صلاح عبدالصبور وحزنه الأوروبي



القاهرة- «حياتي في الشعر» لصلاح عبد الصبور، من أهم الكتب التي تناولت السيرة الفكرية لصاحبها، فهو كتاب في الشعر والنقد والفلسفة، على النحو الذي تبناه عبد الصبور في حياته ومسيرته، وكشف فيه عن تكوينه الشعري والثقافي، الأجمل أنه يدخل القارئ معه إلى فضاءات الكتابة، ليرى كيف تخلقت الجملة وراء الجملة، إلى أن اكتملت القصيدة، وهو نادراً ما تراه لدى الشعراء، الذين يقفون أمام كيمياء القصيدة، وكأنها سر حربي، يجب أن يبقى مغلقاً، خوفاً من افتضاض بكارة النص.
يمتلك الشاعر رحابة إنسانية، تجعله متصالحاً مع نفسه، وإذا كانت نصوصه تعكس معضلة وجودية، فإن ذلك متن مشكلته مع العالم، ألم تقتل هذا الشاعر الكبير كلمة، حين جمعته سهرة مع أصدقاء له، وقال رسام الكاريكاتير الشهير: «أنت بعت يا صلاح بمليم» كان يشير إلى تعاون عب الصبور مع نظام السادات، قبل أن يترأس تحرير مجلة «الكاتب»، وحين وافق على أن يكون رئيساً للهيئة المصرية العامة للكتاب، مات صلاح عبد الصبور في الطريق إلى المستشفى، بعد أن دهمته ذبحة صدرية أثناء السهرة القاتلة. لا يكتب صلاح عبد الصبور سيرته الذاتية، لكنه يكتب سيرة عقل وقلب، حاول بهما أن يفهم نفسه أولاً، ومن ثم العالم والشعر، وها هو يبدأ بمقولة سقراط «اعرف نفسك»، ويرى أن تلك الجملة حولت مسار الإنسانية «إذ سعى هذا الفيلسوف إلى تفتيت الذرة الكونية المسماة بالإنسان، والتي يتكون من تناغم آحادها ما نسميه بالمجتمع، ومن حركتها ما نطلق عليه اسم التاريخ، ومن لحظات نشوتها ما نعرفه بالفن».
«اعرف نفسك» تعني أن تعرف الجذور التي تنتمي إليها، وهي جذور البشرية الممتدة في ذاتك المفردة، فليس تاريخ المعرفة الإنسانية بأوجهها العقلية والحدسية والتجريبية، إلا تاريخ تأمل الإنسان في ذاته، وكما يوضح عبد الصبور، فإن نظر الإنسان في ذاته هو التحول الأكبر للإدراك البشري، وليس معنى النظر في الذات هنا، الانكفاء على النفس، فالذات تصبح محوراً أو بؤرة لصور الكون وأشيائه.
يقترب بنا صلاح عبد الصبور أكثر من عالمه الشعري، حين يؤكد أنه كان يحس في الأيام الأولى بأن رحلة الشعر هي رحلة المعنى إلى الشاعر، لا رحلة الشاعر إلى المعنى، وعن هذا عبر في إحدى قصائده الباكرة، وهي قصيدة «الرحلة» التي كتبها في عام 1952، لكن كلما توغلنا في تجربته الشعرية نراه يكشف جانباً من مشاغله الخاصة بالشعر، فهو يقول: «شغلت في السنوات الأخيرة بفكرة التشكيل في القصيدة، حتى لقد بت أؤمن بأن القصيدة التي تفتقد التشكيل تفتقد الكثير من مبررات وجودها، ولعل إدراكي لفكرة التشكيل لم ينبع من قراءتي للشعر بقدر ما نبع من محاولتي تذوق فن التصوير».
ويرى عبد الصبور أن كلمة «التشكيل» أكثر دقة من «المعمار» التي تبناها نقاد كبار، ويستشهد بما قاله جوتة: «الفن تشكيل قبل أن يكون جمالاً» ويولي أهمية كبيرة لما أطلق عليه «الذروة الشعرية»، وهي هنا تشبه لحظة التنوير في القصة القصيرة، ويوضح أن «التفاصيل تتزاحم من أول القصيدة حتى قرب نهايتها لتجلو موقفاً ما، وتبدو هذه التفاصيل في بعض الأحيان لوناً من الثرثرة الحميمة، ثم ما يلبث كل ذلك أن يرتفع بارتفاع الذروة، ويكتسب دلالاته بعمقها، وهنا قد يعود القارئ مرة ثانية، على ضوء الذروة الأخيرة، لكي يعيد تقدير قيمة التفاصيل الأولى».
شيئاً فشيئاً ينسلخ عبد الصبور من ذاته ليعود إليها، متحدثاً عن أن الشاعر يبدأ حياته الشعرية أقرب إلى الذاتية، ويتذكر حين كان طالباً أنه جمع أول مجموعة شعرية في كراس صغير، وكان الديوان محتوياً على قصيدة واحدة في غرض اجتماعي، بينما البقية نفثات ذاتية صارخة، ويفسر ذلك الجنوح المسرف إلى الذاتية، بأنه يعود إلى أنه ولد بين صفحات كتب المنفلوطي وجبران.
في عامه 15استقام له الوزن، فظن أنه ملك العالم: «بمعنى أنه يختلف عن البشر العاديين» كان ذلك عام 1947، ولا يخجل من أن يسجل قصائده الساذجة في تلك المرحلة، ويقول: «أهذا كلام مضحك؟ نعم ولكنه نبع من عذاب الدهشة، فأنا أتحدث عن نفسي بصفة العبقرية، ما أعظم الصفة وأهون الموصوف، ولكن ألم يكن ذلك هو ظني عندئذ؟».
ينتقل الشاعر من الحياة في مدينة صغيرة إلى العاصمة، لتتغير نظرته إلى الحب والذات، فيرى في قصائده الباكرة خليطاً من جبران والمنفلوطي ونيتشه، بل إن الحب في تلك القصائد كان لوناً من عبث الطفولة، لكنه ودع ذلك كله في عام 1949، ليتوقف عن الكتابة تماماً، في تلك الفترة قدم إليه زميله عبد الغفار مكاوي، بعض قصائد إليوت وريلكه، وقرأ مخطوطة ديوان محمود أمين العالم، ورأى أن أشعاره غامضة، وتسربت إلى جلسات الأصدقاء كلمات مثل السيريالية، وأندريه بريتون، وبودلير، وفاليري والشعر الخالص والرمزية والبرناسية.
فتن عبد الصبور بالسيريالية، وكتب قصائد في هذا الاتجاه، ثم أصابه اليأس، فكف عن كتابة الشعر، وحاول كتابة القصة القصيرة، لأنه رآها أوضح سبيلاً من الشعر، وعلى حد تعبيره: «كانت سبل الشعر قد اشتبهت علي أيما اشتباه، حتى ظننت أنني لن أعود إليه»، لكنه عاد في أوائل عام 1951 بمقطوعات، فيها آثار المرحلة السيريالية، مع محاولة الإفلات من سيطرة القافية الموحدة والوزن الموحد.
تخرج عبد الصبور في الجامعة، وعمل، وأصبح رقماً في بطاقات المعاشات والمرتبات – كما يقول – وبدأ يخبر الحياة، ويسأل نفسه أسئلة، كان عليه أن يعرف إجابتها، أو يكف عن الشعر، أسئلة مثل: ما جدوى الحياة؟ ما جدوى الحب؟ ما جدوى الفن؟ 
يواجه صلاح عبد الصبور نفسه بمقولات النقاد حوله بأنه «شاعر حزين»، ويوضح أن هؤلاء «يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام، وتلك مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الديني أو الأخلاقيين التقليديين»، وينبري لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر، والخلاصة أن الفن لا يخدم المجتمع لكنه يخدم الإنسان.
يقول: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني، ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شللي، شهوة لإصلاح العالم، إن شهوة إصلاح العالم هي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلا منهم يرى النقص، فلا يحاول أن يخدع عنه نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».
يتحدث الشاعر عن قضيتين أثارهما بعض النقاد: «أما أولاهما فهي أن حزننا نحن هذا الجيل من الشعراء، حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان إليوت، أما القضية الأخيب فهي قولهم إننا نتحدث عن مشكلات لم نعانها كمشكلة اللاتواصل الإنساني من خلال اللغة، كما تتضح عند يونسكو أو الجدب والانتظار عند بيكيت، وإليوت أيضاً، أو المشكلات الوجودية عند سارتر وكامي، وبخاصة مشكلة الموت والوعي».
يتوقف عبد الصبور كثيرا أمام قصيدة «الحزن» التي حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية، إلى لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة تافهة، ودفعه تهكم الأصدقاء بعد نشر القصيدة إلى التفكير في مشكلة اللغة الشعرية واللغة بوجه عام، موضحاً أن هناك ألفاظا ميتة رغم حياتها الواسعة، وقد أصبح الثراء فقرا لأنك لا تستطيع أن تستعمل ما تمتلكه.
يختتم صلاح عبد الصبور تجربته الشعرية قائلا: «كانت مسرحيتي» مأساة الحلاج «معبرة عن الإيمان العظيم، الذي بقي لي نقيا لا تشوبه شائبة، وهو الإيمان بالكلمة»، لذلك لم يكن غريباً أن تقتل هذا الشاعر «المتألم» لا «الحزين» كلمة!

_____

*الخليج الثقافي 

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *