سعيد يقطين: النقد لم يواكب تطور الرواية العربيَّة

* حاوره: حسن الوزاني

الباحث المغربي سعيد يقطين أحد أهم الأسماء التي طبعت المشهد النقدي العربي، مستنداً في ذلك إلى خصوصية مشروعه النقدي، الذي يشتغل على السرديات العربية في بعديها الحديث والقديم. راكم يقطين العديد من الأعمال التي جاوزت العشرين عنواناً، من بينها : (القراءة والتجربة)، و(انفتاح النص الروائي)، و(الرواية والتراث السردي: من أجل وعي جديد بالتراث)، و(ذخيرة العجائب العربية)، و(قال الراوي)، و(من النص إلى النص المترابط والفكر الأدبي العربي). حصلت أعماله على عدد من الجوائز، من بينها جائزة عبدالحميد شومان للعلماء العرب الشبان، وجائزة الشيخ زايد للكتاب، وجائزة المغرب للكتاب.

¯ في اللحظة التي كان فيها السياق العام منشغلاً بكل ما يتصل بالأيديولوجيا، ستختارُ الاهتمامَ بالسرديات، بشكل مبكر، وبالضبط مع كتابك الأول (القراءة والتجربة)… ما هي الدواعي التي كانت وراء هذا الاختيار؟ وكيف عشت امتدادات هذا المشروع النقدي المهم؟

– برغم أني كنت بدوري منخرطاً في السياق العام لمرحلة السبعينيات التي كان فيها اليسار يحتل الساحة الثقافية، كان عندي تصور خاص لماهية الأدب والفن ودورهما في التغيير. وقد تَشكل لدي هذا الوعي منذ بدايات علاقتي مع الكتاب. في القطاع الطلابي كان بعض الشعراء يلقون استجابة كبيرة من الرأي العام المنفعل بالتغيير، وبما أن تكويني الأساسي أدبي، فقد كنت لا أتفاعل مع ما كان يُلقى من قصائد حماسية، وأعتبرها خالية من الشعر. وعلى رغم كل ما كان يقال عن الالتزام في الأدب، وما يكتب عنه، فقد كنت ضده إذا لم تكن تصاحبه الخصائص الإبداعية والفنية. وأول مقال نشر  لي في جريدة (العلم) المغربية، في صفحة الشباب سنة (1974م)، كان تحت عنوان (الأدب بين الحرية والالتزام)، وقد تعرض هذا المقال لثلاثة ردود، قمتُ بدوري بالرد عليها في الجريدة نفسها. وبعد ذلك نشرت في الملحق الثقافي لجريدة العلم دراسة مطولة نشرت  تحت عنوان (أزمة الشعر، أزمة النقد العربي المعاصر).

هذا الموقف الثابت لدي من الإبداع، هو ما دفعني إلى أن أعثر في البنيوية، وخاصة في السرديات، على ما يمكنني من تصريف تصوري للإبداع باعتباره لغة، وله خصوصية جمالية تتعالى على الزمن، وهذا ما أواصلُ الاشتغال به في كل أعمالي المختلفة.

¯ بعد سنوات على هذا الاختيار، ستعرف الرواية المغربية حضوراً، وبشكل أساسي على مستوى لوائح الجوائز العربية.. هل استطاعت هذه الرواية تحقيق وجودها النوعي بمعزل عن الجوائز؟

– كان وضع الرواية العربية في المغرب، قبل أواخر السبعينيات متدنياً بالقياس إلى الشعر، ولم ترق هذه الرواية الواقعية إلى المكانة التي حققتها الرواية المصرية والعربية. لكن منذ أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ومع التطور الذي عرفته الرواية العربية، بعد هزيمة (1967م)، انخرط التجريبيون المغاربة في صيرورة الرواية العربية، فكانت بذلك الانطلاقة الحقيقية التي ستعطي للرواية المغربية موقعها، ضمن خارطة الرواية العربية. ومنذ ذلك الوقت وهي تفرض نفسها من خلال بروز أجيال جديدة من الكاتبات والكتاب. ولعل تتويج هذه الرواية بجوائز عربية دال على كونها انتقلت من الهامش إلى مركز الاهتمام العربي، وهي تتقدم بشكل أو بآخر في فرض نفسها.

¯ في السياق نفسه، عرفت الرواية العربية زخماً كبيراً، على الأقل على مستوى النشر والتداول، مقابل الأجناس الأخرى.. هل ترى من موقعك أن النقد استطاع مسايرة هذ الحركية وأسئلتها؟

– تزايدت إصدارات الرواية العربية، منذ أن انخرط فيها الكتّابُ من مختلف البلاد العربية، وصار من الصعب معرفتها ومواكبتها والاطلاع عليها، ولما كان الإعلام الثقافي مقصراً في المواكبة، كان من المستحيل مسايرة هذه الإبداعات على مستوى المتابعة النقدية، لكن ذلك لا يعني أنه ليست هناك معرفة بما يجري، لأن النصوص المتميزة تفرض نفسها، والنقد في رأيي لم يتمكن من متابعة هذه الدينامية التي تعرفها الرواية العربية.

¯ فتحت مشروعَك النقدي أيضاً على السير الشعبية، من خلال العديد من دراساتك… كيف تحدد دواعي هذه المغامرة العلمية، خصوصاً في غياب التوثيق الجيد لهذا التراث؟

– التراث الشعبي مفتوح، ولا يمكن أن يوثَّق لأنه إنتاج جماعي وشفاهي، لكن النصوص المتداولة حول السيرة الشعبية، وقد تحولت إلى الكتابة، اتخذتْ صيغتها النهائية، وهذه الصيغة هي التي نتعامل معها. صحيح، قد نجد طبعات مختلفة للنصوص نفسها، ولقد عملت وأنا أشتغل بالسيرة الشعبية على الوقوف على هذا الاختلاف، من خلال دراستي حول (سيرة بني هلال) على سبيل المثال، وفي ذلك نوع من التوثيق.

أما عن دواعي خوض هذه المغامرة فلها أسباب متعددة، أقتصر منها على ما يتصل بمشروعي السردي. لقد كنت، وأنا أشتغل بتحليل الخطاب الروائي، أعمل في الوقت نفسه على قراءة السير الشعبية، بهدف تطوير تصوري النظري، لأني رأيت أن البحث في الرواية وحده لا يمكنني من تطوير المشروع النظري، الذي كنت مهووساً به، لقد قادني التصور الذي كنت أنطلق منه في دراسة الرواية الجديدة إلى أن تكوين صورة شاملة عن السرد، لا يمكن أن تتحقق إلا بالنظر إليه في مختلف تجلياته: الشفاهية والكتابية. وقد أسهم هذا فعلاً في تطوير دراساتي السردية، وسمح لي ذلك بإعادة النظر في نظرية الأجناس الأدبية الغربية، والتفكير في تقديم تصور ينطلق من (الكلام العربي)، وموقعة السرد العربي في نطاقه. وبدا ذلك في كتاب (الكلام والخبر: مقدمة للسرد العربي)، و(قال الراوي) الذي عملت فيه على الاهتمام بالقصة (المادة الحكائية)، وهو ما يمكن أن يمنح للسرديات بعداً متكاملاً، ومنفتحاً على مختلف الجوانب المتعلقة بالسرد.

سعيد يقطين في إحدى ندواته

¯ وقفت في كتابك (من النص إلى النص المترابط) على ضرورة تجديد النقد العربي لأدواته وإجراءاته، ليسهم بدوره في النهوض بالوعي الرقمي العربي. ألا ترى أنه في هذه الحالة قد يوجد جهاز نقدي جديد في غياب المتن المدروس، خصوصاً مع محدودية الكتابة الرقمية؟

– لقد بدأت الاهتمام بالثقافة الرقمية منذ أواخر التسعينيات، ونشرتُ حينها ثلاث مقالات في المغرب والكويت والسعودية. وعندما اطلع أحد المثقفين المغاربة على دراستي في مجلة (عالم الفكر)، قال لي إن العرب سيتحدثون عن هذا الموضوع بعد ثلاثين سنة، وعندما فكرت في إصدار الكتاب، الذي أشرت إليه، كنت أريد من ورائه بعث رسالة واحدة مفادها: العصر الرقمي قادم، شئنا أم أبينا، وعلينا أن نبادر للدخول فيه. ولا بد من توفير المستلزمات لذلك في مختلف القطاعات الحيوية، وعلى رأسها: الوعي الرقمي. أما عن علاقة النقد بالإبداع فليست علاقة تبعية أبداً. قد يسبق أحدهما الآخر، ويمهد له، كما أن تطور الإبداع يغذي النقد، ويجعله قادراً على توجيه الإبداع وجهات مختلفة. ألا ترى معي أن تاريخ الأفكار الأدبية يسهم فيه النقاد، كما أن المبدعين الرواد في تاريخ التيارات الأدبية الإنسانية زاوجوا بين الإبداع والتنظير؟

¯ ما الذي يؤخر وجود كتابة رقمية عربية، في مقابل الحضور الكبير الذي تعرفه الشبكات الاجتماعية؟

– الكتابة الرقمية مثل أي كتابة، إذا لم تتوافر لها مقوماتها الأساسية، لا يمكنها أن تتحقق مهما كانت النوايا طيبة، والرغبات متوافرة. ومن لم يمتلك الثقافة الرقمية في كل أبعادها لا يمكنه أن يبدع رقمياً. أما الحضور الكبير لهذه الكتابة في الشبكات الاجتماعية، فيعود إلى اعتمادها أداة للنشر والتوزيع، في غياب أو استحالة نشر ما يكتب في الوسائط الورقية. إن أي كتابة لا يمكنها أن تتأسس إلا على تقاليد كتابية سابقة. سبقنا الغرب إلى إنتاج هذا النوع من الكتابة، كيف يمكن أن ننتج أدباً رقمياً، أو نقداً رقمياً، ونحن لا نطلع على منجزات من سبقنا في هذا المضمار؟ التفاعل الثقافي، وليس الاستلاب، جزء من الممارسة الإبداعية.

  • عن الشارقة الثقافية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *