ارمُوا لي بنعشِ قلبي

   أنس الغوريِ

في المستودعِ الصّغيرِ الذي أبيتُ داخلَه، حيث لا وجودَ لأيّةِ نافذةٍ صغيرةٍ، أتأمّله قبلَ رحيلي المتبقّي له يومان، أتأمّل الرّفَ الخشبيَّ الوحيدَ فوقَ مغسلةِ (الستانلس) القديمةِ، الحمامَ الذي بابُه ستارةٌ قماشيّةٌ لا تستر سوى نصفَه، صحني، ملعقتي، كوبي الذين لم أستخدمهم كثيراً، سلّة المهملاتِ، الكتبَ المبعثرةَ بشكلِ فوضويّ على الأرضِ الجرداءِ، فراشي المتآكلِ، قطعَ الكرتونِ الموضوعةِ تحتَ فراشي لعزل الصّقيع، الجدرانَ الرطبةَ والمتشقّقة. أيضاً، حيثُ أتمرَّنُ على الموتِ.

أفكّر بالجدارِ الملاصِق لفراشي، المشوّه بكتاباتِي المقزّزة، التي أكتبها عليه بمختلف الوضعيّات؛ وأنا واقفٌ وجالسٌ ومستلقٍ. كنت أُفرغُ عليه كلَّ اضطراباتِ مشاعري الخاليةِ منَ الفرحِ.

لا يمكنني المغادرةُ وهو على هذه الحال، لا بدّ مِن إعادته كما كان، إذ أنني حاولت غسلَه بالماء فزادَ البلاءُ؛ وتحول الجدار للوحة عبثيّة!

أحاول أن أشتري علبةَ طلاء صغيرة وفرشاة، لكن هذا سيعيق عملية عودتي للبيت مما يضطرني لاجتياز جزءًا من المسافة سيراً على الأقدامِ.

عودتي التي لا أرجوها، حيث ينتظرني جميع مَن في البيت وكلهم أمل أني قادر على دفع إيجار المنزل وشراء وجبة دسمة كما أوصوني – نصف دجاجة مشوية، تفاح للصغار-، كيف لي أن أعود وهم لا يدرونَ أنًي لا أملكُ أجرةَ المواصلات؟!

في قبوي(عقلي) أهبطُ، أبحثُ في الأفكارِ الصدئة علّي أن أجدَ فكرةً ما؛ معطوبة لأعيد خلقها وزجها في الحياة لتسعفني. أتعثّر بالمسامير التي أعلّق بها صورَ موتي المتكرّر، فتثقبُ جسدي، ويسيلُ دمي الذي كان يصرخُ في أوردتي؛ إنني أتعفّن هنا!

أجد الأفكارَ محطّمةً ومشوّهة إلا واحدة يتوجّب إزالةُ  الصدأ عنها. أبحثُ عن سائلٍ لزجٍ كي أنظّفها به لإعادتها للحياة بشكلٍ أسرعَ، لا أجدُ!

أبصقُ عليها وأعيدُ الكرَّةَ -وهذا ما أجيده لكثرة ما بصقتُ على حوادثِ أيّامي الدّاعرةِ- حتّى أبلِّلَ الفكرةَ كليّاً.

أجفّفها بكمّ ردائي، أظنّها الآن باتَت شبهَ صالحةٍ، أخرجُ مِن قبوي(عقلي) حامِلاً فكرتي.

 أضعُها أمامي على الأرضِ فترتفعُ لتواجهَ ناظريّ، تنظرُ لي بوقاحةٍ، تقتربُ، تلتصقُ بنظّارتي، تتجاوزُها وتدخل من عيني، تلجّ دماغي وتتكاثرُ داخلَه لتخرقَ كلَّ قوانينِ الطبيعةِ، أسمعُ صراخَها داخلي، ركضَها المحمومَ ولهاثَها، أشعرُ بها تحتَ جلدي وفي كلّ أوصالِي، لم أعدْ أعي ممّا حولي إلا هذه الفكرةَ التي تسيرني لرغبتِها.

كلّ الأفكارِ التي استنجدتُ بها قبلَ هذه لم تُسعفني، وكانتْ آخرها أن أبيعَ جسدي، بقايا جثّتي، لكن مَن يشتري كائنًا مشوهًا؟!

لسانُ قلبي المجنون ظلَّ يصرخُ حتى شُلَّ والتصقَ بالسّقف، سقف الحلقِ!

مَن يأبه للهالكِ المصلوبِ في عبثِ العدمِ؟!

حتّى الاهتمامِ المنافقِ لم يعُد له وجود!

الشّمس تغربُ، تبتعِد وما مِن ضوء حولي.  سأستلم لهذه الفكرةِ والرغبةِ، سَأُسلم الجسدَ لها.

في طريق عودتي، ثمّة طريقٌ سريعٌ وبالضّرورة يتوجَّب قطعُه، سوف أسيرُ بتلكؤ وأتعثّر متعمّداً بعد انتظارِ شاحنةٍ كبيرةٍ على أمل أن يخلّصني أحدُهم.

لستُ صالحاً للحياة، كفاني انتظاراً.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

تعليق واحد

  1. ما كل هذا الشقاء؟!
    أدرك جيدا معنى أن تقول لكاتب مهزوم العاطفة “هون عليك يا صاح” لهذا لن أقولها، لكن..
    هناك ثقب ما في هذا النفق الذي أنت فيه يا أنس وكم تدخر أنت من الوقت الكثير فلا تسعى لاستكشافه في كل مرة تركن فيها إلى حزنك.
    لوّن عليك يا أنس حتى لا أقول هوّن.. لوّن فأنت بحاجة إلى الألوان كحاجتك للأحزان. وأنا أقرأ لك صرت أشعر أن الحزن يقربك من كثرة ما أحس بحاجتك إليه. ما أبشع الحزن يا أنس ما أبشعه! أرجوك، لوّن عليك و تنفّس.. في الحياة أشياء جميلة تستحقك.. صدقني تستحقك رغم قبح هذا العالم المادي الذي طغى فيها ولم يطغ عليها.
    ثم إن لغتك حلوة وبغير الحزن الذي غلف نفسك ستكون أحلى.. شجية هي الكتابات التي تأتينا وفيها حزن لكن ليس حتى يصبح الحزن جنسية الكاتب وكساءه الذي يعرفه به الناس.
    بالمناسبة أنا لست من أصدقائك ولم أعرفك إلا البارحة.. جذبت انتباهي فتصفحت كتاباتك وأحببت روحك وكرهت أن تصاب بكل هذا الألم.. فطرقت صفحتك الآن لأطمئن عليك وكلانا لا يعرف الآخر، فوجدت هذه السطور. لو كنت في بلادي لزرتك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *