريّ، فإن الهوية تظلّ بدورها نتاج موضعات مُستمِرّة للذات تُجاه نفسها وتاريخها، وتُجاه تبدّي هذه الموضعات من خلال العلاقة بالآخرين الذين يشكِّلون مِحكَّ تجريب للذات، لا تكميلا؛ أي أنّهم يعدّون مكوِّنات للوضعية التي تسمح للذات بإقامة موضعاتها في الزمان والمكان، فالفهم لا يتأتّى من الفكرة القائمة سلفا في الذهن، ولا من جاهز إيديولوجيّ، وإنّما من التقويم الـمُصاحب للفعل، ومن عدم تناسب المُفكَّر فيه بوصفه تصوّرا والموضعات التي تجد الذات نفسها مُقحمَة فيها.
وهكذا تكون الهوية السرديّة في الرواية نتاج التعارض بين التصوّر والتحقّقات، وما يتولّد عنه من وهم، ومن ثمّة سيكون من التعسّف إسنادُ هوية مُسوَّرة مفهوميّة ومُجرَّدة إلى الذات الروائيّة، كما هو الأمر في النصوص الحكائيّة العريقة؛ لأنّ المعوَّل عليه في السرد الروائيّ لا يمثُل في تأكيد كُلٍّ ما قبليّ، أو كُلِّيّة قائمة على الوجوب، وإنّما مُجاوزة وضع أُنطولوجي غير مُسعِف للمُفكَّر فيه، ومغالبة تدرّرٍ يُعاني من الافتقار إلى الكُلّ نظرا لقيام الفعل على مُفكَّر فيه مُؤسَّس على الظنّ.
ومن ثمّة فهي هوية تُعاني من انعدام نقطة استناد مرجعيٍّ قارّة تضمن لها الاستمرار في الزمن، إنّها موصوفة دوما كونها نتاجَ مُخلَّفات تجريب، أو مخلَّفات تحققات غير مُرضية. ولهذا فهي مفتوحة، لا بوصفها إطارا يستوعب عناصر جديدة يُشكِّل تجميعُها حزمةً من الأوصاف التي تسمح بالتعرّف النسبيّ إليها، وإنّما بوصفها بحثا مُستمِرّا عن هذا الإطار ذاته، من دون القدرة على تمثّله. فهناك قوّة جذب فحسب يمثلها الفعل، وهي موصوفة بالنفي الـمُستمِرّ لما يضعه العالم أمام الذات من إمكانات الخيار.
—–
القدس العربي