الفلسفة.. وفن العيش

عداد وترجمة: د. حورية الظل

مارك فيرنون كاتب وفيلسوف ومعالج نفسي وصحفي إنجليزي، له العديد من المؤلفات التي تتطرق لمواضيع متعددة كالفلسفة القديمة والصداقة والحب وغيرها، كما ألف كتاباً بعنوان «30 خطوة لإتقان فن العيش»، وفي مقالته هذه تطرق لأهمية الفلسفة في حياة الإنسان، وقد أنجزه ضمن سلسلة من المقالات حول فن العيش.

  • مارك فيرنون

    الفلسفة تمرين روحي:

كان طاليس الفيلسوف اليوناني، الذي يلقب بالفيلسوف الأول، يسير في الطريق، محدقاً في السماء، فسقط في حفرة فصرخ طلباً للنجدة، فرددت امرأة عابرة «أنتم الفلاسفة، لا تستطيعون رؤية ما تحت أقدامكم»، ولكنّ هناك رأياً آخر مخالفاً للرأي الأول، وهذه المرة حول سقراط، وهذا الرأي لشيشرون، وهو أحد المعجبين بسقراط، ويتلخص في أن هذا الأخير أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، وقد فعل ذلك من خلال التحدث مع الناس في الشوارع حول الأشياء التي تهمهم -كالحياة والحب والأحذية والتسوق- لأنه بهذه الطريقة ساعدهم على التعمق في معرفة ما اعتقدوا أنهم يعرفونه.
ويوضح هذان الرأيان، الاختلاف بين طريقتين في ممارسة الفلسفة، وربما يكون الرأي الأول قريباً مما يعتقده معظم الناس عندما يسمعون اليوم، كلمة «فلسفة»، أي، أنها جافة وغامضة ومنفصلة عن الواقع.. ويمكن القول بأن الفلسفة الأكاديمية نفسها مسؤولة عن هذه اللامبالاة بالفلسفة، حيث يشعر العديد من المختصين أو يتصرفون كما لو أن وقت الفلسفة قد انتهى، بمعنى أن التقدم الفكري الحقيقي هو الآن من اختصاص العلم الذي سلمته الفلسفة المسؤولية عن الموضوعات التي كانت تقع ضمن اختصاصها، مثل الفيزياء وعلم النفس، وكل ما تبقى للفلاسفة أن يفعلوه الآن هو توفير القليل من الدعامات الفكرية لدعم الصرح التجريبي العظيم، حسب الحاجة، ويقوم الفلاسفة بذلك وهم سعداء، وقد أشار برنارد ويليامز إلى أن الفلسفة أصبحت علمية، بمعنى أنها استعارت صورتها من العلم.
لكنّ هناك أيضاً نوعاً من الفلسفة، وهو النوع السقراطي، إنها فلسفة يمكن اعتبارها أسلوب حياة، حيث يمكن لأي شخص من حيث المبدأ، القيام بممارسة الفلسفة، وبصورة أدق، يمكن للجميع القيام بذلك، حتى الأطفال، وقد افترض الفيلسوف كارل ياسبرز أن الطريقة الجيدة لتأليف كتاب فلسفي ممتاز تتلخص ببساطة في الاستماع إلى أسئلة الأطفال الصغار الفضوليين، مثلاً: أبي، ما الذي كان قبل وجود الكون؟ وكما تظهر الدراسات، وكما يعلم الآباء، فقد طور الأطفال شعوراً بالرحمة -أي أساساً أخلاقياً- منذ سن مبكرة. وكما قال الشاعر ذو الميول الفلسفية صمويل تايلور كوليريدج «لقد كان من المدهش أن تبدأ الفلسفة»، واستطرد قائلاً «إنه لأمر مدهش أن ينتهي هذا للأسئلة الرائعة التي ينشغل بها الإنسان طوال حياته وهذا بلا شك ما يجعلنا بشراً، فتتطور الفلسفة مع التعمق في معرفة الحياة».
والفلسفة ليست مجرد سلسلة من المناقشات التقنية، أو تجارب فكرية مثيرة للاهتمام، أو حتى طريقة للتعامل مع المشكلات الأخلاقية، على الرغم من أنها تتعلق جزئياً بهذه الأشياء، إنها في الأساس رغبة في الرؤية بشكل أكثر وضوحاً، وبالتالي العيش بشكل أكمل، وعندما يقترن هذا بالسعي وراء الخير والمتعالي.. يمكن أن يُطلَق على الفلسفة وصف «تمرين روحي».. إنها دعوة للتغير والتطور، وبهذا المعنى، فإن الفلسفة فن.

الفلسفة أسلوب حياة
وما يمكن تأكيده، أن الإغريق القدماء، هم مصدر إلهام، حيث اعتبروا الفلسفة أسلوب حياة، وقالوا إن الفكر علاج.. وقد اعتبر الإبيقوريون أن الهدف من الفلسفة هو تنمية التمتع بالحياة بدلاً من القلق بشأنها، إنهم يسعون إلى الهدوء الناشئ عن معرفة ما يجعلك سعيداً حقاً، وبالنسبة للرواقيين، فالفلسفة هي التركيز والانتباه، أي أن تكون على دراية بما يحدث حولك.. فتركز على الحاضر وعلى أفكارك الحالية ومحيطك المباشر.
لكن سبب صعوبة الفلسفة في الوقت الراهن، أنها أصبحت تقنية ومجردة، وأصبح يتم صرف الانتباه عن أهدافها الرئيسة، أو بعبارة أخرى، فالفلاسفة الجيدون ليسوا مجرد أشخاص يعرفون كيف يجادلون جيداً، بل هم الأفراد النادرون الذين يفكرون جيداً ويرون بوضوح، وبالتالي هم جيدون بالفعل، وقد كان سقراط بالنسبة لليونانيين القدماء.. ليس فقط شخصية فكرية عظيمة، وإنما اعتبروه حكيماً، أو قديساً أو راهباً، أكثر من كونه معلماً.
الفلسفة وليس المساعدة الذاتية:
إن تغير النظرة إلى الفلسفة قد يكون مصدر قلق آخر، لأنه طمَس الخطوط بينها وبين المساعدة الذاتية -وهو قلق يمكن القول إنه تفاقم بسبب احتمال أن تكون المساعدة الذاتية قد تطورت لملء الفراغ الناتج عن تهميش الفلسفة.. لاشك أن هناك أسئلة يجب طرحها حول «المساعدة الذاتية»، وهي أسئلة لا يتعلق الكثير منها بالعيش، بل بالسيطرة -محاولة السيطرة على العالم، أو بالأحرى محاولة تحكم الشخص في عالمه.. والتحكم هو بالضبط ما يسعى العصابي إلى تحقيقه، ولذلك، فإن مدمني المساعدة الذاتية، ناهيك عن كُتّابها، غالباً ما يبدون عصابيين.. وبالإضافة إلى ذلك، يبدو أن المساعدة الذاتية تتمحور حول الذات فتتم معاملة الآخرين كمقدمي خدمة.. ولكن ماذا لو كان سر الحياة الطيبة هو التمركز حول الآخرين، كما اقترح الدين وحتى الفلسفة باستمرار؟.. وقد رسم برنارد ويليامز صورة للفلسفة تتلخص في كونها تزيد من فهم الإنسانية لنفسها، وتعتبر بالنسبة له علامة على الانضباط الإنساني.. ولذلك يمكننا القول إن الفلاسفة الأوائل كانوا يهدفون إلى بساطة تتجاوز التعقيد.. ففكروا في كيفية تحقيق التوازن بين التشجيع على التغيير وفرضه، بين التواصل الواضح واللامبالاة، فكان جزء من اهتمامهم، تطوير نظريات تغرس التميز وعمق الفكر، ومن هنا أصل الأخلاق والسياسة والمنطق ونظرية المعرفة والأنطولوجيا وعدد من «المذاهب» -المادية، والمثالية.. والجمالية… ومع ذلك، بالنسبة لليونانيين القدماء، لم تكن هذه فلسفة مناسبة حقاً، فكان الهدف الأساسي من الفلسفة عندهم.. أن يحيا الإنسان جيداً ويمتلك رؤية جيدة وتكون لنا القدرة على التأمل في الكون.. وهناك فلاسفة حديثون آخرون، اعتبروا أن قيمة الفلسفة تكمن في كيفية تغير الإنسان للأفضل.

 

  • عن الاتحاد – الإمارات

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *