“بنت الفراهيدي” ليوسف رزوقة.. الرواية إذ تختار جمالياتها

*سوسن جميل حسن

“أمّا الرّواية، وهي في أجواء لا مسبوقة، من دون ادّعاء مفرط منّي، فقد أرهقتها بـ”لزوم ما لا يلزم”: استدعيت فيها، أو لها، جدّي الفراهيديّ، فاحتضنته من دون تمنّع.. جعلته موسيقى لها.. فروايتي “جسد” يحبّ سماع موسيقى، وإن خفيت، تحرّك كلّ عضو فيه.. موسيقى تقول الصّمت والضّوضاء داخله وخارجه.. وهذا لم أرده لها… فقط، هي أوقعتني في الشّراك. ألم توشوشني، قبيل نشوئها، قالت: وأنت تفكّر، اكتبني بإيقاع الحياة رواية شعريّة.. قاطعتها: لا، سوف ينعتني الرّوائيّون أنفسهم بأنّي شاعر ضلّ الطّريق إليك والنّقاد سوف يرون ذلك محض حذلقة ومعصية لنوعك ثمّ سوف تصنّفين لقيطة من غر أجناسيّة وبلا أب مع أنّني، وأنا أبوك، فحاولي قتلي، أردت لك الخروج إلى الهواء الطّلق في زيّ رياضيّ وكلّك كتلة من كلّ شيء.. الشّاذلي حمباز والنّسناس فيك ركيزتا ما أنت فيه من احتدام النّار والحركات، ترشيش: المدار وأنت شاهدة العيان فأرّخي ما نحن فيه بكلّ تلقائيّة ودعي الفراهيديّ في مضماره..
لكنّها امتنعتْ فلم تر، وهي نطفة نوعها، إلاّ الفراهيديّ، إيقاعًا لها، فرضختُ مغلوبًا على أمري، وها هي في مواجهة الفضوليّين، قرّائي، تحاول وحدها إيجاد صكّ براءة لوجودها، فيما مؤلّفها، أنا أو فليكن غيري، يجدد نفسه فيها، بها..”، ص168.

هذه الفقرة من الباب السادس من مقطع تحت عنوان “مدينة الإيقاع”، من رواية الشاعر والكاتب التونسي، يوسف رزوقة،” بنت الفراهيدي”، الصادرة حديثًا عن دار زينب. وعلى طولها، كاقتباس من النص، فإنها إشهار استباقي من المؤلف لتجريبه الذي يحمل ما يحمل من التحدّي، لنفسه في الدرجة الأولى، وهو يرتاد هذا الجنس الأدبي “الرواية”، مع العلم أنها ليست الأولى له، بل السادسة، فازت قبلها روايته “ريكامو” بجائزة الإبداع التونسي في العام 2016، وبعدها قدّم “أعشاش مغشوشة”، وفي معظم أعماله يخوض في الواقع التونسي بشكل خاص، وتشغله الأسئلة الوجودية في ما يخص البشرية جمعاء، فلا يغيب عنه الواقع الديستوبي المهيمن في معظم بقاع الأرض، كما انتهى في روايته هذه “بنت الفراهيدي” بواقع البشرية أيضًا بعد تفشي وباء كوفيد 19، مستذكرًا ما كتب العراف “نوستراداموس” في القرن السادس عشر، متنبّئًا بمستقبل البشرية، وبأن العام 2019 سيكون عام البؤس في أنحاء العالم، وبما يحصل في الشرق الأوسط، أيضًا، في لحظتنا الراهنة.
لن ألخّص الرواية هنا، كي أفسح المجال لناحية التجريب الذي أقدم عليه بكل جرأة وتحدٍّ الكاتب. يكفي أن أشير إلى شخصيتين من العمل، الشاذلي حمباز، الذي يمكن اعتباره ظلّ المؤلّف، وبالتالي الشاهد على التاريخ منذ ولادته، أي الشاذلي، في العشرين من مارس 1957، إلى اللحظة الراهنة، وهو على ما أخمّن عمر يوسف رزوقة، التاريخ الذي عرف كيف يحقّبه إلى فترات هي سيرة هذا الشاذلي، ابن القاع كما يصف نفسه، الذي عاش محروم الأب والعاطفة، وتأثر بأستاذه العجمي الذي نمّى فيه حبّ نيتشه، فراح الشاذلي يصنع من نفسه الإنسان القوي المتفوق، ويعرض السردُ، على لسان الراوي العليم في معظمه، وفي ومضات على لسان الشخصية نفسها، حياته بين تشكّله ووصوله إلى العز والجاه والمجد والمال، كملاكم مشهور صنع شهرته بشكل خاص في الاتحاد السوفييتي أيام غورباتشوف، ثم عاد إلى ترشيش/ تونس العاصمة، تحت نوبة حنين وإحساس عارم بالوطنية، وبأن بلاده تحتاجه، حتى بلغ به التماهي مع مشاعره أن يقدم تقريرًا أمنيًّا إلى مكتب الرئيس عن عصابة تجارة الأعضاء، من دون أن يفهم أن العصابة هي من تلافيف السلطة، وعرابها ابن أخت الرئيسة، في إشارة إلى مرحلة زين العابدين بن علي، ويسرّ لصديق مقرب من السلطة الفاسدة أنه يريد الترشح للانتخابات الرئاسية، فيشي به هذا الصديق، ليستدعى إلى التحقيق، ويخضع للتعذيب ومصادرة أملاكه كلها، وينتهي بملاكم مهزوم مبتور الساقين يقضي وقته على كرسي بعجلات، يصادق الحمام، ويبقى في موقع المراقب للتحولات السياسية والمجتمعية التي تحصل في تونس، منذ ثورة الياسمين في العام 2011، إلى اليوم. وبعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي فاز فيها الرئيس الحالي.
الشخصية الأخرى، المستقبلية هي حذام، التي يستهل الراوي الرواية بها: أما حذام، فتلك رواية أخرى. حذام التي نتعرف عليها في الباب الأول تغيب ولا تظهر إلّا في الباب الثامن، من رواية توزعت على عشرة أبواب، وهي ابنة الشاذلي من فيروز، المرأة التي نهض على أكتافها وصنع مجده في بلده قبل أن ينفصلا ويذهب إلى الاتحاد السوفييتي ويتزوج هناك من رحيمة، التي تركها مع ابنته بالتبني منها في موسكو، وجاء ترشيش ذا ملاءة عارمة، طمح بخوض مجال السياسة، لكنه لم يكن خبيرًا، وليس لديه أجندة، وواجهته آلة الفساد. يكتشف ابنته من فيروز التي عاد إليها بعد حرب طاحنة وانتقام بينهما، متأخّرًا، فتمتلئ نفسه إعجابًا وفخرًا بها وببرنامجها، الذي هو الحلم المأمول بالنسبة للراوي والكاتب والبطل، حذام التي كان هدفها إصلاح ساعة جدها، القشتالي، بعقاربها عكسية الدوران، وقيادة البلاد للخروج من أزماتها، والوقوف على قدميها، ثم التنحي بعدما أدت دورها من دون أن تترشح لفترة أخرى.
“بنت الفراهيدي” هي تجربة الكاتب التي يمكن تسميتها “ميتا رواية”، بما تتصف من أبعاد سوسيولوجية وثقافية، فكما يبدو من الاقتباس السابق، بذل المؤلف جهدًا كبيرًا في إخراج الرواية وفق تفكير نقدي مارسه في أثناء كتابتها، فهو واع تمامًا بما يقدم عليه وما يجرّب بواسطته، وما يظهر في النص أن المؤلف واع لما يلتقط من مظاهر سوسيولوجية وانزياحات في القيم وتهتك في المجتمع والإنسان، ولا يرى ما يدعو للاطمئنان في العيش المحكوم بالآليات الواقعة، أو السلطات المتحكمة بالواقع، وما ذكر النسناس وإصراره عليه، مستدعيًا إياه من الميثولوجيا الشعبية، إلّا دليلًا على هذا النقص الفادح في التجربة التي لم يكتب لها النجاح، تجربة الثورة.
تبدو الأسئلة التي تطرحها الرواية بإلحاح أسئلة وجودية تنمّ عن إحساس المؤلف بأن اللحظة الراهنة التي تعيشها تونس، ويعيشها العالم، لحظة من اللا يقين، الشك، الغوص في إشكالية الواقع والبحث عن طرق أخرى لمواجهة هذه الإشكاليات.
“ترشيش إيقاعاتها مختلّة، مختلّة إيقاعاتها ترشيش.. كرّرها المؤلّف، وهو حيّ ميّت أو ميّت حيّ، يباشر سرده، بتطرّف قاس ويستدعي الفراهيديّ” ثم يتابع: حلّ المؤلّف في الفراهيديّ فاستدعاه، منذ اللّحظة الأولى، ليسكن في خياشيم الرّواية راويًا، عينًا عليها وهي في حكم البناء فضابطًا إيقاعها.. استدعاه، لا ليقول إيقاعاتها كالببّغاء، وإنّما ليموسق الفوضى بتفعيلاته”.
وبما أن الإيقاع ثيمة أساسية في انشغالات الرواية، فإن المؤلف يرى اختلالًا في الإيقاع المهم في الحياة، اكتشف المؤلّف سرّ ترشيش الدّفين، وزخم إيقاعاتها المختلّة، انخرام نظامها وفساده.. اكتشف النّشاز ونحوه، في سوق شعب غامض الأهواء، لا متجانس، صعب المراس..”. وهنا كان رهانه، فهو إذ اختار عدةً بحور للفراهيدي ليشتغل نصّه بموجبها، ودوزن الإيقاع لتنطلق الرواية بكل عناصرها كجنس أدبي، مثل قصائد مرسلة، فإنه كما يقول: الوزن فيها، وجه إيقاعي تم استثماره، بلا تكلّف، على نحو “إيكوستيكي”، قصد تحقيق “أدبيّة” ما، منسابة في نص سردي، متراكب المستويات الإيقاعية المتفاوتة. هي رواية المدينة في مراوحة بين إيقاعين، قديم وحديث.

في هذا العمل، نرى إلى المؤلف منخرطًا مباشرة في عمله، يعبّر عن آرائه ووجهات نظره، متدخّلًا في عمله أمام القارئ، ربما يدعوه للمشاركة في قراءة النص ومساراته، فهو مدرك لذاته، عارف ما يصنع، ويرفض مقولة موت المؤلف، في حوار مفترض بينه وبين الناقد: ما العيب في استدعاء معماريّة كـ”زها حديد” لاقتراح مجسّم من وحي “دريدا”، و”غادامر”، والجدّ “الفراهيديّ”، لاستنباط شيء يجعل الحجر الأصمّ يسيل موسيقى، ويجعل صاحب “المعمار” يرقص، وهو في سحر، على إيقاعه؟ لا عيب، قال النّاقد.. التفت المؤلّف: لا تقل “مات المؤلّف”، إنّني عصب الرّواية، إنّني فيها وخارجها وإنّك، لا محالة، قاتلي.
عندما يصطدم القارئ بالعتبة الأولى للكتاب، العنوان “بنت الفراهيدي” يخطر في باله للوهلة الأولى أنها اسم لشخصية محورية ضمن النص، لكن يبدأ الشك يتسلّل إلى وعيه مع تغلغل الإيقاع فيه، هل يقرأ شعرًا؟ بلى، هو شعر، فالكاتب سعى إلى إذابة أو تذويب الإيقاع في تلافيف النسيج السردي، بما يشبه تقنية الـ”Fondu”، أي تغطيس قطع الفواكه، أو غيرها، في الشوكولا المذابة، محقّقًا بنية إيقاعية ضمنية فنيّة، لقد قام بتعويم القوالب الوزنية وصهرها في قوالب مدوّرة ومرسلة، فخرجت “بنت الفراهيدي”، الرواية.

    • عن موقع ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

ما سرّ فشل الرواية العربية في تحقيق مبيعات في الدول الغربية؟

(ثقافات) بمناسبة افتتاح معرض لندن للكتاب 2024: ما سرّ فشل الرواية العربية في تحقيق مبيعات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *