خاص- ثقافات
*إسماعيل إبراهيم عبد
بإصداره الشعري الأول المعنون(تسلقي عروش الياسمين) يقوم الشاعر رياض الدليمي بما ليس متوقعاً وجوده , إذ أن الإصدار الأول لمعظم الشعراء يكون عاطفياً وجدياً تغلب عليه الذاتية المفرطة , فيما نجده في ” تسلقي عروش الياسمين ” مبتعداً بخطوات عن الذاتية والعاطفية بنحته للصور الشعرية , اذ عدّها محولاً فكرياً وتعبيرياً , تتنوع فيه متعُ القراءةِ فضلاً عن مهمته الإحيائية .
قصائده الأربع والعشرون هي متجهات فاعلة في نشر الوعي المتحضر للقيمة الجمالية المنبعثة من القيم الإنسانية عَبْرَ ثيمة (( الوطن .. المرأة , الكون , نعم الله , أنعام الوجود , تفاني الوجد )) . كلها تعطي إزاحة أساسية هي الانتماء لقدرية الوطن لا غير !
في قولنا ما يوحي بعناية الشاعر بالجزء الثقافي من الفكر الشعري , لكن بالرغم من توافره بصورة واضحة , فأن الشاعر يعتني كثيراً بالصورة الشعرية عَبْرَ الجملة والمفردة والتوزيع الخطي والعمودي للدلالات الفنية ليصوغ شعرية النثر وشعرية الشعر , وثقافية الأثر , التي سأقصرها على (الاضطهاد , الانتماء) .
أولاً : نثرية النثر
في هذا الباب يتمثل الصوغ التعبيري كمقول منفتح على الأشكال كلها بلا هوية إجناسية وهو يحتفظ بأدبيته عبر الإزاحات المُنَغِّمَة للدلائل . لننظر : [ لم تأتي بعد ْ ] كم لؤلؤة تأملتُها في السماءِ ولم أجدْها بعدْ يا شمس … إني أتجرعُ سمومَ الحروفِ وعصيانَ الفكرةِ وشتائمَ القوافي وأنتِ لمْ تأتي بعدْ …. من الوهلة الأولى نتوقع وجود دلالات تؤشر لشاعرية مُنَمَّطَة ومُنَغَّمَة تتمثل بلفظة الإيقاع (بعدْ) , وحركة السكون في لفظة (بعدْ) من ثم حركة الكسر أو الياء في نهاية الكلمات (السماءِ , الحروفِ الفكرةِ , القوافي) .
لكننا ما أن نغادر تلك الوهلة حتى يتبدى لنا : 1ـ وجود سياقٍ لنظام نثري نثري لم يتأثر بشعرية الشعر , فالشاعر ينادي موجوداً معنوياً هو (الشمس) دونما أي اعتبار للمقامية الشعورية , كأن الشمس كانت نديماً يحرق ويحترق لا مهرب منه . 2 ـ نلحظ أن (الشمس) شكل من فكرة النور الدائم الإشعاع . 3 ـ في إزاحة أخيرة ندرك أن الشمس هي قصيدة .
4 ـ تلك الإزاحات تطلق لنا موضوعاً فكرياً بنظام إزاحي ظاهري , بمعنى أن ليس فيها مضمر نبحث عنه , إنما فيها إتساقاُ متعامداً على تراكم دلالي بدءاً من اللفظة الأولى حتى اللفظة الأخيرة . 5 ـ الاتساق الفكري المتدرج يحقق لنا تواشجَ معانٍ في مقولٍ منتظم البرمجة مثل أية موضوعات في مقول نثري . 6 ـ من وجه آخر نجد نوعاً من الترنيم في تكرار جملة (وأنتِ لم تأتي بعدْ) , كأنها صورة لخلفية مشهد , بما يضاهي , هيأة الديكور والحركة المسرحية .
7 ـ من الممكن أن نجد شبهَ ومضٍ للقص عند استدراج الشاعر للقارئ ليفهم نوعاً من القص القصير القصير في مضمون البحث عن بطلة القص , (القصيدة / تقابل / الشمس معنى ودلالة ).
8 ـ تلك الخلائط تحيل إلى تنغيم يخص النثر متعدد الأغراض والأفكار وليس إلى (شعرٍ لخواطرِ قول عفوي) يخص المشاعر الانفعالية المقابلة للشعر الخالص , لذا يمكنني تسمية هذا النموذج بـ (نثرية النثر) المقابل (للشعرية اللغوية) .
ثانياً : شعرية الشعر نرى أن شعرية القصائد في (تسلقي عروش الياسمين لرياض الدليمي) متأتية من الاشتغال على الآتي: أـ الإزاحات المتراكمة سيكفينا نموذجان قصيران منها : النموذج الأول , مستل من ص37 : ـ [ ارمي بكرات الآه / تقابل الإزاحة التي تعني/ الآلام كثيرة ومتجمعة ويمكن ان تتحرك على الجسد والروح على مسمع القرنفل / تقابل إزاحياً معنى / العطر النفاذ , له , من البشر مَنْ يسمعونه لا أن يشمونه , أي هو بمثابة الفضائح التي تأخذ طبيعة الوشاية والإشاعة الهدامة .
بلا خسائر / تقابل ازاحياً معنى / لا خسائر في موجودات الكون سوى أنها غائبة عن نصرة الإنسان وغائبة عن إغاثته حال شدائده , لن ينقصها سوى إنها بلا فائدة] . ـ النموذج الثاني , مستل من ص12 : ـ [ أنا اخترتُ الجبَ عند أول قناةٍ في مطلع الزاب ] تقابل إزاحياً التراكم الدلالي الآتي:
إن الشاعر اختار أن يدفن نفسه في ظلمات الأرض لأجل أن يتحول نبعاً صافياً ومورداً للخير إذ هو الزاب الذي يروى بلاده , العراق . ولكونه سيصير مصدر الخير فسيجري بقناة الزاب (دجلة) موحداً البلاد من أقصى شمالها الشرقي الى أدنى جنوبها الغربي والشرقي , وتلك هي بلاد الرافدين كلها. ب ـ الانفعالات الشعورية المُنَغَّمَة
في العمل الأدبي وكل عمل ممتع بجودته لا يترك صائغُهُ شيئاً للصدفة أو العبث لذا فان مصاغات الشعر تتآلف مع بعضها جملاً وإيقاعاتٍ على شكل انفعال منضبط بقيود لا تبين , لكونها نابعة من شعور صادق عَبْرَ خبرة انفعالية مختارة ذات ذائقة لغوية خاصة , لها بصمة القائل وبلاغة التنغيم المتفرد .
مناسبة قولنا هذا هو أن الكثير من قصائد رياض الدليمي لها منحى انفعالياً منضبطاً بتنغيم (ما) له فرادة الشاعر وبصمته الخاصة . لننظر الآتي:
[ الزابُ خروفٌ لمقصلةِ التاريخِ وأنتِ تجمعينَ اشياءَكِ فتنسي عتوَ اللحظةِ
عن … غياب الفصول وورد الرمان يصرخ من شراسة العناق تلوذين بآخر صيحات العمرِ ولجاجة اللحظةِ تسألين عن أوطان النوارس عن شبقِ الشمسِ عن غروبِ حضوري ووهمٍ لقوسِ قزحٍ ـ تسلقي عروش الياسمين , ص79 , 80 ] في المقاطع المنصصة أعلاه من قصيدة (تسألين) ذاتٌ شاعرة منفعلة منتظمة النغم من الجانب الشعوري المنحاز للإنسانية الكبرى المعادلة للكونية , الذات هي الأشياء كونها الجمر الممسك بيد الوجد عند طرف اللحظة الشعرية , تلك اللحظة التي عمَّدَت قوامَها في علائق المثول الثلاثة الآتية:
– أنسنة الأشياء
إذ أن الزاب والتأريخ شيئان متأنسنان على الرغم من كونهما غير عاقلين ، وذا نراه نمطاً أولاً للأنسنة .
أما النمط الثاني فهو في ( صراخ الرمان) ، كون الرمان غير عاقل وجامد وجميل، لكنه صار بشراً يصرخ .. يصرخ لأنه انفعل بدرجة هائلة متأثراً بشبق الجوع إلى العشق والعناق .. ولمن العناق! ، انه للحبية الأرض , الأرض التي تحتاط بالوجود عبر صيحات العمر. الأنسنة الثالثة
هي تصالح الصياح ـ بأنواعه ـ مع صياح الزمن (اللجاجة) .
الأنسنة الرابعة
تتم عبر ثلاثة متصلات أوطان النوارس , شبق الشمس , غياب حضور الشاعر ، لعل هذا النمط هو الأكثر تركيبية وتعقيداً من غيره. ـ تذوب الدلائل:
العلاقات الدلالية يمكن إيجازها بمنجز عام هو(( إن الزاب كمصدر للخير صار ضحية الزمن الجديد الذي يؤرخ للشر بكل أنواعه , وان الرد صار بحجم انسحاب الحبيبة (الأرض) متبرئة من لحظة الشر هذه , بمقابل أن تمنح للنوارس والشمس والشاعر وطناً يعانق ، بشوق مصيري , بعضه بعضاً ، في الغيبة والحضور)) تلك الدلائل ذائبة بعضها بالبعض الآخر وكأنها لحمة جسد يريد أن يتكور على ذاته ليتهيأ لمعانقة المصير الأخير , الوقوف بوجه الشر بعريٍ كاملٍ ، يتوج الأرض بلون البهجة بحقيقة وجود قوس قزح الطفولة والبهاء والصحو بعد مطر الشر ذاك .
هذا الذوبان هو حالة دلالية وليس دلائل معاني منفرطة من عقد التنغيم والمنظم لإيقاع قيمة المعنى الأهم (نحيا ويحيا معنا بلدنا) .
ـ تثاقف القيم :
في مسألة القيم تكون ثيمة العمل دافعها المبرر , وقد تكون القيم مبرمجة على وفق كم إحصائي ( فالمشهد المتقدم احتوى على قيمتين الأولى فردية تخص الشاعر , والثانية تخص المجموع) ، كلاهما يستمدان سبب هيمنتهما (عبر الزمن المتضمن (.
عتو اللحظة وغياب الفصول وغياب الحضور
و( عبر موجودات القصيدة ( – الزاب , الأشياء , الرمان , النوارس , الشمس – تلك الموجودات ، الزمنية والمادية ، وفرت للقيم منطق الإقناع المبني على وهم جليل البهاء هو قوس قزح الألوان , ولعل الشاعر رمز به إلى عودة بلاده إلى مرحلة بهاء طفولة الإنسان كأُمنية للمستقبل القريب.
ثالثاً : ثقافية الأثر من مهام الشعر لما بعد الجمالية , أن يعبّر عن قضية إنسانية عبر الاستثمارات المركبة لمعاني الضمير السامية , وقد يكون التلميح أكثر فصاحة من التوضيح .
الشاعر رياض الدليمي قد أزاح جمالياته الشعرية لتصير مَعْبَراً لشعوره الإنساني المنتمي لقضية وحدة البلاد , وقد غطى ذلك بأردية (الاضطهاد , والانتماء) التي سبق لنا ذكرها دون إجراءات.. لتعميم الفائدة من الأثر (العمل الشعري) سنربط بين المنطق الإنساني والمنطق اللغوي لوضع الإجراء الشعري بمصاف قضية وحدة البلاد . أ ـ البلاد والاضطهاد يرى الشاعر ثيمة الاضطهاد بجريرتين هما : ـ تسفيه الحلم بالجمال : [ قَسّمي الانفاسَ بين التضاريسِ … دعي ليالينا المدججةِ بمتاريسِ الأحلامْ تتولى تهشيمَ السلاسلِ … لجسدِ العناقْ ـ تسلقي عروش الياسمين , ص11 ] التضحية بمستقبل البلاد : [ كلُ الضفافِ … غصّتْ بجنودِ قابيلْ لَنْ تقبلَ القرابينْ فاطمةْ أتسمعينَ أنينَ الجسورْ ونياحَ النخيلْ ذهولَ الفتيان؟ أَترينَ فَرطَ الأقراطِ وبقايا صورِ العشاقِ ؟ أَترينَ نثارَ المتنبي وتوجعَ السراي ؟ يا فاطمةْ حسابُ (الطف) يدمي القلبْ وقسمة الأضلاع تبكي الربْ! ـ تسلقي عروش الياسمين , ص13 , ص14] ب ـ البلاد والانتماء الانتماء بالنسبة للشاعر يأخذ شكل الوجود الفردي المماهي للوجود الجمعي , ذلك أن الشاعر , كذات عامة , ابن عصره وبيئته ومصيرهما , سيكون تعبيره لغة الفرد تُعَبِّر ـ مجازاً ـ عن لغة الجمع الاجتماعي . كثيرا ما يتجاوز الشعراء على جماليات النظم اللغوي للشعر لأجل تضخيم لغة (أنا الجماعة) , إذ يصير الشاعر نائباً مخوّلاً يقوم بفعل التعبير عن هموم وقضايا مجتمعه , وقد لا يفلح فنياًّ لكنه يرى ذلك تضحية من أجل الآخرين الذين وضعوا ثقتهم ومصيرهم بيده .. هذا التضخيم للذات فيه مهاوٍ عديدة لعل الشاعر نجح ببعضها ولم يتفوق في بعضها .
سنعدُّ التعبير المباشر إشارة للمحتمل الخاص باللا تفوق , والتعبير المحتوي للإزاحة إشارة إلى التفوق في ضمان شعرية الثقافة الإنسانية لموقف الشاعر .
لنلج باب الإجراء ونحاول الفهم المحايد لكلا الفرضين ..
العبارة والصفحة التفوق التراجع
يا صغيرتي المحتفية بزهر الرمان . ـ ص29 متفوقة ــ
لا تلغي هذرا مع رفيقاتك . ـ ص29 ــ متراجعة
انثري لقاح الطلع فوق جباه العشق. ـ ص47 متفوقة ــ
لقد فرت جيوش الشر مندحرة . ـ ص47 ــ متراجعة
أماكن العشب قد ضاقت بها الأرض. ـ ص28 متفوقة ــ
تعالي هنا… في خرم الإبرة (الوطن). ـ ص28 متفوقة ــ
بفمك تعبئين البنفسج في خزائن بقاياي . ـص80 متفوقة ــ
نسبة التفوق 5/7 نسبة التراجع 2/7 المجموع 7//7 تم اختيار العبارات عشوائياً , لذا فالنتائج هي نموذج لأمثلة وليست نموذجاً للأحكام الرياضية .