القـُــــــــدُوم

القـُــــــــدُوم

المَسِيرةُ البيضاء

قصَّة قصيرة

الأديب السُّوري موسى رحُوم عبَّاس

   المرَّة الأولى التي أدخل فيها مطارًا، هي دخولي مطار دمشق الدَّولي قبل ثلاثين سنة، دخلته بكامل قيافتي العسكرية ضابطًا بنجمين لامعين على كتفيَّ، وتحديدا في صالة المغادرة، كنتُ مبهورا بكلِّ شيء، الحقائب الصغيرة التي يجرها المغادرون، القُبَل السَّريعة التي يزرعونها كالورود على مودعيهم، صرت أميِّزُ بينها، فالقبلة على الجبين غير التي على الخدِّ، أو على الشفاه المرتجفة ولهًا وعشقًا، في البداية كنت أغضي خجلا، ثم صرت أغرز عينيَّ كخنجر بدويٍّ أدركَ ثأرَهُ! وأحيانا أشارك في البكاء مسافرين، أو مُودِّعين، لا أعرفهم! أطلقتُ على صالة المغادرين مُسمَّى” بئر الدُّموع” انتقلَ الاسم سريعا كالشَّائعة بين زملاء السِّلك، حتى كاد أن يكون رسميًّا على جدول المناوبات اليومية،  ترددتُ على صالة القدوم ببِزَّتي العسكريَّة ومسدسي الماكروف؛ فوجدت الدُّموع أيضا، لكنَّها دموع الفرح المكتوم، صارت عيون القادمين تلاحقنا نحن الضُّباط، بشيء من الرِّيبة والانتظار المشوب بالخوف، حقائبهم كانت كبيرة، ملابسهم أنيقة، وساعاتهم لامعة، ومغرية، غالبا، ندقق في وجوههم، ونرقب حركاتهم، وهم متوجِّسون، ولا يخفي ذلك التوجسَ ابتساماتُهم الصَّفراء، ينظرون إلى ساعاتهم كثيرا، كأنَّهم يشعرون بطول الوقت، وربما يخطِّطون للقاء مَنْ ينتظرهم خارجا، منظر الأمهات والزَّوجات والأطفال أكثر ما كان يشدُّني، وأنا أنظر من خلف الزُّجاج لهم، وهم يحتضنون الآباءَ و الأبناءَ، بكيتُ كثيرا بعيدا عن أعين مرؤوسيَّ، أنا الذي فقد الأم منذ الطُّفولة، عشتُ في عدد من البيوت من الأخوال والأعمام والأجداد، صحيح لم أكن جائعا أو مهملا، لكنني كنت يتيما!

أحيانا كنت أتمنى أن أسبقهم إلى سلم الصاعدين إلى الطائرة، وأخرى أشعر بالقوة التي أستمدها من النجوم اللامعة التي باتت تتكاثر على منكبيَّ.

   تلك الليلة كنتُ رئيسا للمناوبة في صالة القدوم، فأنا صاحب الرتبة الأعلى في الفريق الأمنيِّ الخاصِّ بالمطار، رغم أننا صرنا نعمل باللِّباس المدني؛ فهو يسمح لنا بالتغلغل بين المسافرين دون أن نلفتَ الأنظارَ، ويعطي للمطار مظهرًا حضاريًا – كما قيل لنا – مع أنني كنتُ أحتفظُ بالمسدَّس، وأخفيه بعناية بين ملابسي، بدأت الرحلات الدَّولية بالهبوط ليلا، أبلغتُ بذلك، الهولندية فالنرويجية فالفرنسية … بفارقٍ زمنيٍّ مناسبٍ حسب جدول الهبوط المُبَلَّغ لنا من برج المراقبة، المواطنون القادمون بدؤوا بالنزول، لا حقائب سفر، ولا جوازات، ولا أوراق ثبوتية، لباسهم واحد يطغى عليه البياض، ربما احتوى على بعض الأوحال أو الأتربة الحمراء، لفافات من القماش غير المخيط، أرقام مكتوبة بلغات مختلفة على ظهورهم، بطاقات بلاستيكية، لا يبتسمون، ولا يردُّون على أسئلة، تفوح منهم روائحُ ثقيلةٌ وغريبةٌ، لم أعتدْ عليها، عيونهم مغلقة، حاولنا الاقتراب؛ لنفهمَ همهماتِهم، عبثا نحاول، استمروا في المسير، مُنتظمين في صفوفهم، انطلقت صافراتُ الإنذار، لم يتوقفوا عند مكاتب الجوازات، تجاوزوا الحواجزَ الأمنيةَ، بلا أمتعة، ولا وثائقَ، أصبح صوت قعقعة الأسلحة واضحا، تحذيرا لهم، استمروا، كانوا عراة تحت لفافاتهم البيضاء، أعمارهم متقاربة، وإصرارهم لا تخطئه العينُ، لم يلتفتوا للرصاص، لادمَ يسيل من أجسادهم، يعرفون الطريق جيدا، انتظموا في صفوفٍ كأنَّهم في عرض فني، أو مسيرة بيضاء، ربما فاحت من ثقوب أحلامهم رائحة الياسمين، تابعوا السَّير باتجاه المقبرة، وهناك ناموا في حضن تراب بلادهم مع شبه ابتسامة، لم تكتمل على شفاههم.

الرِّياض

7/ 2021

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *