*د.محمد عبيد الله
أصول إلياس فركوح اليونانية غير البعيدة، وتنوُّع شجرة أنسابِه، منحته نعمة الهوية المتعدّدة المركّبة، بدلًا من الهوية الواحدة المحدودة، وبنى على ذلك التنُّوع والتركيب أكثر آرائه الفكرية والأدبية؛ من نظرته إلى اختلاف الثقافات والحضارات، وحتى تداخل الأجناس والأنواع الكتابية. وفي ضوء ذلك لا نستغرب حنوّ قصته وروايته على الشعر والمسرح والصحافة والفنون المختلفة، من الناحية التقنيّة، كأنّها تتجاوب مع ذلك التنوُّع الخصب الذي تخبِّئه روح فركوح وتكوينه العميق، بحيث يغدو النَّسيج السرديّ كرنفالًا للتنوُّع والتداخل بعيدًا عن واحديّة الجنس والنوع الأدبيّ.
رَحَلَ صديقُنا الكاتب والأديب الكبير إلياس فركوح (مواليد عمّان 1948) منتصف تموز (يوليو) الماضي على نحو مباغت، وعلى الرغم من معاناته منذ سنوات مع بعض متاعب القلب فلم تكن حالته الصحية تؤذن بشيء من الخطر، ويوم رحيله أتمّ يومًا من أيامه الاعتيادية الأليفة بين كتبه وأوراقه في “دار أزمنة” التي أسَّسها عام 1992 (بعد تعثّر مشروع دار منارات التي أسَّسها في ثمانينات القرن الماضي بالاشتراك مع صديقه الشاعر طاهر رياض). ظلَّ إلياس يدير أزمنة نحو ثلاثة عقود محافظًا على بقائها وحضورها حتى اللحظة الأخيرة من حياته، وقد نشرت مئات الكتب المهمّة، وتبنّت الأصوات الجديدة الأردنية والعربية وأسهمت إسهامًا فاعلًا في تجسير الهوّة بين الأجيال من خلال احتفاء فركوح بالمبدعين الجُدُد ودعمهم وتقديمهم دون أبويّة منفّرة للساحة الثقافية. وكانت جلسته الختامية التي اختلسها من ظروف الحجْر في ظلّ انتشار (كورونا) من نصيب صديقه الناقد والمثقف الكبير فيصل دراج الذي ظلّ يتردَّد على “دار أزمنة” منذ سنوات، ويشارك في نشاطاتها وأجوائها المرتبطة بشخصية إلياس وفعاليته الإنسانية والثقافية.
وقد كتب درّاج مقالة مؤثرة عن ذلك اليوم الأخير، الذي لم تكن بدايته تؤذن بأية علامات لما آلت إليه ظهيرته (مجلة الفيصل، سبتمبر 2020): “في يوم الأربعاء [15/7/2020] جاء قبل الموعد بربع ساعة، وفي مكتبه يوم الأربعاء تحدّثنا، في العاشرة، عن هواجسنا، وتوقّفنا في الحادية عشرة أمام أصدقاء رحلوا، ومررنا في الثانية عشرة على مشاريعنا الكتابية القادمة، وفي الواحدة اجتاحه ألم يكدّر الروح لا صوت له، وفي الواحدة والنصف، تقريبًا، هربت منّا (نون الجماعة)، ورجعتُ إلى البيت وقد خسرتُ صديقًا عزيزًا، عرفتُه عشرين عامًا وقاسمني لطفه واجتهاده ومكتبه وكلماته الأخيرة، وذكريات نظيفة موجعة”.
هكذا رحل إلياس فركوح الروائي والقاص والمترجم والناشر والمثقف الجامع، كأنه في طريقه إلى ندوة أو مؤتمر أو قراءة كتاب، أسمّي صنيعه غيابًا أو رحيلًا وليس موتًا، ذلك أنَّ أمثاله لا يموتون وإنَّما يغيبون، أعزّي نفسي وأمثالي من محبّيه وأصدقائه بحضوره الدائم، وببعض الذكريات، أقول ترك إلياس إرثًا باقيًا يتمثل في مؤلفاته المنشورة التي منحته هويته الأدبية المتّفق عليها وعلى جودتها وقوّتها، ففي رصيده الغني مجموعات قصصية تعدّ من العلامات الكبرى في مسيرة القصة القصيرة العربية المعاصرة، هي: “الصفعة”، “طيور عمّان تحلِّق منخفضة”، ”إحدى وعشرون طلقة للنبي”، “مَن يحرث البحر”، “أسرار ساعة الرمل”، “الملائكة في العراء”، ”حقول الظلال”. وظهرت مختارات من أعماله تحت عنوان: “شتاءات تحت السقف”، كما نشرت مجموعاته -باستثناء الأخيرة- في مجلّد واحد باسم: “الأعمال القصصية- مَن رأيته كان أنا”(2002). وله أربع روايات لها مكانتها في تطوُّر الرواية العربية والأردنية تحمل العناوين الآتية: “قامات الزبد”، “أعمدة الغبار”، “أرض اليمبوس”، “غريق المرايا”. وله مؤلفات أخرى كثيرة منشورة في الترجمة الأدبية، والمقالة والشهادة والشعر والحوار الثقافي والأدبي. ومن أبرز هذه الكتابات: “ميراث الأخير” (نصوص)، “رسائلنا ليست مكاتيب” (من أدب الرسائل، مع مؤنس الرزاز)، ومن المؤلفات التي جمع فيها مقالاته وشهاداته وحواراته: “بيان الوعي المستريب”، “النهر ليس هو النهر”، “أشهد عليّ أشهد علينا”، “لعبة السرد الخادعة”، “الكتابة عند التخوم”، “خذ الكتاب لتراك”. إلى جانب ترجماته القصصية والروائية والشعرية والفكرية.
وليس إنتاجه كمّيًا فحسب، بل هو إنتاج عنوانه الأساسي التجديد والتجريب والاختلاف والتنوع، في المضمون والشكل، وإذا كان قد اشتهر عنه؛ لشدة احتفائه بأناقة الشكل وجماليات الأدب، أنه أقرب إلى المدرسة الجمالية أو الشكلانية، فإنَّ الحقيقة التي لا مراء فيها أنَّ إلياس فركوح في ذلك الاهتمام هو نتاج رؤية فكرية واجتماعية وموضوعية وسياسية خصبة، أدّت به إلى أن يتشكل على النحو الذي آل إليه، وكانت كتاباته مرايا كان هو غريقها الذي يتعلق بقشّة الكتابة كي ينجو، مثلما عبّر في عنوان روايته الأخيرة (غريق المرايا). بعدما حاول أن يجرّب خوض (اليمبوس) أو المطهر بطريقته وبنتف من سيرته بين عمّان والقدس، مستعيرًا من التصوُّر المسيحي تلك المنطقة الغامضة الواقعة بين الأرض والسماء، التي تسكنها أرواح الأطفال والأبرياء والخيّرين. كأنّ الطفل الذي حاول في الرواية استعادته واحد من هؤلاء، يحاول اجتناب الالتباس من خلال الكتابة.
وكان صديقنا العزيز فاعلًا ثقافيًّا، مساهمًا رئيسًا في الصحافة الثقافية، من خلال دوره في كثير من الصحف والمجلات المحلية والعربية، مثل: مجلة “المهد”، التي كان صاحب امتيازها ومؤسسها نسيبه الشاعر الراحل سليمان أيوب عويس (1943-2005)، ولكن روح إلياس ووعيه هما مَن أدار المجلة ووجّهها مع مؤنس الرزاز وفخري صالح وغيرهما، بمباركة عويس، لتكون منبر الحداثة وما بعد الحداثة في الأردن في ثمانينات القرن العشرين. لم تعمّر المجلة طويلًا لكنها كانت إيذانًا بتوجُّه جيل الثمانينات نحو الاختلاف ومفاهيم التجريب والانفتاح على الأدب العالمي بعيدًا عن التقوقع والتوجُّهات التقليدية. وكان لإلياس أدوار مختلفة في مجلة ”أوراق” التي أصدرتها رابطة الكتاب الأردنيين، ومجلة “أفكار” التي تصدرها وزارة الثقافة، ومجلة “عمّان” ومجلة “تايكي” من إصدارات أمانة عمّان الكبرى. كما حصل على ترخيص مجلة ثقافية ولكنه لم يجرؤ على إصدارها في تسعينات القرن الماضي بعدما تبحّر في خبرة النشر وتنبّه إلى اختلاف الأحوال الثقافية وصعوبة نجاح المشاريع الفردية دون رعاية مؤسسية، فاكتفى بإسهاماته الشخصية سواء بالكتابة أو إعداد الملفات أو التحرير أو اقتراح أسماء الكتاب والمحاور وغير ذلك من أدوار متشعِّبة تقف وراء مساحة واسعة من حركة المشهد الثقافي الأردني والعربي في العقود السابقة.
وإذا كانت كتاباته قد اجتذبت قراءات نقدية متنوعة بجدارتها الأدبية والإبداعية، فإنَّ كثيرين لا يعرفون من الرجل إلا تلك الكتابات أو بعضها، وقد كان إلياس نفسه يحب أن يعرفه الناس من كتاباته وبها، بوصفها التعبير الأبلغ عن هويته وشخصيته، ولقد عنيتُ بقراءة جوانب من تجربته القصصية والروائية في مناسبات مختلفة، ونشرت من حصاد ذلك الاهتمام كتابًا نقديًّا محبّبًا لديّ حول تجربته القصصية بعنوان (جماليات القصة القصيرة- قراءة في تجربة إلياس فركوح، 2009)، إلى جانب مناسبات كثيرة جمعتني به في الكتابة والقراءة والصداقة والسفر، أتفيّأ الآن ظلالها لعلّي أستذكره ببعض ما يليق به من الحضور الدائم بعد أن خاتلنا في واحدة من ألعابه السردية، ولكنه غاب وأطال الغياب.
خلّف رحيل الصديق الكبير بالتأكيد فراغًا لا يمكن ملؤه في حياتنا الثقافية وفي حياة كل الأصدقاء الذين عرفوه، فإلياس الصديق الجامع المختلف الذي جمعت شخصيته خصالًا نادرة، وضمّت حياته الغنية تجارب وصوْلات وجوْلات في بيئات وعواصم ومدن متعددة صبّت كلها في شخصية أصيلة انبنت على الإيمان بالتنوع والتعدد وخصب الاختلاف، ولذلك لم يكن يبحث عن أصدقاء يشبهونه بمقدار ما كان داعية غير معلن للاختلاف، فهو في نظره أساس الثقافة والكتابة، وجوهر الخصوصية التي يبحث عنها الأدباء والكتاب. كان كثيرًا ما يستعير جملة سعدي يوسف (أسير مع الجميع وخطوتي وحدي) ويتمثّلها بصور وأداءات مختلفة، يحرص على التواصل مع الجميع فعلًا، ولكنه حين يكتب وحين يعرض لرأيه لا يجامل ولا يداهن وإنما يكتب ما يراه وما يؤمن به حقًّا، لا ما يُرضي الثقافة العامة أو المتحكّمة. فيؤسس علاقة مختلفة بين الخاص والعام، بين الذاتي والموضوعي بطريقة فريدة بديعة.
وإذا كان الحديث عن التنوُّع والإيمان بالاختلاف يبدو حديثًا عامًّا، فإنه في حالة صديقنا الراحل عنوان حياة وعنوان مشروع مكّنته السنوات والأيام من إتمام كثير من مكوناته، وما زال مفتوحًا لمن يرغب أن يقرأه أو يسهم فيه. يمتد هذا التنوع من الثقة بتنوع الثقافات وتكاملها على الرغم من اختلافها، ولذلك كانت قراءاته وكتاباته وترجماته متعددة المصادر شرقية وغربية، عربية وأجنبية، قديمة وحديثة، يفتش فيها عمّا يتجاوب معه رافضًا المنبع الواحد والمصدر الواحد والهوية الواحدة. وقد انعكس هذا التنوع على ميوله الكتابية، فكتب في القصة القصيرة والرواية، مثلما كتب المقالة، والشعر، ومارس الترجمة بوعي واحتراف، وأبدع في فن الحوار كتابة ومشافهة، وكتب ما يدخل في إطار النقد والوعي النقدي في شهاداته وكتاباته النقدية التي تمثل إسهامًا أصيلًا في نظرية الأدب ونظرية الثقافة، وتستحق الاهتمام من الدارسين والباحثين المهتمين بنظريات الأدباء الذين يمتلكون وجهة نظر خاصة في الوجود وفلسفة الكتابة. وقد جمع إلياس بمعونة بعض الأصدقاء المخلصين معظم كتابته وحواراته وشهاداته في كتب مطبوعة حرص على إصدارها في العقد الأخير من حياته، وكأنه يهيئ لهذا الرحيل المباغت. وفي هذه الكتب صورة مقرّبة لهذا المثقف والمبدع النادر الذي عاش كي يروي، وكي يسرد، وكي يقدم روايته على الحياة التي عاشها أو اشتهى أن يعيشها.
كتب إلياس فركوح في واحدة من شهاداته الأخيرة النادرة عن أصل من أصول تكوينه الغني بتنوّعه، بين أصوله اليونانية غير البعيدة، إذ جدّه المباشر طبيب يوناني/ عثماني، اسمه (باسيل سيدراكودس) قدم إلى دمشق ضمن إحدى وحدات الجيش التركي، تزوّج فتاة حمصية عربية هي جدّته عفيفة، ثم غاب عنها بعد أن خلّف لها ابنًا هو جورج، والد إلياس، وابنتين، هما عمّتا إلياس (أولغا، وخركليا) اللتان حملتا اسمين يشهدان بالأصل اليوناني، يقول إلياس في شهادته التي قدّمها في المؤتمر الدولي الثالث للغة العربية وثقافتها في الجامعة الكاثوليكية في ميلانو الإيطالية في مارس 2017: “أراني على نحوي أنا: إلياس، ابن جورج، ابن باسيل سيدراكودس! واستتباعًا لهذا التتابع القصير، الموثّق في أوراق رسميّة محفوظة، يمكنني الزعم بأني جئتُ إلى العالم من صُلب أبٍ لأبٍ يونانيّ لم أعرفه أبدًا، إلّا بوصفه “صورة”: صورة مطبوعة على بطاقة عتيقة مقوّاة شابها لونُ الاصفرار، لكنها ما زالت محتفظة بتماسكها. تماسكُ البطاقة في اليد وتحت الأصابع وداخل صندوق قديم، وتسلسل صريح للأسماء. لكن هذا التماسك، في إشارته إلى “المَنْبَت” والتأكيد الدائم على “الأصل”، وعند تأمُّلي له الآن، أجده يتفكك متحللًا إلى “حكاية” ظريفة تُروى فتثيرُ الدهشة وكأنها ليست حكايتي الشخصية، وشَبَحٍ يتوارى في خلف الخلف هناك في عَطْفةِ تاريخٍ منمنم مثل قطعة أرابيسك. أو، في أحسن الأحوال، يختلط في النَّسَب اللاحق الذي بِتُّ أُعْرَف به: فركوح”.
ولقب فركوح هو اسم عائلة الجدّة عفيفة التي يبدو أنها تولّت زمام الأمور فنقلت ابنها وابنتيها إلى نسبها الأمومي عوضًا عن النسب الأبوي، اليوناني، بعد غياب الأب أو وفاته، وانقطاع الصلة به. أمّا عائلته الجديدة (فركوح) فهي -كما يذكر النسابون- من أصل عربي غسّاني تسكن في حمص من أرض الشام وما حولها، وانتقلت بعض فروعها إلى دمشق، وإربد وعمّان، وما زال لها وجودها في حمص ودمشق وعكا، ومنها مثقفون ووجهاء، امتلك بعضهم أراض واسعة شمال الأردن حملت اسم العائلة حتى اليوم في المنطقة المعروفة باسم (زبدة فركوح)، التي ورثت الجدة عفيفة حصّتها منها، وقد يكون الاهتمام بها سببًا من أسباب انتقالها من دمشق إلى عمّان. عمل الأب جورج في عمّان في مهنته التي تعلّمها في دمشق وهي خياطة الثياب، وأقام مع أسرته الجديدة وزوجته (أديبة ربّوع، والدة إلياس) وسط المدينة التي ولد فيها إلياس وشهدت ضفاف سيلها القديم وأسواقها التقليدية طفولته وذكرياته وصداقاته المبكّرة. ومن هنا جاء انتماؤه العمّاني، فهو ابن عمّان بتنوّع أصولها ومنابتها، وهو من مواليدها وأبنائها الخلّص الذين لم يتكوّنوا خارجها، وإنما في قلبها النابض بالتنوع والعطاء.
ويبدو أنَّ هذه السردية الشخصية والعامة في آن يمكن أن تكون مفتاحًا من مفاتيح قراءة شخصية إلياس نفسه، بروحه المتنوعة وثقافته المنسوجة من خيوط غنية باختلافها وتنوعها، ونتج عن كل ذلك تمازج قوي منفتح على الإنسانية والعطاء والتنوع. أمّا الدرس القوي الذي يُستخلص من هذه السردية التاريخية غير الخيالية فيكثفه إلياس لنا بالقول: “ما أريد إبلاغكم به هو ما استخلصته مما سبق: أنّ الامتزاج بين الأوروبيّ الممثَّل بجدي اليوناني، المُجَسِّد بدوره لِبُعْدٍ ثقافيّ ما، والعربي الممثَّل بجدتي السورية، المُجَسِّدة لِبُعْدٍ ثقافي آخر، كان أن “خلقَ” مني إنسانًا إذا ما حدثَ وأنْ تساءل عن “هُويته”؛ فإنما يفعل هذا من دون قَلَقٍ، أو خوف، أو تعصُّب. كما أنّ “مسيرة” الأنساب وتحوُّلاتها، بحسب ما ذَكَرْتُ، أبعدتني بعفويةٍ وإلى حد كبير عن التباهي الذكوري واستعلائه؛ فها أنا أحملُ النَّسَب الأموميّ، لا الأبويّ، وكأني أشطحُ باتجاه الرؤية المنادية بالطبيعة أُمًّا أُولى ألتحقُ بها.. وأفتخر”.
إلياس نسيج وحده كما يقال، في نسبه وشجرة عائلته المتشعبة بين الأصول اليونانية غير البعيدة، والمآل العربي السوري- الأردني، من ذكريات دمشق وحمص إلى زبدة فركوح، إلى عمّان وتقاطعها مع القدس والقاهرة وبيروت، وكأنه صورة من صور التصدُّع أو التعدُّد الذي خلّفه انهيار الإمبراطورية العثمانية، بما ضمّت من تعدّد في الأعراق والأديان والثقافات. وعلى هذا النحو منحته مصادفة أصوله وأنسابه نعمة الهوية المتعدّدة المركّبة، بدلًا من الهوية الواحدة المحدودة، وبنى على ذلك التنوع والتركيب أكثر آرائه الفكرية والأدبية، من موقف النظرة إلى اختلاف الثقافات والحضارات، وحتى تداخل الأجناس والأنواع الكتابية. وفي ضوء ذلك لا نستغرب حنو قصته وروايته على الشعر والمسرح والصحافة والفنون المختلفة، من الناحية التقنية، كأنها تتجاوب مع ذلك التنوع الخصب الذي تخبئه روح فركوح وتكوينه العميق، مثلما تعكس تنوع الشخصيات والأرواح التي يكتب عنها ويحاور أعماقها، بحيث يغدو النسيج السردي كرنفالًا للتنوع والتداخل بعيدًا عن واحدية الجنس والنوع الأدبي، وبعيدًا عن فكرة السمات الخالصة أو النقية التي ينادي بها بعض الأدباء للتمييز بين الأجناس.
هذه لمحة من شخصية إلياس فركوح، في دلالتها العامة على معنى التعدد والحوار، والبعد عن التعصّب، أو الانزواء في هوية يخالها المرء صافية، ويظن أن الاختلاط قد يعكرها، درس إلياس هو القيمة العليا للتنوع والانفتاح والتمازج، على كل الأصعدة، ونحسب أنَّ ما عرضنا له مفتاح أساسي من مفاتيح قراءته والاستدلال على معانيه وتقنياته.
اكتمل إلياس فركوح بغيابه، وهو الذي كان طالما تلذَّذ بالمحافظة على النقص والاعتراف به، ورفض ادّعاء نقيضه، اكتمل عائدًا إلى تكوينه الأمومي الحاني، وليس لنا من إرثه إلا ما تركه من كلمات تغتني بالتباسها وباختلافها ومخاتلتها للسائد والمكرور، وما من عزاء إلا معاودة التأمُّل في أسرار تلك الكلمات.
*ناقد وأكاديمي أردني
عن مجلة أفكار – وزارة الثقافة الأردنية