-
نجم الدين خلف الله
كان صلاح الدّين كِشريد (1924-2012) صيدلانيّاً. تلقّى تكويناً علميّاً في جامعات الطبّ ومُختبراته بفرنسا، كَلّله بإتقان مُدهشٍ للغة موليير، بعد أن تمكّن من الضّاد والعلوم الدينيّة، إذ نشأ في إحدى عائلات العِلم العَريقة بمدينة القَيْروان التونسيّة. كان الرّجل في شبابه، رغم حِذقه للّسان الفرنسي، رافضاً لمشاريع طمس الثقافة العربيّة، مدافعاً عن تواؤم الإسلام مع الحداثة، وألّف في ذلك كتابَيْن: “الوجه الحقيقيّ للإسلام” و”أسس وقواعد المدينة الإسلامية”.
فما كان من أحد أعلام الزيتونة المتأخّرين، الشيخ الحبيب المستاوي (1923-1975)، منشئ مجلّة “جوهر الإسلام”، التي أسّسها لمجابهة حملات التغريب، عبر قِسمَيْها العربي والفرنسي، إلّا أن عرض عليه نشرَ ترجمة أجزاء القرآن تباعاً في مَجلّته، من أجل إشاعتها في أوساط الشباب. وافق الرّجل على الفكرة وانكبّ على العمل طوال خمس سنواتٍ، إلى جانب مُزاولة الصّيْدلة، حتى أتمّ الترجمة كاملةً، وطُبعت سنة 1982، في دار “الغرب الإسلامي”، للناشر التونسي المقيم في بيروت الحبيب اللمسي. وقد أسهمت هذه الدار في طبع آثار علماء الإسلام في المغرب العربي، قديمِهم وحديثِهم.
وانتشرت، بعد ذلك، هذه التّرجمة لدى مسلمي فرنسا وبلجيكا والأقطار الإفريقيّة الناطقة بالفرنسيّة، وأعيدت طبعاتها مراتٍ، لكثرة الإقبال عليها. وقد تميّزت بتيسير معاني القرآن الكريم، بعد أن أدرك كشريد أنّ جمهورَ قرّائه من المسلمين أساساً، فتوجّه لهم بنقلٍ أمين مُبَسّطٍ، قاطعاً مع التراكيب المعضلة التي سار عليها المستشرقون من قبلُ، مثل ريجيس بلاشير (1908-1978)، ومع الصياغات الأسلوبيّة التي، من فَرط تعقيدها، لا يفقهها حتّى الفرنسيون أنفسهم. كذلك تجنّب المفردات الفنّيّة التي طالما حَشوْا بها ترجماتِهم، لأنّها تنحدر من الرّصيد المسيحي، الذي غالباً ما لا ينطبق على التقليد الإسلاميّ ومقولاته.
أما العنوان الذي أسنده إلى ترجمته، فهو “مدخل إلى التأويل الموضوعيّ لنصٍّ غير قابلٍ للترجمة: القرآن الكريم”، وكأنما أراد بهذا العنوان الطويل بيانَ منطلقات عمله. فهو يقرُّ باستحالة ترجمة كلام الله، بالنظر إلى ما في القرآن من خصائص أسلوبيّة: ليس أدناها الإيقاع، وأعلاها المعنى الربّاني الذي لا يُدرَك، مروراً بدقائق السّبك وصور المجاز. وأمّا كلمة “موضوعي”، ففيها نقدٌ مبطّن لما في ترجمات بعض الأوروبيين من تحامل وتحريفٍ وأخطاء، بلغت أوْجَ الرّداءة في ترجمة أندري شوراكي (1917-2007).
هذا وقد صدّر ترجَمته بمقدّمة بيّن فيها غايَتَه من هذا العمل: “إهداء طوق نجاةٍ للإنسانيّة قاطبةً، الغارقة في لُجج الحيرة، عساها تجد ما تتعلّق به”. كذلك تعرّض خلالها لتاريخ الترجمات الفرنسيّة السابقة للقرآن، عازياً عزوفَ المسلمين عن النّهوض بهذا العمل إلى تورّعهم عن ادّعاء نقل آيات القرآن المعجِزة إلى لغة أجنبيّة. إذ من “الجنون والغُلواء أن يريد الإنسان تَرجمة “الكتاب” إلى لغة بشريّة، تحلّ مَحلّه وتعوّضه”. إلّا أنه ردَّ على هذه الدعوى معتبراً أنّ من الضروري أن ينجز العرب – المسلمون هذه المهمّة الجليلة، فليس أحدٌ أقدر منهم على تذوّق لطائف البيان وجدانيّاً، وإن أدرك غيرهُم معانيه عقليّاً. وختَم تمهيده بالتعبير عن تهيّبه من الإقدام على الترجمة خشيةَ أن يقع في خيانة الأسلوب، فلا يعيد من جماليته إلا شأواً بسيطاً.
وقد آلى كشريد على نفسه ألّا يتوكّأ على أيّ ترجمة سابقة، عدا ترجمة محمد حميد الله (1910-1996)، وكتاب “معجم الألفاظ والأعلام القرآنية” لمحمد إسماعيل إبراهيم، مؤكّداً أنَّ ترجمته هذه تظلّ مجرّد تأويل، فالنقل من لغة إلى أخرى، شأنَ التفسير، بحثٌ عن المعنى وانتقاء له من جملة ممكنات يوفرها النصّ الأول، وجلّها محتملٌ ومرادٌ. ولهذا، اعتمد على تفسير “زاد المسير” لابن الجوزيّ (1116-1201)، من القدماء، وعلى تفسير مصطفي المَراغي (1881-1945) من المُحدَثين، في حلّ معضلات القرآن وانتقاء المعنى الأنسب. وإذا تعسَّر عليه أمرُ الدلالة، عاد إلى تفسير “الجلاليْن” وإلى “ظلال” سيّد قطب.
وتميّزت هذه الترجمة أيضاً، بإظهار النَّفَس العلميّ في القرآن، إذ بحُكم التنشئة العلميّة لصلاح الدين كشريد، التي اطّلَعَ من خلالها على حقائق العقل وظواهر الكون، ترَسَّخت لديه قناعة، مثل تلك التي عبَّر عنها موريس بوكاي، في ذات الحقبة، في كتابه “الإنجيل والقرآن والعلم” (1976)، مفادها أنّ نظريات العلم الحديث لا تعارضُ حقائق التنزيل، بل تَدعمها وتُجليها، ولا تثقل كاهلَ تأويلها.
مُترجم القرآن هنا مسلمٌ مؤمن، لم يَمنعه إيمانه من نقل معاني الكِتاب بأمانةٍ، بل إنه ساعَده على تتبّع سقطات المترجمين المقصودة منها واللاواعية، التي أشار إليها الباحث محمود طرشونة في مقاله “اختلاف ترجمات القرآن الكريم: الفُصول والغايات” (2018)، فتَحاشى ما ذهبوا إليه من غريب الاختيارات لتبرير عقائدهِم هُم وإنطاق القرآن بها، بل للترويج لنظرياتٍ ما وراء-نصّية، مثل القول إنّ القرآن استنسَخَ ما في التوراة والإنجيل أو إنه توكّأ على لُغة السّريان. وكُلّ هذا جعل من ترجمة كشريد جزءاً من النضال الفكريّ: ذلك أن ترجمة حميد الله، مع أنّها أسبَق، فإنّها ظلّت في رفوف النّخبة، ولم تُطبع طبعاتٍ واسعة تلبّي انتظار جُمهور عريض، كذلك فإنها بقيت عالِمةً، محكومةً بطبيعة القارئ الجامعيّ الذي تَوجّهت إليه ابتداءً.
ولم تَقتصر آثار صلاح الدين كشريد على ترجمة القرآن، بل نشط كثيراً في الكتابة الملتزمة، مثل “تأمّلات مسلم صادق”، ونقَل العديد من النصوص الإسلاميّة، منها “رياض الصالحين” (1990)، “الحلال والحرام في الإسلام” ليوسف القرضاوي (1990) و”تعليم الصلاة” (2008) لمحمد محمود الصواف وغيرها. ومع ذلك، ظلَّ مغموراً لدى القارئ العربي لأنّه يكتب بالفرنسية. ولعلّه آنَ الأوان لأن يُفكَّر في نَقل آثاره الفرنسيّة إلى الضاد حتى تفيد في إثراء النقاش الحاليّ حول قضايا مصيريّة كالهويّة والعلمانيّة في مجتمعاتنا.
ولعلّ كشريد، مثل كثيرين غيره، أراد أن يظهر ما في القرآن من التوافق بين حقائق العلم وآياته، فكان يزيّن تَرجمته ويحشّيها بذكر بعض مظاهر الإعجاز العلمي، مع أنّ العلمَ ذاته قد يتجاوزها، مثل فرضيات خلق الكون نتيجة الانفجار الهائل الذي هزّ السديم، وازدواجية جميع الكائنات وانقسامها إلى ذكر وأنثى، وغيرها من الظواهر التي أعلنها القرآن. ولذلك، كانت مسيرته الفكريّة منافحةً من أجل إظهار “الوجه الحقيقي” للإسلام، تأثّرت بالحماس الذي طغى في سبعينيات القرن الماضي للإعجاز العلميّ، وتوجّهت إلى جمهورٍ عريض من المسلمين، أعْيَتهم فنّيّة الترجمات السابقة.
كان لترجمة كشريد صدًى كبير في زمنها. قد يكون ألَقُها اليوم قد خبا بسبب انتشار الترجمات الرسميّة، التي تنهض بها الدّوَل، ولا تتميز عنها إلا ببعض التفاصيل، بل ربّما لا تَبلغ مَداها.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس
عن موقع العربي الجديد