حوار : نوارة لحرش
( ثقافات )
حبيب مونسي روائي وناقد وأستاذ النقد الأدبي بجامعة سيدي بلعباس، صدرت له عدة كتب نقدية منها: “القراءة والحداثة/ مقاربة الكائن والممكن في القراءة العربية”، “نظرية الكتابة في النقد العربي القديم”، “فلسفة القراءة وإشكاليات المعنى”، “فعل القراءة النشأة والتحول”. “توترات الإبداع الشعري”، “فلسفة المكان في الشعر العربي”، “شعرية المشهد في الإبداع الأدبي”، “الواحد المتعدد/ النص الأدبي بين الترجمة والتعريب”، “نقد النقد/ المنجز العربي في النقد الأدبي”، “نظريات القراءة في النقد المعاصر”، كما صدرت له بعض الروايات منها: “متاهات الدوائر المغلقة”، “جلالته الأب الأعظم”، “على الضفة الأخرى من الوهم”. في هذا الحوار يتحدث الكاتب والناقد مونسي عن الرواية ويرى بأنه ليس مطلوبا منها فنيا أن تكون شاهدة على عصر، لأنها لا تملك صلاحية التسجيل البارد والمحايد للأحداث، وإنما للرواية أن تعكس أحوال عصر من خلال حدقة السرد. كما يتحدث عن رواية الثورة التي يقول أنها لم تُكتب بعد، ورواية الجيل الجديد الذي يصفه بأنه “يركب” ولا يكتب الرواية.
كيف ترى وتقرأ الثورة الجزائرية في الروايات الجزائرية؟
– : لعل الذي يُراجع روايات محمد ديب، ومولود فرعون، وعبد الحميد بن هدوقة وطاهر وطار،، وغيرهم من الرعيل الأول الذي اتخذ من السياق الثوري مجالا روائيا تتحرك فيه شخصياته، يكتشف شيئا جديدا، إن هو حوّل عدسة قراءته عن العرض الفني إلى الجانب التسجيلي الذي أثث السرد الروائي في القصة. ذلك الجديد هو العدد الهائل من اللوحات التي عرضت الواقع الجزائري إبان الثورة، إما من خلال تقنيات الوصف، أو من خلال الحوار. وكأن الروائي في لحظة من لحظات السرد، يقرر أن يتحول إلى مسجل للأحداث على طريقته الخاصة. ومن ثم يكتب تاريخه الخاص للثورة. ويكفي أن نستعرض عددا من هذه اللوحات التي تتحدث عن حصار القرى، أو نقاط التفتيش، أو مداهمات المنازل، أو توقيف أشخاص، أو تعذيبهم، أو إعدامهم، أو الإعداد للعمليات، لنكتشف أن كل ذلك لم يأت من الخيال المحض، ولم تنسج حوادثه من مخيلة الكاتب، وإنما كانت الكتابة الروائية في تلك اللحظات تقوم بفعل تسجيلي دقيق، فيه كثير من الحبكة الفنية، إلا أن مادته تاريخية بالمعنى العميق للتاريخ. وتلك نقطة أضعناها -مع الأسف – لما وصمنا ذلك الفعل بالتسجيل الواقعي الصرف، الذي تحاول بعض الرؤى النقدية إقصاءه من ساحة السرد، وها هو اليوم يعود مجددا مع الملاحم التاريخية، أو ما يسمى بالرواية التاريخية، التي تطرح نفسها بديلا للتاريخ بعدما غدت مهمة كتابة التاريخ -في ظروف العولمة وصراع الحضارات ونهاية التاريخ- مهمة مشبوهة على الصعيدين السياسي والحضاري.
هل ما كُتب حتى الآن يرقى إلى المستوى الفني والبطولي والتاريخي والإنساني لهذه الثورة. هل هناك روايات جسدت بعض الشحنات الدرامية للثورة بامتيازات فنية ملحوظة؟
-: إن التجارب التي ذكرنا من قبل – وإن كانت رائدة في مجالها- لا يمكننا أن نقول عنها أنها استوفت حظها من الجانب الفني في تعاطيها مع البطولي والإنساني في الثورة. لأن ذلك يحتاج إلى نضج كبير لدى الكاتب. فإذا علمنا أننا نتعامل مع أشخاص، لم يكن لهم حظ كبير في التعليم، ولم تتسع أوقاتهم ولا إمكاناتهم لمثاقفة نقدية وعلمية في فنهم، أدركنا قيمة الجهد الجبار الذي بُذل من أجل إنشاء عوالمهم الروائية، وأدركنا من جهة أخرى أننا إزاء عبقريات قصصية لو أتيح لها مما أتيح لغيرها من الفرص، لأخرجت للناس روائع عالمية. كما أن هناك حقيقة أخرى يجب تسجيلها في هذا العرض السريع، مفادها أن المستعمر لم يكن ليسمح بمثل هذا النشاط التسجيلي للثورة الذي يرفع شأنها البطولي والإنساني إلى قراء العالم. لأنها بكل بساطة تفضح فيه جرائمه وانتهاكاته لأدنى حقوق الكرامة البشرية. نعم هناك لوحات في روايات محمد ديب، وطاهر وطار، وعبد الحميد بن هدوقة، مرزاق بقطاش، ورشيد بوجدرة، وواسيني لعرج.. وغيرهم من الكُتاب تعالج الجانب البطولي معالجة فنية راقية، تبرز من خلاله الجانب الإنساني للثورة، لأنها تدرك أن القيمة الحقة للنشاط الثوري ليس في البطولة كما تسوقها الملاحم الغربية، وإنما البطولة في المطالبة بالحق، والإخلاص للواجب، والتضحية بالنفس.
هل الرواية الجزائرية على مدى تاريخها وتجربتها عالجت موضوع الثورة التحريرية وكتبتها وقاربتها كما ينبغي فنيا وجماليا ودراميا وبمستويات مختلفة. هل أجادت في تناولها للموضوع، هل الجانب الروائي فيها، حقق المرجو والمنشود في هذا الشأن؟
– : يبدو لي أن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب العودة إلى طبيعة الكُتاب أنفسهم، ثم التساؤل عن إمكاناتهم وعُدَّتهم، هل كان في مقدورهم الفني أن يستوفوا الثورة حقها فنيا وجماليا؟ هل كان في تكوينهم المعطى العلمي والتقني الذي يخول إليهم تجاوز الأحداث والطابع التسجيلي، إلى المناقشة الفلسفية للأحداث ودواعيها وأبعادها؟ هل تكفي العبقرية والموهبة لتغطية هذا العجز في بنيتهم الفكرية والفنية؟. هنا يجب أن يكون المؤرخ النقدي صادقا ليقول: لا.. لم يكن شيئا من ذلك متوفرا بالقدر الكافي، وإنما كانت جهود فردية، واجتهادات محدودة بشرطي الزمان والمكان، ثم جاء التوجه السياسي والأيديولوجي ليحتجز بعضهم في دائرة رؤية معينة لم تنضج هي الأخرى بعد، لا فكرا ولا واقعا. مما جعل الكتابة الروائية تسلك سبلا أخرى غير السبيل الواقعي الذي سلكته مع ثلاثية محمد ديب، ومولود فرعون وغيرهما، لتتحول إلى مفاهيم مغايرة عن الثورة وأهدافها. يبدو لي أن ما يُنشر اليوم من “يوميات” و”مذكرات” بعض الشخصيات التي عاصرت الثورة، والتي صنعت أحداثها بعد أن بلغت من العمر عتيا، وشعرت أن ليس أمامها من الوقت لتسكت، أو أنه من الواجب عليها أن تقول كلمتها لأنها ترى كثيرا من التحريف والتشويه، والرؤية الضيقة، تكتب التاريخ. أقول أن مثل هذه الكِتابات لو فُحصت، ثم اتخذت قواعد لإنشاء نشاط روائي يكتب الثورة من جديد، لا ليسجل، وإنما ليفلسف المواقف ويستخرج منها حيثياتها التي لونت حاضر الناس اليوم، فتفسر كثيرا من الغموض في كبرى التحولات التي عرفتها الثورة. لأن الثورة حِراك ضخم متعدد الأوجه، كثير الأسرار والخفايا، ولا يمكن لريشة فنان واحد أن ترسمه، حتى ولو أنفق العمر كله في مشروع واحد.
هل تأملت الرواية الثورة، هل استنطقتها، هل استثمرتها، هل تمثلتها، ووظفتها بكل ما تحمله هذه المحمولات من زخم ومعاني، هل رواية الثورة كتبت حقا، أم لم تكتب بعد؟
– : رواية الثورة لم تكتب بعد!. إنما أرضيتها بدأت تظهر مع المذكرات الشخصية. إنها تربة صالحة ليتكئ عليها جيل اليوم إذا أراد أن يكتب ملحمة تربط الماضي بالحاضر ربطا متينا. لأن الأرضية ستمكنه من فهم الغامض من الأحداث التي ظلت مغلقة والتي لا تزال تفاعلاتها تسبب ليوم الناس هذا مآسيهم وأتعابهم، وربما فقرهم وتشردهم. إنها اعترافات رجال الأمس لجيل اليوم، يقرأها بهدوء لا ليسخط من التاريخ الرسمي ويعترض عليه غضبا، وإنما ليتخذ موقفا من الواقع، فيعيد رسم حاضره من جديد. ذلك هو سحر الرواية التاريخية التي تُكتب بعد هدأة الثورة واتضاح الرؤية. وتلك هي الاستفادة الكبرى من التاريخ الخاص. إن الذي كُتِب كان مشروطا بالزمان والمكان، ولا يمكن محاسبة أصحابه إلا داخل ذلك الإطار، لأننا لو جئنا نحاسبهم وفق المقاييس التي سطرناها في حاضرنا، بما نملك من رؤى وما جمعنا من فكر، وما قرأنا من نماذج لغيرنا، بخسناهم حقهم في الوجود الفني، وحولنا ما كتبوا إلى تجارب أولية خالية من المعاني التي كان يجب أن تكون في كل عمل يستلهم التاريخ ولكنه يأنف من التسجيلية التاريخية للأحداث. ذلك هو إحساس البعض حينما يرون أن رواية الثورة لم تُكتب بعد، وأنها مؤجلة، في انتظار من يأتي لاحقا ليكتبها.
ألم يرق الأدب الجزائري بشكلٍ عام إلى ما كان مأمولا منه التعبير عنه، هل عجز الكتاب عن ملامسة قيمة الثورة وعن كتابتها، وعن تمثلها روائيا وفنيا؟، وأن هذه الثورة التي تُعتبر من أعظم الثورات في العالم، لم تجد لها مُعادِلات جمالية في النصوص الروائية الجزائرية؟. وأن التعبير عنها بقيّ سطحيا ولم يُلامس الجوانب العميقة الجمالية والفنية فيها؟
– : إنه سؤال كبير أرجو أن تتاح الفرصة للإجابة عنه والتمثيل له من نصوصه حتى لا نظلم أحد. غير أنه يمكن القول صراحة ومن دون مواربة أن التحول في الرؤية الأيديولوجية أحدث إرباكا في الكتابة الروائية الجزائرية، لقد كان التوجه العام في الكتابة الروائية المكتوبة بالفرنسية والعربية، هو انتهاج مسلك الواقعية، وخاصة الواقعية الغربية ممثلة في بلزاك، فلوبير، وزولا، وبروست.. وغيرهم. وعلى غرار ما فعل نجيب محفوظ، ويوسف السباعي، ثم حدث التحول نحو الأدب الاشتراكي بشقه البولشيفي من غير أن تتعمق الرؤية لدى كثير من الكُتاب، فكريا وفنيا، لجدة عهدهم بالتيار الذي اكتسح الشرق وبدأ يزحف نحو الغرب، فحدث ما يشبه الاستجابة الإستعجالية في الأدب والرواية خاصة، واختلطت كثير من مفاهيم القومية، والوطنية، والإسلام، بالفكر الاشتراكي الشيوعي على الرغم من وجود التنافر الصارخ بينها، وتحول فضاء الرواية إلى ما يشبه فضاء التنابز بالألسنة والتدافع بالمناكب، فضاع حق الفن، وضاع معه حق الأدب.
قلت: “الرواية تحمل شحناتها العاطفية في كل جملة وسطر، لأنها في واقعيتها ومتخيلها، إنما تحاول دوما أن تقتطع من الحياتي اليومي شريحة حية تنبض بحرارة المواقف المختلفة لترفعها إلى عالم الفن”، فهل هذا كان حال رواية الثورة دائما؟
– : يكمن الفرق بين التاريخ والرواية في الطابع التسجيلي للتاريخ، لأن مهمته أن يكون شاهدا على العصر، وأن ينقل الأحداث بأمانة على النحو الذي جرت عليه. أما الرواية فليس من شأنها أن تقف عند الأحداث في طابعها الغلف، وأن تسجلها لتثبتها على الهيئة التي جرت عليها، وإنما ديدنها أن تقف عند مواقف خاصة من الأحداث التاريخية، فترفع فيها الجانب الإنساني الذي لا تصل إليه عين المؤرخ عادة، لتفحصه من جديد من خلال تقنية بالغة الحساسية، ألا وهي إعادة نفخ الروح فيه، وبعثه إلى الحياة من جديد بعثا فنيا، واستعادة أسبابه وعلله في واقع جديد يتأسس على المخيلة. إن هذه العملية هي التي يتحدث عنها النقاد باعتبارها إخراجا للحياتي اليومي من الدفق العام لمجرى نهر الحياة إلى عالم الفن الذي يتمتع بسكونية نسبية تتيح للكاتب إيقاف عجلة الزمن في الأحداث وتأملها من جميع جوانبها، ولنا أن نتمثل لها بموقف خاص حينما يتوقف الروائي في لحظة من اللحظات الحرجة ليتوغل بعيدا في نفس الشخصية متجولا في أطراف نفسيتها وما يتوزعها إزاء الموقف من خوف ورجاء، ومن أمل وانتظار، ومن شك وريبة، تذهب يمينا ويسارا، ترتد إلى ماضيها لمساءلته وتتشوف صوب مستقبلها للتطلع إليه. هذه الأحوال وغيرها التي قد تنفتح لها الصفحات تلو الصفحات والتي تجعل من القراءة متعة حقيقية تثري تجربة القارئ بما يتناهى إليها من وضعيات نفسية مختلفة، هي التي تصنع الاختلاف الكبير بين الرواية والتاريخ. فمن أسلم نفسه للتاريخي سقط في التقريرية، ومن ولج عالم المواقف دخل فضاء الفني الذي لا يعترف بالتقرير والتسجيل، وإنما يطمئن إلى طابع المحاورة والتفلسف. لقد ظهرت في كتابات الجيل الأول فلذات من هذا القبيل فيما كتب الجيل الأول، وهي كذلك كثيرة فيما يكتبه الجيل الجديد الذي استطاع الفكاك من الأسر الأيديولوجي الضيق. خاصة وأن قراءات الجيل الجديد قراءات متنوعة تتعدد فيها أصوات الشرق والغرب والشمال والجنوب، فقد انتهى إليها عدد هائل من النصوص اللاتينية والأوروبية والعربية والإفريقية، ونصوص بدأت تشق طريقها من الطرف الشرقي القصي من الصين واليابان الهند والترك، ولكل شعب من هذه الشعوب طرائقه في الحكي والسرد. فالراوي المكسيكي والأرجنتيني يملك مخيلة خاصة ذات طابع سحري، كما أن الراوي التركي والهندي له نكهته الخاصة، ومن ثم فنحن أمام تناصات في أساليب الحكي في كتابات الجيل الجديد، هي أولا مربكة للفعل القرائي، وثانية مدهشة بما تقدمه من غريب مستجد. فهل يصح لنا أن نقول أن هناك ضرب من التميز الفني لدى الجيل الجديد؟. أم علينا دراسة الظاهرة باعتبارها تناصا سرديا من نوع جديد يكتسح الساحة الروائية بما يغري أولا قبل أن يثري؟. أو أن الاستفادة والاستعارة السردية الجديدة تتجاوز عتبة التناص إلى الاستعارة ولبوس الكيفيات التي ينتج بها مخيال آخر واقعه الروائي. قد توصف هذه الكيفية بـ “التقليد” غير أنها المحاكاة التي تنطلق من تأثر بشخص، أو رواية، أو طريق سرد، أو تقنية من التقنيات، لتنطلق مرة أخرى في فضائها الخاص لتكتب نصها الجديد. لذلك لم نعد نرى سمتا واحدا لدى مؤلف واحد عبر نصوصه المتتالية كما كان الشأن لدى الجيل الأول. وأصبحنا نجد ألوانا من النصوص تختلف من رواية إلى أخرى لدى الكاتب الواحد، ومن ثمة نراه في كل محاولة يعول على نصه الجديد ويقف منتظرا ردود الفعل من قرائه وناقديه.
هل الرواية كانت شاهدة على كل ما مرت به الجزائر من ثورات وتحولات بما فيها محنة وعشرية الدم والإرهاب؟ بمعنى آخر هل الكتابة كانت شاهدة بامتياز على كل هذا؟
-: أولا ليس مطلوبا فنيا من الرواية أن تكون شاهدة على عصر، لأنها لا تملك صلاحية التسجيل البارد والمحايد للأحداث، وإنما للرواية أن تعكس أحوال عصر من خلال حدقة السرد. أي من خلال متخيل أعيد إنشاءه مرة أخرى، لا ليسجل حدثا وإنما ليعيد خلقه من جديد حسب ما يمليه موقف خاص. لذلك يتوجب علينا أولا أن نفهم مقولة الموقف لنبتعد بها عن الحدث الذي جرى استخدامه في النقد الروائي. فالحدث أمر يقع في الزمان والمكان متعلقا بعلل وأسباب. بينما الموقف أمر خاص، داخلي، ذاتي متصل بحدث ما اتصالا نفسيا أو فكريا وحسب. ومن ثم قد يكون الحدث عرضا تافها في مكوناته وأسبابه وعلله، بيد أنه في تعلقه بالذات موقفا يرتفع إلى مستوى التأمل العميق الذي تنجر عنه تحولات في النفس والأخلاق والقيم. والسؤال الآن، هل استطاعت الرواية الجديدة أن تفعل ذلك؟، ربما يجيب كل روائي – لو سئل- أنه حاول ذلك واجتهد، وآثار الاجتهاد بادية في كثير من النصوص التي أدرك أصحابها أن ليس عليهم تسجيل الأحداث وحسب، وإنما عليهم إعادة بعثها في نصوصهم بعثا فنيا يكتب واقعا أنشئ ثقافيا على صفحات الرواية. وأن ليس عليهم التهويل وكثرة الصراخ، وتلطيخ الصفحات بالدم، والإكثار من ذكر القتل وانتهاك الحرمات، وتخريب القرى وحرق المنشآت، لتكون الرواية ناطقة بفظاعات العشرية السوداء. بل عليهم واجب خاص اتجاه الفن، وآخر اتجاه الواقع. فواجب الفن أن نقدم نصا هادئا، قويا، ورصينا، وعميقا، محبوكا أسلوبيا، وواجب الواقع أن نقدم واقعا محتملا، تمت تصفيته من كل الشوائب التي تعلق بالحياتي عادة، مركزا في جزئية إنسانية، أو عاطفية، أو فكرية، يصلح لأن يكون واقعا إنسانيا حتى وإن اختلفت الجغرافيا والألسن والأزمنة، لأنه يصير بذلك “التجريد” واقعا إنسانيا مطلقا على الرغم من تسميته بأسماء محلية.
هل يمكن القول أن الرواية الجزائرية أرخت وأبدعت في تأريخها، أم أرخت وجانبت الإبداع في كثير من النماذج؟
-: إن الجمع بين الرواية والتاريخ على هذا النحو يربك الفكر النقدي أيي ارباك. لأن الجمع بينهما على النحو التالي يكشف عدم تمثل لحقيقة كل منهما، ومن ثمة يكون الناتج المترتب عن ذلك الجمع غامطا لحق كل منهما، لأن للتاريخ روايته، ورواية التاريخ هي سرد الواقع لغويا وتسطيره كتابة، ومراعاة الموضوعية والأمانة في كل ذلك. أما رواية الرواية، فأمر مختلف تماما، لأننا سنكون أمام قصة واقعية كانت أم متخيلة، نرويها بطريقتنا الخاصة. فالقصة وأحداثها تقع خارج السرد الروائي مطلقا، ويمكن لأي كان أن يستعيدها بطريقته الخاصة كتابة أو مشافهة، ولكن حينما يقبل عليها الروائي ليرويها تتخذ من صاحبها لبوسا يعطيها شكلها المتميز، وتستعير من مشاعره الخاصة ما ينفخ فيها حياتها الجديدة، فتتنفس بأنفاسه، وتتحرك بحركته، وتحيا بحياته فكرا وثقافة وتدينا وسياسة، وما شئنا لها من هيئات، فهي بذلك تاريخ صاحبها أولا وأخيرا كُتب فنيا، فهي شاهدة عليه هو قبل غيره، وتشهد على واقعه الذي يرفعه من خلال السرد، فإن رفع إلينا الروائي لوحات من السنوات السوداء، فهو يرفع إلينا رؤيته الخاصة للأحداث. ومن ثم تكون الرواية ذاتية مغرقة في الذاتية من جانب، ومن جانب آخر تكون الرواية شريحة اجتماعية يستفاد منها باعتبارها تجربة لإنسان له القدرة على بسط مواقفه من خلال شخصياته المتناقضة عبر نسيج السرد الروائي. إننا لن نتعلم منها جديدا يضاف إلى التاريخ أبدا، وإنما نتعلم منها رؤى فردية تعاملت مع التاريخ وقدمت فهمًا خاصًا له. ذلك ما يجعل النقد قادرا في نهاية المراجعة على تجسيد الرؤية الفكرية والنفسية والذاتية التي عاصرت الأحداث أو نقلتها فنيا. وذلك ما تعجز رواية التاريخ الكشف عنه.
برأيك متى تتخطى الكتابة التأريخ المندرج غالبا في السياق التوثيقي والخبري إلى ما هو إبداعي وفني محض؟
– سيحدث ذلك حينما يتم التفريق الحاسم بين رواية التاريخ ورواية الرواية، حينما يدرك الكاتب أن ليس عليه أن يسجل الحدث لأن التسجيل ضرب من الحشو الذي يتخم النصوص بالجزئيات التافهة والأخبار المعترضة التي تشوش ذهن القارئ ولا تترك له فرصة التدبر، بما تجرفه من أسماء وأفعال وعواطف. فليس من شأن الرواية أن توثق وليس المطلوب منها أن تحشد في صفحاتها كل شيء، إن القارئ حينما يلجأ إلى الرواية إنما “يهرب” من واقع كثير الضجيج، كثير السطحية، مجاني العواطف، مبتذل اللغة، إلى عالم تمت تصفيته وأزيلت عنه كافة المثبطات التي ذكرناها، ليُقبِل من خلاله على تجارب خاصة في مواقف خاصة، تنبض بالحياة والفكر. فلو أوقفناه ساعة أمام عذابات فلان المادية، فلن نغني معرفته بشيء يراه يوميا على قارعة الطريق وفي عناوين الجرائد الصارخة في وجهه صباح مساء. ولكننا حين نوقفه على خيط رفيع في إنسانية مهدورة الشرف، أو مقهورة العاطفة، أو مغبونة الرأي، نكون قد رفعناه إلى عتبة التدبر التي تجعله كائنا “متحولا”، نعم، “كائن متحول” أي: قابل للتحول من أفق إلى آخر أعمق وأكثف وأفضل، إذا حققت الرواية هذا الشرط، فقد حققت لنفسها الانفصال التام عن التوثيق الخبري الذي هو للتاريخ، إلى فضاء رسالتها الحقة التي من أجلها أنشئت أصلا، فأولى مدارس التربية والتكوين منذ فجر التاريخ، كانت الرواية، حينما كان يعود الصياد الأول ليروي لقبيلته كيف عارك الوحش، وقتل الطريدة، وأمن الغذاء، كان يلقي بخبرته في قلوب الصغار قبل إلقائها في عقولهم، وكان يغري الكبار بمجد يمكن حيازته والتباهي به مساء حول المواقد التي تعطرها روائح الشواء. فلم يكن يفعل ذلك من أجل تسجيل باهت بارد لحدث من الأحداث، وإنما كان يفعل ذلك لأحداث تحولات في سامعيه، كل على قدر طموحه وقدرته وفضاء تخيله، ذلك هو سحر الرواية.
صرحت مؤخرا -أن الجيل الجديد لا يكتب “الرواية” ولا “يجرّب”، وإنما “يركب”، إنها وضعية مريحة للكاتب- وهذا ما أثار استياء بعض الكُتاب من الجيل الجديد، ما رأيك، أليس هذا حكما قاسيا على تجربة هذا الجيل؟
-: قال الشاعر: “فمن يك حازا يقسو أحيانا ويرحم”، نعم الجيل الجديد “يركب” “compilation” وعلى عادته في التسرع أُخذت الكلمة على أنها انتقاص من حقه، مع أن الكلمة موجودة في حقل الموسيقى بامتياز، حينما يقوم المؤلف الموسيقي بدمج أصوات مختلفة في قطعته، قد تكون أصواته التي ابتدعها من قبل، وقد تكون أصوات غيره يستعيرها ليقوي بها رسالته الصوتية. والحقيقة المُشَاهدة اليوم أننا أمام جيل يقرأ من كل الاتجاهات: لاتينية، أمريكية، أوروبية، تركية، صينية، يابانية، أي من خيرة ما يُنشر ويُترجم، ثم تغريه الكتابة بأن يستعير، يركب، ينحو نحو فلان وفلان في السرد، وليس من عيب في هذا أبدا، لأنه تلمس واجب لطريق أو عدة طرق قبل الاستقرار على كيفية يستريح لها وتتسع لمشاريعه الروائية القادمة، فلا يظهر سمت الروائي في نص أو نصين أو ثلاثة، وإنما يتطور السمت عبر النصوص ليبلغ ذروته في أعمال تنال حظ العالمية بمعنى أنها تلامس الإنساني المطلق في مواقفه وتطلعاته، وليس معنى العالمية في الجائزة المشبوهة. حينما أقول أن الجيل “يركب” أقصد مرحلة نقدية تمر بها الرواية الجزائرية، لو سألنا روائيا يحترم فنه، ويحترم النقد، وقلنا له هل استقر بك قرار السرد أو لا يزال مضطربا؟ فسيقول أنه في طريق الاستقرار بعد نصه الفلاني، وأن الرواية بين يديه بناء قد اكتمل قبل الشروع في كتابته، وأن هندسته من موضوعه، لاحت تباشيرها منذ الوهلة الأولى التي بدأ التفكير في موضوعها، لأن التركيب هيئة واحدة من جملة الهيئات التي تحتاج إليها الرواية، وليس التركيب هو مبتداها ومنتهاها، وكل روائي صادق مع فنه يعتبر نفسه حِرفيا أولا قبل أن يكون فنانا، والحرفي فيه هو البناء الذي لا يشرع في بناء ما إلا والمخطط الهندسي بين يديه مع جملة ما يحتاج إليه من مواد وأدوات وأعوان، نعم للروائي كذلك أعوانه الذين يساعدونه في البناء، إنهم: التاريخ، الفلم الوثائقي، الخبير، الطبيب، المحامي، بائع الخضر، الماشطة، هكذا قال من قبل ابن الأثير في أدب الكاتب، الروائي في حاجة ماسة إلى كل هؤلاء ينقل عنهم علمهم وخبرتهم، يستشيرهم وينقل عنهم، لأنه يتوجب عليه -في واقعه المتخيل- أن يكون كل هؤلاء، وتلك مسؤولية –لعمري- تجعل من الرواية فنا عزيزا، شديد الحساسية.
قلت أيضا أن جيل الروّاد من الروائيين سيّسوا وأدلجوا الرواية، أما الشباب فليس في همهم الالتزام بقضية، وإنهم لا يكتبون الواقع، وإنما ينشئونه إنشاء، إنه واقعهم الخاص كما يريدونه هم. برأيك هل وظيفة الرواية الجديدة هي إنشاء الواقع لا مقاربته ومعالجته وتشريحه إبداعيا وفنيا؟
– : نعم، ليس من شأن الرواية أن تعيد إنشاء الواقع على هيئته التي هو عليها، فذلك تحصيل حاصل، وإنما عليها أن تنشئ واقعها الخاص الذي يرتفع عن الواقع المعطى درجات وأن تخلصه من الشوائب التي تعلق به عادة لتصفي المواقف تصفية تجوز معها مستويات التأمل والتدبر، فلسنا ننفق قدرا ثمينا من الوقت والجهد من أجل أن نرى على الورق ما نراه في الشارع، وإنما ننفق الوقت لنجد في الواقع الجديد ما نؤثث به فهمنا للحياة من خلال مواقف غيرنا ولو على سبيل الافتراض. لا نقرأ لمتعة، وإنما نقرأ لنزداد حياة.
—————————
(جريدة النصر الجزائرية )