ثقافة الكاتب وأثرها في الرواية .. “خبيئة العارف” لـ عمار علي حسن إنموذجا

(ثقافات)

 د. بيسان خالد علي مصطفى

صب الكاتب المصري عمار علي حسن  في روايته العاشرة ( خبيئة العارف ) الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية عام  مزيجا من ثقافات متعددة ، وحركها بقلمه لتعود إلى الماضي  وتتقدم  لأزمنة العصر الوسيط والحديث والمعاصر . تتحدث عن كنز مدفون تحت إحدى المساجد التي كان يرتادها  الشيخ الصوفي محمد ماضي أبو العزايم المتوفي عام 1937وتصل أخبارها إلى من يجلسون علي الكراسي فيستدعون الدكتور الجامعي المتخصص ( خيرى محفوظ ) ليتتبع هذا الأمر من خلال رحلة في مدن مصر التي كان يتجول فيها الشيخ  لاكتشاف مكان الخبيئة ؛  بمقابل منحه لمنصب معين .

  فكرة القصة تم تغذيتها من الكاتب بشكل جارف بثقافة تاريخية صوفية  تتجلى فيها خبرته ودراساته في هذه المجال وإلمامه بكبار المشايخ ؛ وهو ما أعطى الرواية نفحة روحانية  متوهجة، يطرح فيها قضايا معاصرة من خلال رؤية هذا الشيخ ؛ لتعكس الحال الواقعي الراهن الذي يعيشه البشر من محاصرة لحرية التفكير، الاختلاف في الرأي، الصراع علي السلطة ، تعدد التيارات الدينية،  استبعاد المثقفين، الفساد الإداري والاقتصادي، ومر على أحوال الفقراء والمهمشين، فينتج طرح عجائبي لواقع مهترئ بنظرة صوفية تتأرجح بين الواقع والخيال.

 لجأ الكاتب إلى عملية تعاكس في الأدوار الزمنية  فالشيخ أبو العزايم الذي توفي عام 1937 في مصر هو الشخصية الوحيدة الحقيقة في الرواية، البسه ثوبا دراميا مشهدياً لا لسرد سيرته الذاتية؛  بل لاستنطاق فكره  مع حرصه على عدم  الإخلال بهذا الفكر،  لكشف المستور  بشكل مباشر، أو بالترميز، أو التعريض، أما الشخوص الباقية كانت كلها مختلقة من خياله اظهر ميولها وطمعها وجمالها وقبحها  وبواطنها وحيرتها، أعطاها وصفا وسلوكا واقعيا يمكن أن يكون لها وجود في كل الأزمان، لذا قام  الكاتب بتحريك الثابت تاريخيا، وتعميم الواقع السلوكي منطقياً، ولكي يصل لهذه البلورة الصورية، لم يكتف بدراساته الصوفية علي الورق؛ بل صال وجال على زوايا هذا الشيخ ولقاء مريديه، وحرص علي التواجد في حضراتهم وأذكارهم، والأماكن التي كان يرحل اليها كي يمسك بعوالمه فيرسمها.

   من أهم أدوات استحضار العوالم العجائبية والغرائبية هي لغة الكاتب الشعرية التي يتميز بها في منظومهِ ومنثورهِ، كانت حاضرة وبقوة ،  يغذيها بالجمل الموحية، والمشحونة بالأساطير ، بطروحات ورؤى  فلسفية ، كَسرت قوانين الزمن وحدود المكان ، لكنها  في بعض الأحيان كانت تثقل النص وتبتعد عنه  أكثر من اللازم  ، وان تم رفع  الاستطراد المسهب لبعضها ،  لن توثر علي سير الحدث  أو البناء له . لأنها كانت في ظاهر تزيني خارجي ، لا في صلب الحدث الداخلي .

   تحتل الرموز والإشارات والتأويل مكانا مهما في الرواية ، منها ما يتم إلتقافهُ بسرعة ، خاصة فيما يتعلق بجوانب الفساد ، ومنها ما يصل إلى حد التعمية؛  فيحتاج وقفات طويلة بسبب عملية إعمال الذهن إلى أن يتم تقعيد المعنى علي الرمز وجل هذا الأمر يكون عند وقفات التأمل والانجرار الروحي  ، لذا فان القراءة تكون سريعة في بعض المحطات لقرب الرمز ، وبطيئة عند ابتعادهِ .

   الأضواء التي توجهت على الشيخ أبو العزايم ، تنحصر عنه بالتدريج  لتتوجه إلى شخصية المثقف الجامعي( خيري محفوظ ) الذي يتبين مع مرور القراءة  انه هو البطل الحقيقي ؛ لان الهدف المنشود في الرواية يقع عنده ، فالشيخ ثابت في فكرة  ، ووصل الى محطة رحلة الصوفي المسافر ، لكن يبقى المثقف هو الباحث عن الحقيقة في الرواية الذي جر بالوعي والإدراك ، وعن طريقه يكشف الكاتب حقيقة خبيئة الكنز ، لذا ختم الرواية بنهاية مفتوحة في دلالة مباشرة إلى سحب هذا المثقف في رحلة لم يحدد المصير لها  ؛ ليكون هو  الصوفي المسافر في الباطن بانتقاله من الجهل إلى المعرفة  ، والتخلص من علائق المادة التي تصبو اليها الأرواح ، وليكون في نفس الوقت هو المسافر الظاهري الذي ينتقل من العالم الكوني إلى الموقف الأزلي فيصل إلى ما وصل إليه الشيخ من قبله .

    في الرواية جانب مهم وشيق يمكن أن يكون جزءا من أدب الرحلة يتوهج في تجوال د. خيري محفوظ علي مدن مصرية متتبعا الأمكنة التي يرحل لها الشيخ  ما بين    ( القاهرة ، محلة أبو علي ، البرلس ، كفر الشيخ ، إدفو ، وأسوان ومحافظة الشرقية … وغيرها )  كانت كالمرآة في عكس تصرفات الناس وعاداتهم وما هم عليه من سلوكيات في التعامل مع من يقابلهم ، والأحوال المعيشيّة والأنماط الاجتماعية . تفاصيل بعض هذه المدن عرفها الكاتب من مشاهداته المباشرة منذ كان في مقتبل العمر جوالا في مدن مصر؛ يعمل في مهن عدة  ، مكافحا من اجل لقمة العيش . لذا ظهرت مدنه  بإيقاع  نابض بالحياة  .

 وتحمل الرواية نداءات إصلاحية كثيرة جدا، أبرزها بيان قيمة المشروع الصوفي في تعديل السلوك الإنساني من خلال السفر والترحال من مألوف الأخلاق إلى محاسنها، ومن غفلة القلب إلى يقظته،  ومن القلق والتوتر إلى الاطمئنان والثبات، ليترقى الوجدان وتنتعش الروح في مدارج التكمل والتجمّل. كما تطرح الرواية فكرة مهمة وهي لفت الانتباه  للاهتمام  بالقرى والأرياف التي بدت منسية ومعزولة، وترسخ مبدأ في التنبيه إلى حكمة قد تقول: “لا تشتري كرسيا مقابل أن تبيع نفسك”، ليبقى الكنز هو مؤلفات الشيخ ودراساته وأشعاره وكراماته، ومسرحياته، وأخلاقياته التي تأخذ رمزاً للكنز.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ناقدة وجامعية عراقية، جامعة العراق ـ بغداد

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *