مدارات “النكتة” بين فضاءات النصوص والخطابات

  • عمر الرداد

تجيب النكتة على تساؤلات مستويات التلقي المتعددة التي تستبطن سؤال مرجعية الدهشة والانشداد والذهول لما تتلقاه حواسنا، لا سيما “السمع والبصر” عند سماع “نكتة” جديدة او وقوع نظرنا على صورة تتضمن رسما قادرا على خلق ابتسامات على وجوهنا، ربما تصل الى حد القهقهة.

ومع ذلك يبقى السؤال مفتوحا لماذا نبتسم اونضحك مع النكتة ما الذي شدنا اليها، وما الذي اضحكنا فيها او منها ؟ هل هو ذاك النص بما يتضمنه من حسن سبك وترتيب في بنية النص واسلوبية الصانع في التوليف والتقديم والتأخير والاستعارات والتشبيهات والكنايات والمفارقات…الخ ،وكل ما أنتجته البلاغة الكلاسيكية من بيان وبديع وقواعد صارمة، ام ان الذي شدنا واضحكنا الدلالات والمعنى الثاني والثالث لها في “خطابها”، ذاك المعنى الغائب الحاضر، المتواطؤ عليها بين المرسل والمتلقي، اللذين تبادلان المواقع في الارسال والاستقبال معها؟.

ولكي لا يستغرق الأمر منا توقفا عند محطة جدليات النص والخطاب، وإن كنت أزعم أنه ليس عادلا ان يستمر التعامل مع تلك الجدليات بوصفها ثنائية ضدية، ولدت في مقاهي العواصم الأوروبية بجدالات بين المثقفين وكتاباتهم، وهي ذات مرجعيات فلسفية، وثبت ان النصوص الجيدة تلك التي تجمع بين البنية والمعنى، فليس من نص لوحده كافيا لأن يكون جيدا، حتى لو تضمن خطابا اكثر جودة منه، واذا سلمنا الأمر بهذه الصورة فإن سؤال النكتة ” قراءة وتحليلا وتفكيكا” يبقى مطروحا، حتى في إطار عناوين الشكل والمضمون، لا سيما وأنها هدمت وبصورة ثورية قواعد ومنهجيات النقد القديم والحديث.

فالنكتة خطاب احتجاجي صارخ بوجه اللغة ومعيارياتها بقواعدها الصارمة الجامدة، تستلهم براغماتية تواصلية لا تقيم وزنا ولا تاخذ اعتبارا لقواعد اللغة، لأن هدفها الأول والأخير هو المعنى” الرسالة” هذا المعنى الذي لا يحتاج بالضرورة للمتلقي والقارئ الخبير والنوعي، رغم فروقات مستوى التلقي في التاويل، والتي تبدو أقل حضورا في النكتة.

وفي بنيتها ، فان “شعرية” النكتة تجيب بثورية على قضية التجنيس، وتضرب عرض الحائط بهذه القضية لتقف وتقول: انا نتاج العصر بلغته وثقافته وسيولته وحتى ميوعته، أنا ضميركم الخائن المرعوب الحي الميت، قاتل حراس السنتكم، لم انزل كائنا فضائيا غريبا، ولدت من الطرفة والمسرح والمقالة الساخرة والكاريكارتير، ووفرت لي وسائط التكنولوجيا الحديثة ان اكون لسان حالكم، معبرا عنكم في لحظة صدقكم وانكشافكم وعريكم في غرفكم المغلقة، لا بل اني الشمس التي دخلت غرفكم ، رغم سماكة ستائر نوافذكم،لم يعد هدفي اليوم ان اضحككم فقط، بل ان افتح نافذة في عقولكم لتعيدوا انتاج الاسئلة، فالمعرفة والوعي انتجتهما الأسئلة المفتوحة، وليس الاجوبة المعلبة المغلقة، ذات الصلاحية المنتهية.

إن جوهر النكتة بخطابها الساخر ولغتها المائعة يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى مقارعته وتمسيخه لخطابات السلطة الفوقية الاذعانية والعلوية، تلك السلطة التي نصبت نفسها مسؤولة لا شريك لها عن ثلاثية المسكوت عنه” الدين والسياسة والجنس” وتصدر خطابات مغلقة ليس على المتلقي إلا التسليم لها، لذا ترى النكتة هدمت ثلاثية “المرسل والرسالة والمتلقي” فمات مؤلفها، والمتلقي صار مرسلا ومستقبلا، فيما قلبت رسالتها رأسا على عقب.

وعليه، فإنه وبعد دراسات مستفيضة حول هذا النوع الأدبي الذي يجاهد للحصول على شهادة اعتراف به، وجدت ان مقولات الناقد الفرنسي” رولات بارت” الى جانب مفاهيم نقدية اخرى هي الأكثر موضوعية في قراءة النكتة وتفكيكها.

فالنكتة وفقا لمفاهيم بارت حول السيميولوجيا، تشكل أحد أبرز مفاتيح دراستها ، لا سيما وأن قيمة النكتة بالخطاب وليس  بالنص، وفي تفسيراته ل” لذة القراءة والمتعة” فإن في النكتة لذة، تتمثل في الابتسامة اللحظية التي تولدها عبر المقارنة والمفارقة التي تعد أحد أهم شروط بنائها، غير ان هذه اللذة سرعان ما تنتهي، وتذهب بالمتلقي الى المتعة في حقول ما وراء النص، واذا كان بارت قدم منهجية لقراءة الصورة بالتمييز بين القراءة التعيينية والتضمينية للصورة” الدال والمدلول” فإن توسع النكتة باستخدام الصورة بما فيها مقاطع الفيديو المسرحية، تبدو الأنسب في قراءة النكتة .

بيد ان الأمر لا يتوقف عند بارت وحده،اذ ان لمدرسة النقد الثقافي حصة كبيرة في قراءة النكتة، فالنكتة نسيج من الأنساق المضمرة والأفكار الكبرى، معانيها خارج مبانيها، ضربت خريطة جاكبسون في ثلاثية الاتصال، خاصة عند المرسل والمتلقي، فيما بقيت رسالتها.

واذا كان الحجاج بوصفه جوهر البلاغة الجديدة قد غاب عن النكتة، فإن النكتة استحضرت وبخبث ودهاء ما يعرف ب”جماليات القبح” فالالفاظ والصور القبيحة في سياقات النكتة تبدو مقبولة الى حد ما، مقارنة مع سياقات اخرى، غير ان تداولية النكتة وما تشكله من مواقف جمعية تستدعي بالضرورة مقاربة ” الفعل التواصلي” الذي تحدث عنه هابرماس في تنظيراته حول مآلات مواقع التواصل الاجتماعي والديمقراطية الشعبية.

لقد أعادت النكتة تموضعها وانتجت نفسها بصورة جديدة تستجيب لمتطلبات العصر وبصورة ثورية جديدة جوهرها الاحتجاج والرفض لكل ما هو قائم، وهو ما يجعل منها مادة دراسة وبحث ليس فقط في إطار العلوم الإنسانية والاجتماعية، بل بوصفها نموذجا لتداخل اللغة مع العلوم الأخرى التي من خلالها توفر أرضية لتفسيرها.

مؤكد ستجاهد النكتة وتواصل حربها الضروس ما بين إيمان المؤمنين بالتطوير والحداثة، والمتخندقين خلف أسوار وجدر، يعلون بنيانها ،مادتهم الهواء والبخار، وحلقات البكاء واللطم على ماض لم يعد يوما ولن يعود، لا يضيرها ان يقال عنها وفيها” هرطقة” ولا توصيفها  بالانتماء للأدب الشعبي، وأنها مادة حثالة البلوليتاريا، ومجالس السمر، بعد ان غادرت القصور، فمتلقي النكتة اليوم شريك بها، لم يعد جمهور تصفيق، ينتظر السلطة كي تأذن له بالضحك والتفكير.

  • كاتب ومحلل سياسي أردني

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *