قراءة في “بلسم المسافات” للشاعر الأردني زيد الطهراوي

(ثقافات)

* د. موسى المودن

صدر مؤخرا كتاب قيم للأستاذ والشاعر الجليل زيد الطهراوي الأردني عن دار الصحبة الثقافية للنشر الإلكتروني، ويقع هذا الكتاب في حوالي مائة صفحة، يتضمن ما مجموعه أربعون مقالا في الأدب والفن قام بنشرها في مجلات وجرائد دولية متنوعة؛ وقد آثر في الأخير أن يضمها في كتاب واحد حتى يتسنى للقارئ الاستفادة من الفوائد التي تحتويها هذه المقالات، والتي جاءت على شكل خواطر مختصرة في أغلبها، تتراوح بين الصفحة والثلاث صفحات على الأغلب، يطرح فيها مجموعة من القضايا الأدبية والفنية والتاريخية والاجتماعية، وانطلاقا من قراءتي لمجموع هذه المقالات يمكنني أن أصنف القضايا التي تطرق إليها هذه المقالات على الشكل التالي:

-قراءات في دواوين شعرية:

كتب تختلف من حيث المواضيع والمضامين، فمثلا نجد هنالك دواوين شعرية لشعراء كبار يناقش الكاتب والشاعر الأستاذ زيد الطهراوي من خلال مضامينها الأغراض المعالجة في هذه الدواوين والأساليب الفنية الطاغية وكذا القضايا الأخرى التي أثارت انتباهه فيها، ومن أبرز الدواوين التي تطرق إليها نذكر: دواوين محمود درويش التي تتحدث عن المعاناة الذي عاشها المجتمع الفلسطيني والمآسي التي نتجت عن هذه المعاناة، وكذا الملامح الفنية المدرجة في بناء القصائد ووظيفتها في إيصال المعنى والمبنى.

بالإضافة إلى دواوين أخرى من قبيل ديوان سميح القاسم، الذي أخذ منه قصيدة “تعالي لنرسم معا قوس قزح”، هذه القصيدة التي تعالج مأساة الشعب الفلسطيني المنكوب ومقاومته للاحتلال الإسرائيلي الجاثم على أرضه منذ أكثر من سبعين سنة؛ وقد حلل الشاعر مضامين القصيدة وفق رؤيا تعتمد المقارنة بين تأويلات المضامين التي حاول بعض النقاد من خلال دراستهم للقصيدة بسط ما تناولته من وجهات نظر في المعنى والمبنى والقضايا المتناولة.

وقد وصل تعداد المقالات التي تناول فيها الشاعر دواوين الشعراء وقصائدهم بالدراسة والتنقيب إلى حوالي ثلاث عشرة قصيدة وديوانا، سواء كانت هذه الدواوين أو القصائد من الشعر المعاصر، كقصائد كل من السياب ومحمود درويش ونزار قباني وسميح القاسم وغيرهم، أو الشعر الإسلامي والكلاسيكي، من قبيل شعر المتنبي وعلال الفاسي وغيرهم.

وقد احتل الشعر المعاصر مرتبة الصدارة في اهتمام الكاتب، فهو في نظرنا الأقدر على احتواء اهتمامات الشاعر وتساؤلاته وانفعالاته، فالشاعر دائم التساؤل حول الجدوى من الحياة في ظل انكسار الإنسان وازدياد معاناته، وقلة وعيه بواقعه الحياتي والمعيشي والثقافي، فالإنسان في نظره لابد وأن يكون منفعلا مؤثرا، كالقصيدة أثناء البناء، لا تستقر إلا بعد صقل البناء وتشذيب معالمه حتى يستقيم في نظر القارئ والمتلقي. أما الشعر القديم والإسلامي فكان نادر الحضور في الكتاب، فلا نجد من القصائد التي تناولها الكاتب سوى بضع قصائد ليس إلا مشتتة بين قراءات في دواوين، أو مضمنة في سياق عابر بقصد الاستشهاد أو المقارنة، ولعل انكباب المجتمع على قراءة السهل من القصائد هو ما جعل الشاعر يهتم بهذا المجال دون غيره حتى يكون أقدر على التواصل مع الطبقة القارئة في زمننا، والتي تتهرب من كل عميق وصعب. وحسبه أنه يبذل كل هذا الجهد ليوصل للقارئ زبدة القضايا المطروحة في كل كتاب مر على قراءته بين الوقت والحين.

ومن عناوين الدواوين وأسماء الشعراء الذين تطرق إليهم الشاعر في المقالات المدرجة، يمكن لنا أن نقول بأن أغلب من تناولهم الكاتب ترجع أصولهم إلى بلاد المشرق الإسلامي، وخاصة دول فلسطين ومصر وسوريا والعراق، كسميح القاسم، ومحمود درويش، والسياب ونازك الملائكة وغيرهم. أما بخصوص الغرب الإسلامي، فقد كان تناوله لشعراء المنطقة وأدبائها محتشما بالمقارنة مع الغرب الإسلامي، حيث نرى فقرا في هذا المجال. ومن أبرز من تناولهم الشاعر بالدراسة نذكر كلا من الشاعر المغربي علال الفاسي، والشاعر التونسي الشابي، وكذا الشاعر السوداني محمد الفيتوري؛ ولعل قلة حديثه عن أدباء الغرب الإسلامي راجع إلى عدم اهتمام هؤلاء بتسويق منتجهم الأدبي منذ مطلع القرن العشرين وإلى فترتنا الحالية؛ متبعين بذلك نهج أسلافهم في اتباع المشرق والمشارقة وما ينتجونه حرفا بحرف. فبالرغم من الاجتهادات القائمة في الواقع الآني، إلا أن جل هذه الاجتهادات لا تعدو أن تكون استنساخا للقضايا التي يعالجها المشارقة مع بعض من التنميق والتزويق.

– قراءات في روايات معاصرة:

لم يقتصر اهتمام الشاعر بالقضايا التي يطرحها الشعر والشعراء فقط، بل وجدنا له اهتماما بمجال الرواية المعاصرة، حيث لفت انتباهنا حديثه عن عملين روائيين، في مقال “تحركات الشخوص”، حيث سعى من خلاله إلى بسط أهم التيمات التي تتضمنها، مع إعطاء نماذج مقارنة اهتمت بنفس المواضيع التي شغلت بال الروائي في المتن، و هما رواية جمعة حماد الموسومة بـــ”رحلة الضياع”، ورواية عبد الرحمن منيف الموسومة بــ”الأشجار واغتيال مرزوق” وغيرها، هذه الأعمال المقارنة التي أراد من خلالها الشاعر إبراز تيمة الضياع التي أصبح هؤلاء يحاولون معالجتها في نصوصهم الأدبية، وذلك عبر إبراز أهم الأوضاع التي يعيشها المثقف العربي سواء في مجال الحياة العامة، أو في مجال الكاتبة والمثاقفة.

• بالإضافة إلى العمل المدرج سابقا، تناول الناقد عملا إبداعيا آخر هو “سليل إشبيلية” للكاتب موسى المنصوري، وهو يرتبط هذه المرة بمنطقة الغرب الإسلامي، وبالضبط منطقة المغرب الأقصى، هذه المنطقة التي تحظى بكبير الاهتمام في وجدان الشاعر، أولا لأنها تلتحم في نظره مع المشرق العربي في قضية الوحدة والدين واللغة والمصير، وثانيا لأن أهاليها تربطهم رابطة الحب المقدس لقضايا أمتهم، وخاصة القضية الفلسطينية، فدائما كانت فلسطين حاضرة في وجدان الشعب المغاربي، فلا يترك المغاربة فرصة إلا وعبروا عن حبهم للقدس وأهله، وهذا ليس بغريب عن أمة زحفت من أقاصي الأرض إلى بلاد المقدس والشام من أجل الدفاع عنها وعن أهلها، لا يحملهم في ذلك سوى حب الإسلام وأهله، سواء في فترة الدولة الأيوبية والموحدية ودولة المماليك وحتى في فترتنا المعاصرة، حيث ساهم المغاربة بإشارة مباشرة من طرف الملوك العلويين في واجب مساندة الدول العربية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي في كل من الجبهة السورية أو المصرية.

وعودة إلى موضوع الرواية المذكورة سلفا، فإن الشاعر في بداية مقاله عبر بشكل غير مباشر عن إعجابه بالقضايا المطروحة فيها، والتي لابد أن تكون من القضايا التي يسمع بها لأول مرة، وذلك بسبب قلة الكتابات التي تناولت تاريخ المنطقة التي دارت فيها أحداث الرواية؛ حيث يتعرف الكاتب من خلال هذا العمل على أهم العادات التي تميز الشعب المغربي، معربا في هذا الصدد على إعجابه بها، -وخاصة التي جاءت في سياقها الإيجابي، وفي نفس الوقت مستهجنا لبعض العادات التي لها حمولة سلبية من قبيل السحر والشعوذة، والتي تصدر من بعض الشخصيات التي يفترض بها أن تكون قدوة للمجتمع؛ معلقا في ذلك على هذه العادات بكونها تشترك في كثير من تفاصيلها مع العادات المشرقية، والتي تحبها النفوس وتسمو لها، من قبيل حب العلم وكرم الضيافة، ومناصرة المظلوم، والوقوف في وجه الظالم مهما كانت مكانته الاجتماعية.

بالإضافة إلى ذلك، ركز الشاعر في هذا المقال على التنبيه إلى التيمة التاريخية الطاغية في العمل الروائي، والتي بررها بأنها تعمل على محاولة ربط الإنسان بماضيه المجيد، وخاصة الماضي البعيد الذي يرتبط بالأندلس، هذا البلد الذي هجر منه الكثيرون في فترة زمنية معينة، كأنه بذلك يحاول أن يذكر القارئ بضرورة إعادة النظر في الطريقة التي يعيش بها المجتمع في واقعنا الراهن، فالشتات والفرقة لا ينتجان سوى الفرقة والتشظي؛ والتشظي لابد وأن ينتج جيلا يبيع الأخضر واليابس للآخر القوي إلى أن يستحوذ على كل ما يملك، محفزا في ذلك على الصمود في وجه المد العولمي بكل أشكاله، وذلك باستعمال العلم كدرع يقي به الإنسان نفسه أولا، ثم يبني به مجتمعه ثانيا، فالعلم في نظره هو طريق السلام للخروج من هذه الجائحة التي أصبحت تهدد الأمة.

إن البحث عن الهوية والتاريخ حاضر بقوة في هذا العمل الأدبي، فالكاتب في بنائه لأحداث الرواية حاول تنبيه القارئ إلى مكامن الخلل الذي يعيش فيه، والحلول المناسبة التي يفترض به أن يخرج بها نفسه من دوامة التيه والضياع؛ كأنه بهذه الإشارات يسعى إلى وضع اليد على الجرح، قائلا وبكل اختصار هذا هو الداء، وهذا هو الدواء، فاحرصوا على فهم الماضي جيدا والاستفادة من دروسه وعبره، ثم انطلقوا في مسيرة ترميم ماضيكم، وتصالحوا معه بالأساس، ثم انطلقوا في مسيرة بناء المستقبل بعد أن تتأكدوا من جدوى وفعالية الترميم والمصالحة مع الذات، مع التركيز على قضية الإصلاح ثم الإصلاح، فالمجتمع في نظره لا يبنى إلا إذا رتب الأولويات، والتي حددت حسب العمل المدروس في العالم أو المدرس، ثم الطبيب الماهر، وفي الجندي المقاوم الثابت على المقدس والثابت.

وعلى العموم، فإنه وإن كانت هذه الدراسات (الدراسات النقدية الخاصة بالأعمال الروائية) قليلة بالمقارنة مع الدراسات التي خصصها الشاعر للدواوين والقضايا الشعرية، فإنه يمكن القول بأن الاهتمام بجنس الرواية مؤشر إيجابي نتلمس من خلاله على وجود نظرة جديدة يبنيها الشاعر في سياق انفتاحه على جنس الرواية بكل أشكالها، سواء الرواية الواقعية أو التاريخية أو غيرها، مع انكباب لافت له في دراسة وقراءة الأعمال النقدية التي تختص بهذا المجال، وهذا ما يؤشر على سعة زاد الشاعر من جهة، وعلى تنويه للقضايا التي تشغل بال الكاتب في واقعنا الراهن من جهة أخرى.

– قضايا نقدية مختلفة:

بالإضافة إلى القراءات المختلفة في الدواوين والكتب والروايات، تناول الشاعر عدة قضايا أدبية وفنية واجتماعية هي في الأصل مستوحاة من صميم الاهتمامات التي أصبحت تشغل بال القارئ والمثقف العربي والإسلامي، وخاصة القضايا ذات البعد الأدبي. فمثلا يطرح الأستاذ سؤالا مهما حول الجدوى من كتابة الشعر في زمن قل فيه من يتناوله بالكتابة والقراءة والدراسة، بالمقارنة مع الاهتمام الذي أصبحت بعض الأجناس الأدبية الأخرى تحظى به، من قبيل الرواية والبلاغة الجديدة والرحبة، وكذا القضايا ذات البعد السياسي والاجتماعي والسوسيولوجي وكذا التاريخي.

ويخلص في الأخير إلى التأكيد على أن الشعر بكل مضامينه لم يكن هدفه دائما التعبير عن الذات سواء في سياق الحزن أو الفرح أو العزلة أو حتى الغزل، بل كان ومازال الشاعر لسان حال مجتمعه، فإذا كان الشاعر في القديم ينوب عن قبيلته في التصدي لغارات القبائل الأخرى المعادية له وتحفيز القبيلة في الرد عليها وعلى المسيئين لها، وفي عهد النبي عليه السلام والخلفاء الراشدين في الدفاع عن الدين والأمة، وهكذا تطور الأمر إلى أن وصلنا إلى العصرين الأموي والعباسي وما تفرعت عنه من قضايا جديدة ذات أبعاد ومغازي مختلفة، فإن الشاعر والشعر حاليا لم يفقد البريق السابق الذي كان يحظى به وإن بدا العكس، فالشاعر مازال لسان أمته ووطنه، مازال يقف في وجه الظلم، ومازال يعاند الظالمين، يتحدث بلسان المستضعفين، ويشاطر أحزان الثكلى والمهمشين؛ وما المراحل التي مر بها الشعر الكلاسيكي والرومانسي والمعاصر إلا أبرز مثل، فالإنسان حاضر في المضامين والقضايا التي يتناولها الشاعر بقوة، وفي بعض الأحيان تحس كأن الإنسان وهمومه هي المسيطرة على اهتمامات الشاعر الذي يوظف كل طاقته الإبداعية، وملكاته الفكرية التي يستقيها من حقول معرفية شتى، كالفلسفة والتاريخ وعلم الأساطير وغيرها.

وقد بلغ عدد المقالات التي تناول فيها الشاعر والكاتب القضايا النقدية المختلفة إلى حوالي تسعة عشر مقالا، جاء أغلبها في معالجة كل ما يرتبط بالشعر وقضاياه، وهموم الشاعر التي أصبحت تثير اهتماماته في وقتنا الراهن، وكذا بعض القضايا الراهنة التي ترتبط إنسانيا بقضايا الأمة من قريب أو بعيد، وفي كثير من الأحيان يتطرق الشاعر إلى قضايا أدبية تختص بالشعر من قبيل الأسلوب والجمالية، كتطرقه لمواضيع تختص بالتناص والأغراض والثوابت والقضايا. وفي المقابل يتناول الكاتب قضايا أدبية أخرى ذات بعد إشكالي من قبيل الاستشراق والواقع، والأدب الشعبي وأبعاد التوظيف، والثورة والأبعاد الآنية والمستقبلية، مع فتح الأسئلة بشكل واسع وموسع فيما يخص الهدف والنتيجة مع إعطاء نماذج مقارنة يحاول من خلالها الشاعر تقريب الصورة بشكل أفضل وأسلم.

– خلاصة:

وفي الأخير يمكننا القول بأن هذا العمل النقدي الذي أتحف به الشاعر الساحة الأدبية الأردنية بالخصوص، والعربية والإسلامية بالعموم عالج مجموعة من القضايا المختلفة، والتي كان فيها للقضايا ذات البعد الاجتماعي والإنساني والثقافي والأدبي نصيب الأسد. ثم القضايا المرتبطة بمعالجة الجانب الشكلي والموضوعي والفني والجمالي والبنائي للأجناس الأدبية سواء التي ارتبطت بمجال الشعر أو الرواية، وحتى باقي الأجناس المضمنة في المقالات بشكل مباشر أو غير مباشر.

بالإضافة إلى هذا كله، يمكن أن نقول بأن هذا العمل يمثل ترجمة لعديد من الأدباء والفنانين والنقاد سواء المشارقة أو المغاربة، ففي كثير من المقالات يعمد الشاعر إلى الحديث عن سير الأدباء أو الشعراء أو النقاد مع الحديث عن أعمالهم الأدبية ودواوينهم الشعرية، وفي كثير من الأحيان يذكر الشاعر أكثر من عمل لهؤلاء المترجم لهم حتى يتسنى للقارئ الاستفادة من المواضيع التي كتب فيها هؤلاء، فيسهل عليه فهم ما حظي باهتمامهم من جهة، وتسهيل البحث عن كتبهم التي اشتهروا بها من جهة أخرى.

الحقيقة أن الشاعر وُفّق وإلى حد كبير في معالجة القضايا التي تشغل بال المثقف والمتلقي العربي بالعموم والإسلامي بالخصوص، مع إجابة موفقة على مجموعة من الأسئلة التي أصبحت تؤرق بال المتلقي العربي، من قبيل الحداثة والعتاقة، والأصالة والمعاصرة، والاهتمام وقلته، والانفتاح وجذواه، والتخلي عن الماهية والضياع في عالم المس واليوم، وكذا الحلول التي يطرحها الشاعر كمخلص للإنسان العربي من هذه الدوامة التي أصبح يتخبط فيها؛ هذه الحلول التي اختصرها فيما يلي: فهم الماضي والمصالحة معه؛ واستيعاب الحاضر والتكاثف في سياقه؛ وبناء المستقبل مع الوعي بالحاضر، وضرورة الوقوف على الماضي، ولمَ لا، الالتحام به ومعه

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *