-
إبراهيم عبدالمجيد
في كل عام ومع حضور عيد الفطر زمان، كنت أهوى سماع أغنية أم كلثوم «يا ليلة العيد أنستينا». كانت الإذاعة في كل محطاتها تذيعها، وكثيرا ما كان يفعل ذلك التلفزيون، وكان استقبال العيد يملأ الدنيا فرحا بحق. لم أكن قرأت أكثر من كتب المدرسة، ولا سمعت حولي حوارا حول أيّ مشكلة سياسية أو اجتماعية، فالحياة متسعة حول الناس العادية، لا يلتفتون إلى السياسة إلا إذا قامت حرب بيننا وبين إسرائيل مثلا.
لقد حدث ذلك في حياتي منذ الطفولة ثلاث مرات أعيها جيدا، أولها كانت العدوان الثلاثي عام 1956 وكنت تقريبا في العاشرة، وبلغ بنا الحماس أن قسمنا أنفسنا إلى فريقين، وكان الأمر صعبا أن يوافق أحد أن يكون في الفريق الإسرائيلي، لكنا اقتنعنا أنها لعبة نلعبها، وأقمنا على شاطئ ترعة المحمودية كوخين من الأشجار لليلة واحدة بتنا فيها قرب بيوتنا، ثم هجمنا على بعضنا فهزمنا من اعتبرناهم إسرائيليين ووقفنا سعداء، ثم سمعنا دوي المدافع فوق سطوح البيوت فظننا أنهم دخلوا الحرب معنا، لكن نظرنا إلى السماء فوجدنا طائرة تحترق وتهوي بعيدا، فأدركنا أنها طائرة أجنبية ضربتها المدافع المضادة للطائرات فوق بيوتنا في حيّ كرموز في الإسكندرية. الحرب الثانية كانت في عام 1967 والثالثة في 1973 وبينهما حرب الاستنزاف والأخيرة كانت في رمضان، وحين هلَّ العيد لم يصنع أهلنا الكعك ولم يشتروه، ولم تذع الإذاعة أغنية أم كلثوم وكانت الأغاني الوطنية.
لكن ماذا تصنع في نفسك وقد صرت كاتبا وقرأت مئات الكتب والروايات والدواوين، وانتميت يوما إلى جماعة معارضة من اليسار، وعرفت طريق المظاهرات، وذات مرة السجون. لم تعد أغنية أم كلثوم كافية لتفتح الدنيا التي تراها تضيق حولك، إن لم يكن عليك فعلى غيرك ومن هم حولك. المذهل أن مصر لم تنتج أغنية عن العيد بروعة أغنية ام كلثوم حتى الآن. انتجت أغنيات لطيفة مثل «أهلا .. أهلا بالعيد» لكنك كنت تجاوزت الطفولة والصبا، وتركت الأغنية الجديدة لأبنائك. لم أكن متشائما أبدا ولا متفائلا أيضا والسبب النسيان، وربما تَمَلُك الاغتراب من روح المبدعين. مم تتشاءم، أو بما تتفاءل، وكل شيء يمضي عبثا من حولك، مناقضا تماما للشعارات التي تملأ الحياة عن مستقبل أفضل. إنه الاغتراب يأخذك إلى عالم أفضل في ما تكتب. قفزت قصيدة المتنبي في كل عيد إلى الذاكرة لتحتل الواجهة، بدلا من أغنية أم كلثوم. كل من عرف القصيدة وجد فيها شيئا من نفسه ربما لا يعلن عنه. «عيد بأيّ حال عُدت يا عيد.. بما مضى أم بأمر فيك تجديد». يأخذني البيت الثاني فأنا أدرك أنه لن يأتي بما مضي ولا بما هو أفضل.
البيت الثاني عن الوحدة والفراق. «أما الأحباء فالبيداء دونهم.. فليت دونك بيدا دونها بيد». وعلى العكس فالذين باعدت بيني وبينهم البيد يستيقظون دائما في قصص وروايات كتبتها. اختفاؤهم جعلني لا أعرف هل هم أحياء أم غادروا الدنيا فظلوا أحياء. لم تجدِ البيداء في ابتعادهم إلا وقت الأزمة حين فشلت يوما قصة حب، لكن يظل بيت الشعر «نامت نواطير مصر عن ثعالبها .. فقد بشمن وما تفنى العناقيد» عابرا للزمان فلم يأتِ حاكم ولا نظام سياسي إلا واتهم من قبله بالفساد، ولم يحاكم فاسد إلا وتمت تبرئته، وما زالت العناقيد محل طمع. القصيدة العظيمة تمتلئ بالحكم عابرة الزمن فحين أقرأ:
يا ساقِيَيَّ أَخَمرٌ في كُؤوسِكُما
أَم في كُؤوسِكُما هَمٌّ وَتَسهيدُ
أَصَخرَةٌ أَنا مالي لا تُحَرِّكُني
هَذي المُدامُ وَلا هَذي الأَغاريدُ
اكتشف إنه يقصدني. فقد قيدتني وغيري كورونا في المنزل، وكما توقف الجسم عن الحركة، توقف العقل وقفز أمامه السؤال وما الفائدة، لكن حدث أن جاء هذا العيد رغم الجمود والرتابة بقفزة من أرض فلسطين. من القدس التي يعمل الصهاينة على إفراغها من أهلها، كما فعلوا من قبل في كل ما استولوا عليه من فلسطين. يثير ذلك الأسي لأنك لو فكرت أنه لو حدث منذ خمسين سنة لثارت الدول العربية وشعوبها. ويستيقظ الحزن حين تتذكر من القصيدة أيضا.
إنّي نَزَلتُ بِكَذّابينَ ضَيفُهُم
عَنِ القِرى وَعَنِ التَرحالِ مَحدودُ
جودُ الرِجالِ مِنَ الأَيدي وَجودُهُمُ
مِنَ اللِسانِ فَلا كانوا وَلا الجودُ
المتنبي يتحدث عن نفسه في مصر حين كان ضيفا على حاكمها كافور الإخشيدي، وليس عن شعبها، وكيف خاب أمله فيه وفي رجاله، فلم ينعم عليه بشيء، وقيد حركته فلا يستطيع أن يبقى أو يتركها، لكن الحكمة تتجاوز زمنها ومكانها حين تنظر حولك لترى كيف صارت معظم الشعوب العربية مقيدة لا تخرج إلا للهرب أو اللجوء، وصار كل شيء لا تجري عليه الحركة إلى الأمام. يأتي حراك الشعب الفلسطيني للحفاظ على ممتلكاتهم في حي الشيخ جرّاح، وللحفاظ على ما تبقي من القدس وللحفاظ على المسجد الأقصي نفسه، ويضرب أحلام المطبعين، الذين كلما اقتربوا من إسرائيل زاد جشعها وأحلام كوشنير ومشروعه في شرق أوسط جديد لإسرائيل لا غيرها، وأحلام الذين يتصورون أن السلام تريده إسرائيل.
إسرائيل التي قامت على أسطورة من النيل إلى الفرات، والتي أقامتها الدول الأوروبية تكفيرا عن ذنوبها، في ما ارتكبته من مذابح في حق اليهود في بلادها، وكي لا يعرف الوطن العربي الاستقرار. مشاهد الشعب الفلسطيني في القدس حول وأمام وداخل المسجد الأقصى وفي حي الشيخ جرّاح مذهلة وملهمة، وخيبة الأنظمة العربية ستكون أكبر، لأنها تظن أنها الفاعلة وليس الشعوب. تجاهل الإعلام العربي المتابعة المستمرة إلا ما ندر، وكان أولى بشاشاته أن تنشغل بالأحداث طول النهار والليل. لكن اشتعلت مواقع الفضاء الإفتراضي بمسارات أو «تريندات» مثل #أنا_عقبة. يقصدون في وجه إسرائيل والتطبيع و#انقذو_حي_الشيخ_جراح و#القدس_تنتفض وغيرها، وتتالت الصور والمشاهد المذهلة، ورغم الإصابات الكبيرة في الفلسطينيين كانت مشاهد المقاومة لجنود الاحتلال وصور الابتسامات على وجوه من يتم القبض عليهم من النساء والرجال والأطفال من الفلسطينيين، تملأ الدنيا بالأمل. ليس للشعب الفلسطيني فقط لكن لكل المضطهدين في بلادهم.
لقد حدث تدخل من بعض مواقع التواصل العالمية كي تهمل، أو تتراخى، أو تحذف مشاهد من الأحداث، لكن الآلاف صاروا يصورون ويكتبون على صفحاتهم. لقد خفت صوت المطبعين على الميديا، الذين يرون لليهود حقا في فلسطين ولا يميزون أنهم لا يأخذون حقهم، بل حق الفلسطينيين، ويتجاهلون أن هجرات اليهود من مذابح أوروبا في القرن التاسع عشر، ثم هتلر في القرن العشرين كانت إلى العالم العربي وفلسطين في قلبه، حتى جاء اليوم الذي قرروا فيه بالادعاءات الصهيونية إخراج الفلسطينيين من أرضهم. لا يتصور أحد أن ما جرى أمر عادي وسيمضي. لقد بث الروح في القضية الفلسطينية، وأعاد السؤال الضائع، كيف ودول عربية تقوم بالتطبيع مع إسرائيل، تستغل إسرائيل ذلك وتتوسع على حساب الفلسطينيين. إن مشاهد الشباب الإسرائيليين وهم يضحكون في وجوه النساء العربيات بسخرية وشماتة، تؤكد أن إسرائيل لا تتخلي عن أفكارها الصهيونية، وتبثها في الأجيال الجديدة من شعبها، ولا تعترف بالسلام، إلا راحة توجه فيها سهامها إلى الفلسطينيين. أكتب هذا المقال وثلاثة أيام باقية على العيد، لأقرر أنني منذ أكثر من ربع قرن لم أشعر ببهجة العيد، كما أشعر به الآن، رغم إصابات الفلسطينيين. وأنه رغم تخاذل الدول والحكومات والجامعة العربية والعالم، فقد اختلفت الأيام وتحركت من مائها الساكن. لا تتصوروا أن ما يحدث سيتم نسيانه، بل سيتسع به الأمل في حق الفلسطينيين في بلادهم.
روائي مصري
-
عن القدس العربي