ساحة جامع الفنا : ترنُّح ذاكرة عصية

                           ( ثقافات )

 ساحة جامع الفنا : ترنُّح ذاكرة عصية

بقلم: سعيد بوخليط

حقيقة لم أعد أستجمع خيوط ماتبقى عالقا بين تلابيب ذاكرتي عن ساحة جامع الفنا، سوى باستعادة عصية لومضات تلك الصورة الأرشيفية التي رسمت معالمها وضمَّت في إطارها مجموع  حضور مراكش،قبل زحف سياق العولمة الفرنكشتايني الذي اكتسحنا جذريا دون سابق استعداد أو قدرة على استيعاب قوة الصدمة؛بداية الألفية الثالثة،ثم تكرّس تفاصيل الحياة الجديدة التي أفقدت الساحة ومعها المدينة قاطبة تلك الأصالة الخلاقة التي جعلت منها سابقا حاضرة تفيض عمقا وذكاء وبساطة وإدهاشا وثراء وسكينة وتسامحا حقيقيا يسري يوميا بعفوية هوياتية منسابة كالماء،وليس مؤسساتيا نلمس زيفه من الوهلة الأولى؛اصطنعه تربص أعمى لجشع تحريض نيو-ليبرالية،لاعلاقة لها بتاتا بروح مراكش كما عرفتها الحاضنة لمختلف أطوار طفولتي وشبابي.أخيرا،زلزال كورونا الذي قوَّض بنيويا كل معطيات المتراكم ثم تركه خلفه بعيدا جدا.

تقريبا،منذ تغير ملامح الساحة وافتقادها بالتالي لكثير من جوانب عذريتها،تحولت بالدرجة الأولى حسب رؤيتي الشخصية إلى مجرد سوق يومي للأكل بحيث تراجعت الأشكال الفرجوية الشعبية ذات المضامين الفنية التربوية الملهمة،التي شكلت تاريخيا ماهية فضاء جامع الفنا،لصالح أخرى رديئة في غاية الضحالة والرداءة،ثم اختفاء بل رحيل جل المنشطين الحقيقيين لهذا الفضاء التراثي الإنساني،الذين ترعرعت مثل أغلب المراكشيين على حسهم المسرحي العفوي قدر تميزه الجلي؛مثل شخصيات :

الصاروخ، دكتور الحشرات، المجذوب صاحب الحمام، ميخي، باقشيش صاحب الحمار أو بريكو، صاحب العقارب والثعابين، الصحراوي العشاب(رائد مقولة التْكْرْبيل الشهيرة أو”الفحولة الجنسية”)، لمسيح، الشلح والعروبي، مبارك الطيمومي(الفلكي)، المجموعات الغنائية الأصيلة (إعادة أداء مقطوعات جيل جلالة، ناس الغيوان، لمشاهب، لرصاد، إزنزان، مسناوة )، حلقات الحكواتيين، ليالي غناوة، الملاكمة (البوكس )… ومكونات أخرى شخصية ومعنوية؛من ذات صنف شعلة العطاء الارتجالي الممتع،إضافة إلى تواري بعض الأمكنة الوضاءة بعبق التاريخ من بينها مثلا مقهى ماطيش…

عموما،شعرت بأن الساحة مثلما أحببتها،أضاعت قسرا كثيرا من جمال روحها البسيطة قدر ثرائها كما اكتشفتها منذ البداية. هكذا،توقف شغفي بفضائها ثم ازدادت شيئا فشيئا حدة هذا الجحود نحو رمزية الأم الثانية،إلى أن صار باردا تماما بحيث اعتقدت خلال لحظة من اللحظات بانتهاء مفعول وخزه الألياف العصبية لذاكرتي.

لكن،منذ فترة ليست بالبعيدة،ساقتني الصدف لعبور جامع الفنا خلال فترة من الظهيرة ميزت الساحة خلالها إبان عصرها الذهبي،حيوية فسيفسائية لذيذة تمنح الزائر سكينة غربية، ملؤها جمال وشعرية متدفقين عبر مختلف تنوع الجغرافية الإنسانية،مهما بلغ مستوى سوء مزاجه واضطراب أو تلوث مشاعره.

ياللهول !حقا، صعقت من هول تراجيدية ماحدث. لما كل هذا الرحيل وقسوة التخلي المباغت،دون ذرة اكتراث حيال ألفة صحبتنا الطويلة،القديمة قدم العالم والضاربة جذورها في دواخل كل أبناء جامع الفنا ومعها مراكش؟

حقا !لم أصدق مارأيته بالملموس الجلي. يخيم صمت أشباح رهيب بكيفية غير قابلة بتاتا للتصديق حتى مع أسوأ تخمينات حكايات الرعب.فلا معنى يذكر قط لهذه الساحة،بغير كونها تجمعا كونيا نموذجيا؛تلتقي عند مضمارها جل الجغرافيات،مثلما عديدة جدا هي الوقائع التاريخية الذاتية والموضوعية التي تبلورت هنا،نتيجة صدف عبثية غريبة،بفضل لانهائية اللقاءات وسط جامع الفنا.

صادفت لأول مرة هوية الساحة الفانتاستيكية،وأنا طفل صغير،حينما قصدت على فترات غير متباعدة محطة حافلات النقل الطرقي بين المدن التي استوطنت خلال سنوات حيزا مهما من زوايا جامع الفنا،وأساسا مرآب الحافلة المتجهة إلى مدينة الرباط.ثم في الجهة الأخرى،على بعد مسافة قصيرة؛تحديدا مركز الساحة الذي شغلته فيما بعد غاية الآن موائد الأكل، اصطفت وتحاذت محلات خشبية عدة تعرض واجهاتها شتى عناوين الكتب والمجلات، على طراز شارع المتنبي مثلا في بغداد مثلما اكتشفت لاحقا،فكانت الساحة فعلا ورشا معرفيا دسما.

طبعا، هو أفق تقهقر حد التلاشي بتؤدة ممنهجة بكيفية غير بريئة وفق سيرورة التوجه العام الذي توخته عمدا المنظومة المجتمعية ككل، انتقلت معه جامع الفنا بدورها على حد تعبير ساخر لأحد معارفي القدامى، من التيار العقلي إلى آخر”بطني”(يقصد البطن).

دأبت صحبة هذا الصديق خلال فترة مهمة من علاقتنا،على قصد وجهة مقهى ماطيش،التي تحولت جراء العمليات القيصرية التي عاشتها جامع الفنا إلى محل تجاري، نتسامر أطراف الحديث لساعات مستمتعين بارتشاف أكواب شاي منعنع هيئت على مهل حسب قواعد الطريقة المغربية التقليدية، والاستماع إلى كلاسيكيات الغناء العربي لاسيما أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش.

بكل مايمكن لكلمة الترفيه أن تطويه من دلالات،شكلت جامع الفنا؛على الأقل تلك الماثلة في ذهني،ملاذا للسلوى والعزاء واستعادة التوازن النفسي،من خلال ترياق زخم التجارب المتنوعة التي بوسعك أن تعيشها دفعة واحدة؛ثم في الوقت نفسه. هكذا،تتأمل وتتملى وتضحك وتضجر وتتأفف وتقبل وتتراجع وتبكي وتشاهد وتكتشف وتعاين وتلتقط وتصادف ثم تستلهم في نهاية المطاف عبرة جامعة مانعة. إنه،الإنسان تبعا لماهيته.

حكايات كبيرة،بذات تعقيدات الحياة الأكبر.تصادفها أمامك متاحة بيسر على طبق من ذهب متوالية دفعة واحدة ضمن السياق نفسه،تتابعها طيلة اليوم عبر شريط سينمائي،كي تفهم وجهات مصيرك وتستوعب احتمالاته في علاقة بالعالم والآخر.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *