*محمد الأسعد
لكل عصرٍ إيقاعه، مقولة قلّ أن تشيع في ثقافتنا الراهنة، فالاختلاف يعد «بدعة»، وربما تحول إلى «لعنة» تلحق بكل من تفرد، أو انفرد ولو بنبرة، فضلاً عن أن يكون تفرده بنص سيمفوني كامل. ومع ذلك، وحتى تعترف ثقافة بالاختلاف، وتراه مصدر خصب ونماء، سيمر زمن، بل وأزمان تستهلك فيها الأجيال أعمارها في التمني والتشوف، لا في الفهم والإدراك، والتصرف بناءً على هذا الوعي.
الآن يتم اختزال ما سنشرحه بوصف إيقاع عصر من العصور، بالحديث عن التسارع الذي يختلف من زمن إلى آخر، تسارع في حركة الوقت والناس، وربما التقط بعض الناس هذا المعنى حسياً بالإشارة إلى اختلاف درجة إيقاع الموسيقى المسموعة، أو المرئية ممثلة بالمشاهد البصرية. الأعمق من ذلك إذا توسع منظورنا ليشمل عصراً بمجمله، أن بعض العصور يبدو بطيئاً في حركته، أشخاصاً وأزماناً، وبعضها يبدو نشطاً وسريعاً، بل ومتقلباً سريع التقلب من حال إلى حال. ربما يرجع السبب إلى اختلاف المقاييس التي يقيس بها الناس زمنهم، وهذا هو الأرجح، لأنك يمكن أن تتحدث عن عمر شخص بلغ الألف عام مثلاً، بحساب الشهر عاماً، أو الأسبوع قرناً. كل شيء يمكن فهمه وحل لغزه بالقول بنسبية المقاييس. ولعل أبلغ أسباب تقدير ما هو بطيء وسريع يرجع إلى وسائل المواصلات أو الاتصال.. وما إلى ذلك.. ولكن ماذا يترتب على هذا؟
ما يعنينا هنا بالدرجة الأولى هو ما نسميه إيقاع الكلام، أو بتبسيط أكثر الكيفية التي تتركب بها الجملة في اللغة، كيف تتوالى أصواتها وحركاتها، ومعانيها. وكيف تتضافر هذه العناصر لتخرج من هويتها الفردية المنعزلة ويندمج بعضها ببعض، ويشكل هوية كبرى، ليست هي مجموع العناصر، أو الأجزاء التي تكونت منها، بقدر ماهي وجود آخر مختلف، أو كلٌّ آخر. هذه العناصر هي أهم السمات التي يلحظها الإنسان إذا قارن بين لغة عصر وعصر، وهي دليله الذي لا يمارى إلى اختلاف إيقاع العصور.
يشبه هذا الإيقاع الموسيقى التصويرية حين ترافق المشهد السينمائي، يكون مسموعاً غير مرئي، ولكن حين نحدق في الصورة سنجد تناغماً تخلقه مخيلتنا، أو إحساسنا بين إيقاع متخيل لها تراه العين، وبين الإيقاع الذي تسمعه الأذن. لا ينفصل إيقاع المسموع عن إيقاع المرئي، كلاهما يندمج في المشهد الذي تحاول إيصاله وسوسة الكلمات أيضاً. لهذا لا يمكن استعارة الإيقاع، أو اعتباره هبة لأنه إيقاع ينبع من حركة الفكر ذاته، من طريقة التفكير والرؤية وقد تجسدت في مشهد بصري، وصوت موسيقي، ووسوسة كلمات.
حين نتناول كتاباً من كتب التراث، مهما كان موضوعه، نجد هذه اللمسة الإيقاعية بارزة، في تركيب الجمل، في انتقاء الألفاظ، في التسلسل منذ البداية وحتى النهاية. هذه اللمسة قد تبدو سطحية لدى بعض الناس، إلا أنها أبعد عن أن تكون سطحية، وسيكون لها ما تفعله في تقييم نظرتنا إلى الماضي الموروث بكل ما فيه. إنها ذات جذور في المبنى العميق للفكرة والصورة، وهي ليست من هذا المبنى إلا الجزء المرئي من سطح يشبه مياهاً متموجة لا يمكن تقسيمها إلى طبقات من دون الإخلال ببنيتها. الحركة (الإيقاع) والموجة (الأفكار) متلاحمتان تدل إحداهما على الأخرى.
في العمق من هذه اللمسة الإيقاعية، نجد معجماً لفظياً تحكمه دائرة دلالية، نجد تلميحات وإشارات إلى كلٍّ أكبر ينبثق منه المعجم شبيهاً بمناخ محيط. وعلى هدى هذا المناخ وفي فضائه تتسلسل حركة ألفاظ هذا المعجم، وتتخذ معنى بعد آخر، وإن خرجت على هذا الفضاء اعتبرت لفظة شاذة، أو ليست من اللغة في شيء، وإن اندمجت فيه عدت حسنة السلوك، مقبولة، كما يُقبل المواطن الحسن السلوك في موطنه.
وحين نتناول كتاباً معاصراً، أياً كان موضوعه أيضاً، وشرط معاصرته ألا يحاكي ما قبله من نصوص، سنجد لمسة إيقاعية مختلفة بالضرورة، سنجد ألفاظاً جديدة، وتراكيب مختلفة، بل وتسلسلاً مختلفاً من سطر إلى آخر، ومن معنى إلى معنى، وسنجد مجالات دلالية مستمدة من مناخ وفضاء مختلفين، كأن كاتبه يحاول بث رسالة ما، خاصة لا يمكن أن تؤدى إلا بهذا الإيقاع.
قد يكون هناك مزج إيقاعي يحدث بين إيقاع ماضٍ آفل، وحاضر قائم، أو متخيل، هدفه إحداث مفارقة ما، أو قد يأتي عفو الخاطر بسبب تمكن الإيقاع القديم وتغلبه على الفضاء المعجمي للكاتب، فيمنعه من اكتشاف مجرى تفكيره الذاتي، أو أسلوبه الخاص، أو يجعل من هذا وذاك مسألتين غير مفكر فيهما أصلاً، كما هو حال أغلبية الكتاب التقليديين. وفي كلا الحالين تظل هناك قضية تحتاج إلى شرح وإيضاح، قضية معتقد ضمني بأن هناك إيقاعاً ثابتاً، ووحيداً للكلام، ومعجماً واحداً وثابتاً يرجع إليه الجميع، تقف وراء سوء التفاهم بين البشر في معظم صراعاتهم.
بالطبع، لا يصح هذا حتى في أقدم العصور، وبخاصة تلك التي شهدت بين فترة وأخرى بروز النزعات الفردية، أي نزعات التفرد، والخروج على المعجم، ليس معجم اللغة الواحدة فحسب، بل ومعجم الحياة ذاتها، تصوراً، وإدراكاً، ونظراً، وسلوكاً. وبتأثير هذه النزعات المشهودة التي لا يخلو منها عصر من العصور، السالفة والحاضرة، تتوالد مناخات عجيبة غير مألوفة، فتسمع للغة وسوسة غير معتادة، ويلمّح الكاتب إلى مشاهد لم ترتسم بعد، وإلى أفكار ولدت للتو واللحظة، لم يحتضنها موروث، ولا جادت بها النبوءات. وأقول تُسمع للغة وسوسة لأنني لم أحدد لغة معينة مقصودة، ولأن أي لغة لم نمتلك مفتاح مدونتها لن تكون سوى أصواتٍ قبل أن تتجسد معانيها. وهكذا ربما كان، وسيظل المقصود بالإيقاع، أصوات بلا مضمون محدد، كما هي الموسيقى حتى إن أضفت عليها ميولنا النفسية عاطفة من لون ما، فرأت فيها، أو أحست، أو أبصرت، على سبيل المثال، تيار فرح غامر، أو نشيج حزن لا قرار له. وربما كانت هذه هي خصوصية الإيقاع التي تند عن الفهم أحياناً. هو بلا طعم، ولا رائحة، ولا جسد، أو ليس له شبيه.
أمام هكذا كتاب، أو نص، أو كلام، حين يحاول قارئ استوطن ذهنه إيقاع ما، أو قالب لغته الموروث، الإحاطة بهذه الخصوصية، وتنوع التجارب الفكرية والعاطفية الذي وصفناه بشبكة من العبارات مأخوذ بعضها من فيزياء الجسيمات وترددها بين كونها موجة أو حبيبات، وبعضها من قوانين النسبية وفلسفة البنية وعلاقة الجزء بالكل، سنجد أن معجمه يقصر دون هذه المهمة، ويرتد حسير البصر والبصيرة. نجده يعجز عن إعراب الجملة الجديدة، أو حتى التعرف إليها، أو على تخومها بالحد الأدنى، بالعودة إلى المدونة التي تستوطن ذهنه، إيقاعاً صوتياً ومعنى وخيالاً صورياً. إنه لا يقرأها مثلما لا يستطيع جهاز الحاسوب (الكومبيوتر) قراءة إلا ما تمت تغذيته به وفق برامج محددة، أو ما سلف تعريفه به من رموز. ولكن لأن الإنسان ليس آلة يمكن برمجتها بسهولة برمجةَ آلة من الآلات، يظل احتمال خروجه على ما استوطن ذهنه من برامج متوارثة، وغير متوارثة ممكناً، أو هذا هو الاحتمال الذي يحفز المجددين على كتابة أنفسهم وإيقاعاتهم لبرامج غير موجودة بعد، ولا تزال غائبة في ضمير الغيب.