د. محمد عبيدالله
تزامن ميلاد غسان كنفاني في التاسع من نيسان عام 1936، مع إرهاصات ثورة عام 1936 المعروفة في التاريخ الفلسطيني، إذ لم تلبث الثورة أن اشتعلت وأعلنت الإضرابات والمواجهات، وكأنّ هذا التزامن هو ما حكم حياة كنفاني على نحو واقعي وقدريّ في آن، فكانت سنواته الأولى المبكرة هي ذاتها عمر تلك الثورة المعبّرة عن رفض الاستعمار البريطاني ومعاونته للوجود الصهيوني واتّساع الهجرة إلى فلسطين. المهم أن غسان بدأ من الثورة ومعها، وحين بدأ سنوات صباه، كانت حادثة النكبة المزلزلة عام 1948، وكان عمره اثني عشر عاماً، فهاجر مع أسرته إلى دمشق، وتابع أطرافاً من نكبة فلسطين وتشرّد أهلها، وأكمل دراسته في دمشق، ثم التحق بجامعتها، لكنه لم يتم دراسته فيها، ربما بسبب حياته المختزلة السريعة، فقد اتجه إلى العمل السياسي والكتابة الأدبية، وسافر إلى الكويت للعمل في مدارسها، كما التحق بحركة القوميين العرب، ونشط في إطارها، كل ذلك في سنوات متقاربة، كأن غسان المتعدد يحاول اللحاق بالزمن. ورغم إصابته بمرض السّكر منذ شبابه المبكّر وتعرفه إلى أجواء المشافي في الكويت، إلا أنه قرر أن لا يسمح للمرض بأن يتدخل في حياته، بل إنه كتب من وحي تلك التجربة بعض قصصه، كقصة (موت سرير رقم 12) عن شخصية حقيقية لمواطن مجهول اسمه (محمد علي أكبر)، وأطلق اسم تلك القصة على مجموعته الأولى، بل ووجّه عزاءه “إلى العائلة المجهولة التي فجعت بموت ابنها، الذي مات بعيداً، وحيداً، غريباً، على السرير رقم 12، وهو ينزف عرقاً نبيلاً في سبيل لقمة شريفة”.
غسان كنفاني، تكوين خاص في التجربة الإبداعية والثقافية والسياسية، عن المستوى الفلسطيني والعربي، بل والإنساني أيضاً، فمن يتصوّر أن هذا الحاضر دوماً في الحياة الأدبية والسياسية، غاب وهو في سن السادسة والثلاثين أديباً ومثقفاً شاباً، غاب شهيداً حياً عندما اغتالته أصابع الموساد في الثامن من تموز عام 1972، بوصفة شخصية نضالية مؤثرة على مستوى النضال الفلسطيني، اغتيل لأنه الضمير المؤثر، ولأنه الصوت القوي المحرّك للوعي وللنضال.
غسان ابن السادسة والثلاثين أنجز في سنواته المختزلة إبداع عمر كامل، رغم أنه لم يتفرغ للكتابة وللإبداع، بل مارس العمل السياسي والنضالي وعمل في الإعلام محرراً ورئيساً للتحرير، وواكب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ بدايات انطلاقها، وغدا اسماً لامعاً في إطارها، كما أسس مجلة الهدف وظل رئيساً لتحريرها حتى استشهاده، واهتم إلى جانب السرد القصصي والروائي، بالرسم والموسيقى، وبالآداب الأجنبية، والفكر العالمي، وجمع ثقافة واسعة شاملة يندر أن تجتمع في شخصية واحدة.
كنفانـي الأديـب
عندما نستعيد غسان من ناحية صورته الأدبية، نجد سجلاً غنياً، طالما وقف عنده النقاد والدارسون، ففي القصة القصيرة أنجز الراحل أربع مجموعات نشرت في حياته، إضافة إلى عدد من القصص التي لم تجمع في كتاب، وظهر بعضها في الأعمال الكاملة بعد رحيله بعنوان (وقصص أخرى) لكنها ليست كل نتاجه، ولا كل ما نشر له في المجلات والصحف مما لم يجمع في كتاب. أما أعماله القصصية فهي وفق طبعاتها الأولى: موت سرير رقم 12 (1961)، عالم ليس لنا (1965)، أرض البرتقال الحزين (1962)، عن الرجال والبنادق (1968). أما أعماله الروائية فقد نشرت له أربع روايات هي: رجال في الشمس 1963، ما تبقى لكم (1966)، عائد إلى حيفا (1969)، أم سعد (1969). ولم يتح له الغياب المفاجئ إتمام روايات ناقصة، ظهرت في آثاره الكاملة، وظلت تنبئ بتلك الحياة التي لم يعشها، ولم يتح له أن يقول فيها كل شيء، وهي: برقوق نيسان، والعاشق، والأعمى والأطرش، والشيء الآخر أو من قتل ليلى الحائك، اللوتس الأحمر الميت.
وكتب غسان إلى جانب القصة القصيرة والرواية، مسرحيتين وتمثيلية إذاعية: الباب (1964)، القبعة والنبي (1973) وأما التمثيلية الإذاعية فهي معنونة بـ (جسر إلى الأبد) وظهرت في آثاره الكاملة ضمن الأعمال المسرحية، إضافة إلى ترجمته عمل تينسي وليامز(صيف ودخان) وكتاب في أدب الرحلات، باسم: ثم أشرقت آسيا.
وقدم كنفاني دراسات نقدية تعد من الأعمال المؤسسة في مجالاتها ومنها كتابان عن أدب المقاومة الذي يعد كنفاني من أوائل من انتبهوا إليه، وسعوا إلى بلورته، وقد ظهر الكتاب الأول عام 1966 بعنوان: أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، والثاني عام 1968 بعنوان: الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال. أما عمله النقدي الثالث فقد خصصه للأدب الصهيوني باسم (في الأدب الصهيوني) وكان من أوائل من نبهوا إلى دراسة هذا الأدب لفهم الشخصية الصهيونية، تمهيداً لمقاومتها انطلاقاً من المعرفة، وليس الجهل.
مفهوم خاص للالتزام
ومن يتأمل هذا الجهد الإبداعي للراحل، يدرك أنه سعى لأن يعطي عطاءً متميزاً في كل عمل اهتم به، وأن انشغالاته النضالية والإعلامية لم تأخذه من الحقل الأدبي الأثير عنده، بل إنه تمكّن من الموازنة بين سائر نشاطاته، وطوّر مفهوماً خاصاً للأدب المقاوم، بحيث يكون للأدب دوره في المعارك المصيرية، وفي سياق التجربة الفلسطينية على نحو خاص. وقد كان غسان يمثل المبدع الملتزم كأفضل ما يكون الالتزام، لكنه التزام مشروط بالجمال ومعاييره ومحدداته، ولذلك كثيراً ما حاول غسان في مقالاته أن يميّز بين الأدب كحقل له خصوصيته الجمالية، وبين العمل السياسي وطبيعته المغايرة أو المختلفة.
الالتزام عند غسان كنفاني مشتق من طبيعة حياته، والتصاقه بالهم الفلسطيني الوطني التصاقاً مبنياًً على صدق التجربة، وعلى الوعي بتوجيهه وإغنائه بالإبداع والممارسة، بمعنى آخر، لم يكن الأدب ولم تكن الفنون الإبداعية بوقاً للسياسة أو للشعارات أو التوجهات الحزبية، ومن يمارس الأدب يعرف صعوبة شروطه، ويعرف اختلاف التعبير الأدبي عن أي تعبير آخر مهما يكن محترماً أو نبيلاً.
كأن غسان حاول أن يكون أديباً ضمن أصعب معايير الأدب، دون احتجاج بضرورات التعبير، فكانت معادلته صعبة، لكنها مطلوبة ومشروعة، فالأديب الملتزم في مواقفه ورؤيته، هو أدعى الناس للالتزام بالشرط الجمالي للإبداع. وربما يفسّر هذا الملمح ما قد يلحظه القارئ من تعارض ظاهري بين مقالات غسان السياسية وطريقته التراجيدية في تعبيره الأدبي، عندما يكشف عن أطراف المأساة، ويعرض الحياة المتنوعة في أحزانها وخيباتها وشروخها، فالأدب مضمار واسع للتعبير الإنساني بكل همومه ومآسيه، بينما التعبير السياسي تعبير تعبوي، قد لا يدقق في تفاصيل الواقع، وقد يقفز عنها، لضرورات وأسباب متعددة.
في مقدمته للأعمال القصصية لغسان كنفاني، كتب د. يوسف إدريس، معلم القصة العربية يقول: ((لم أحس بفخر أبداً أني أكتب القصة..، ولكن الفخر أني كاتب قصة قصيرة أحسسته مرتين في حياتي، والغريب أن المرتين كانتا تتعلقان بغسان كنفاني: الأولى حين استشهد على تلك الصورة المروعة، وكان استشهاده النهاية القمّة لحياة كاتب يمتّ إلى هذا العصر وإلى الشعب وإلى قضية مثل قضيته.. أحسست لأول مرة في حياتي بفخر أني من كتاب القصة العربية القصيرة حين استشهد غسان كنفاني… المرة الثانية التي أحسست فيها بالفخر إني كاتب، حين تفضل الأصدقاء وعهدوا إلى بكتابة هذا التقديم لقصص غسان كنفاني القصيرة الكاملة)).
وهذا الفخر الذي أعلنه يوسف إدريس صراحة، يتجاوز حدود المجاملة، فقد أعطى كنفاني الكتابة معنى الحرية، وقرنها بأعلى معاني النضال، كما جعل من شخصية المبدع شخصية مقترنة بالقضية المشرّفة التي يحقّ للمرء أن يفخر بها، لقد صار للكتابة القصصية والإبداعية منظوراً مغايرا مع الممارسة الكنفانية، ومع استشهاده في شبابه المتألق كنتيجة لخوف المحتل منه ومن كتابته؛ هكذا تبدو الكتابة مع ظاهرة غسان كنفاني جزءاً أساسياً من حركة المجتمع، وقسيماً أساسياً في هويته النضالية، إنها شريك الجماهير، ومرآة وعيهم وإنسانيتهم، وهي أيضاً مفزعة ومرعبة، توازي البندقية وأدوات النضال المباشرة. وهكذا صار كنفاني حياة متجددة للأدب العربي الحديث، بإنتاجه الحي، وبنهايته المأساوية التي تطايرت فيها أشلاؤه تحت أثر العبوة الناسفة، لكنّه تحوّل إلى علامة خالدة من علامات الأدب العربي كلّه، في صورة مثقف كبير منح وطنه وشعبه كل ما يملك من عطاء ووعي، وكتب كأفضل ما تكون الكتابة، وربما هذا ما يفسر خلوده المتجدد رغم كل هذه السنوات التي مرّت على غيابه المدوّي.
رسم غسان كنفاني في قصصه ورواياته صورة ممتلئة بالتفاصيل للحياة الفلسطينية في إطارها الإنساني والوجودي، وكانت اللمسات الوجودية المعبّرة إحدى ميزات كتابة غسان، فهو حين يكتب عن انتظار الفدائي، وعن ولادته، ثم حين يمجّده ويعد به، ينظر له من منظور إنساني ممتدّ، ولا يغلق شخصيته على أبعادها الفلسطينية وحدها، إنه إنسان أولاً، وهكذا تمكن كنفاني مبكراً من اقتراح أحد سبل الكتابة العالمية، كيف تنقل هموم شعبك، لتغدو هموم الشعوب كلها، حتى تجد من يتعاطف معك وينتصر لك… ليس الأمر سهلاً، لكنها خيارات الكاتب الواعي، والمبدع الإنسان.
قصة العروس
عام 1965 كتب غسان قصته (العروس) التي ظهرت في مجموعته (ما تبقّى لكم)، واختار لها شكل الرسالة، وهو شكل أثير عند غسان، لجأ إليه في مجموعة واضحة من قصصه، وهو شكل يلتقي مع وظيفة الأدب كلها في منظور كنفاني؛ الأدب بوصفه رسالة؛ بالمعنى الإيجابي للاتصال بين الكاتب والمكتوب له، بين المبدع والجمهور. وفي قصته تلك عبّر عن ملامح الفدائي وعن صورته المنتظرة أو المتوقعة، أي أنه في قصة (العروس) يرسم الصورة الإنسانية للفدائي قبل أن تكتمل، مع بدايات انطلاق الثورة الفلسطينية. وهو يوجه الرسالة إلى صديق مفترض اسمه رياض. ويقول فيها:
“لقد اكتشفت أنه محض جنون أن أكتب وأقول لك: أبحث معي حيث أنت، عن رجل طويل جداً، صلب جداً، لا أعرف اسمه، ولكنه يلبس بدله خاكية عتيقة، ويلوح لأول وهله أنه مجنون”. ثم يحدد في بقية القصة صفات أخرى للمنتظر: “هو شيء آخر متميز… وهو محوّط بالغبار المضيء”… ثم يسرد لقاءه بذلك الشخص الغريب، الذي سأله عن العروس، وطلب منه أن يساعده في البحث عنها، كما تعرض القصة لبعض معالم النضال عام 1948، وتعود للتاريخ الفلسطيني لتقرأه من جديد، ربما لتفسير ولادة الثورة وهاجس التحرير.
نتوقف عند هذه القصة لنلاحظ الصيغة الإنسانية التي لا تنفصل عن الهاجس النضالي، ونلاحظ أيضاً تتبع ولادة الثورة، والتوجه نحو المقاومة التي كان غسان من أبرز شهودها وشهدائها، كاتباً ومناضلاً، وحملت كتابته عنها صيغة جديدة كانت غائبة إلى حد كبير عن النثر الفلسطيني، الذي كان حتى ذلك الحين، مأسوراً لصيغة الحنين وأدب (الخروج من الجنة).
خيمة عن خيمة تفرق
لقد أعطى غسان كنفاني الكتابة السردية معالم جديدة، ونقل النثر الفلسطيني إلى مناطق لم يدخلها من قبل، وكان المبدع المواكب للمقاومة، والمعبر عن إنسانيتها وطموحاتها. إنها المقاومة الخارجة من الجماهير البسيطة الفقيرة، وليست مقاومة نظرية بعيدة عن الواقع، ومقاومة أولئك الكادحين هي التي أعطت معنى جديداً للخيام، فنطقت (أم سعد) بحكمتها البسيطة المؤثرة: (خيمة عن خيمة .. تفرق)، فخيمة الفدائي مختلفة عن خيمة اللاجئ، وهي تحولات عبّر عنها أدب كنفاني تعبيراً نبيلاً في قصصه ورواياته المختلفة.
في (أم سعد) يستخدم غسان شكلاً متميزاً يتمثل في اللوحات القصصية التي تكتمل كل منها في صورة (قصة قصيرة) لكنها تنفتح على غيرها، ليكون العمل في صورته النهائية، أشبه بالنوفيلا أو الرواية القصيرة. ويأتي السرد من منظور السارد المتكلم المشارك أو القريب من الشخصية الرئيسية (أم سعد). ويصورها ببلاغته السردية مرةً بعد مرة “إنها سيدة في الأربعين، كما يبدو لي، قوية كما لا يستطيع الصخر، صبورة كما لا يطيق الصبر، تقطع أيام الأسبوع جيئة وذهاباً، تعيش عمرها عشر مرات من التعب والعمل كي تنتزع لقمتها النظيفة ولقم أولادها”.
هذه المرأة القادمة من المخيّم يعرفها الراوي جيداً “أعرفها منذ سنوات. تشكل في مسيرة أيامي شيئاً لا غنى عنه، حين تدق باب البيت وتضع أشياءها الفقيرة في المدخل، تفوح في رأسي رائحة المخيمات بتعاستها وصمودها العريق، ببؤسها وآمالها، ترتد إلى لساني غصة المرارة التي علكتها حتى الدوار سنة وراء سنة”.
ومن الصور اللافتة في رواية(أم سعد) تلك الملامح التشكيلية التي تذكرنا بغسان الرسام، خصوصاً حيث يتخذ من كفّي أم سعد وحركتها صورة موازية تعكس شخصيتها ومشاعرها، وقد تكرر مشهد الكفيّن على مدار الرواية في صورة إيقاع خفيّ يسير سيراً متصاعداً مع حركة السرد ودورانه، فعندما أنبأته بالتحاق ابنها(سعد) بالفدائيين، تحولت حركة السرد إلى وصف الكفين.
“كانت كفاها مطويتين على حضنها، ورأيتهما هناك جافتين كقطعة حطب، مشققتين كجذع هرم، وعبر الأخاديد التي حفرتها فيهما سنون لا تحصى من العمل الصعب، رأيت رحلتها الشقية مع سعد، منذ كان طفلاً إلى أن شب رجلاً”.
– ثم يكمل مشهد الحوار، مرة ثانية بوصف الكفين:
” وكنت ما أزال أنظر إلى كفيها، منكفئين هناك كشيئين مصابين بالخيبة، تصيحان من أعماقها، تطاردان المهاجر إلى الخطر والمجهول….لماذا، يا إلهي، يتعين على الأمهات أن يفقدنّ أبناءهن”.
وهو يرسم صورة إنسانية لأم سعد، الأم التي ترسل ابنها من أجل فلسطين، لكنها كانت حزينة وممزقة، فالأم الفلسطينية ليست من حجر، بل هي أم تحسّ بالفقد والفجيعة، كأي أم في العالم، لكن ظروفها الاستثنائية هي التي منحتها بلاغتها الخاصة، التي رسمها غسان في صورة (أم سعد) وفي كفيها وحركة يديها، حيث الحيرة والتمزق والمعاناة والإحساس بالفقد.
غسان كنفاني كتاب مفتوح لا ينتهي، وحياة متجددة لا تموت، فهو الشهيد الحي، والمبدع الذي تظل كلماته تتنفّس لتقرأ فيها الأجيال المتجددة تجربة إنسانية نادرة.