الوجه الآخر لي

خاص- ثقافات

*ميساء البشيتي

حدثُّ صمتي بصوت عالٍ؛ أريد أن أزلزل جدران الروح، أن أعلمها أنني ما زلت على قيد الحياة وأن الصرخة في أعماقي تكاد تنفجر.
كم بودي الآن أن أُخرج ترنيمة البكاء التي في أناشيدي وأعلنها على الملأ! لماذا يجب عليَّ أن أمتد في حقول غريبة، أصافح أغصانًا جافة لا تحبل بأي ثمر بل وأقنع نفسيَّ اللوامة بأنها تحمل في أحشائها زيتونًا و حَبًّا؟
كيف أفسرُّ اشتهائي لزهر اللوز وعناقيد العنب وأقمع اشتهائي لرائحة الفلِّ والزعتر وأخفيها عن العيون وأبقيها حسرة دفينة في دهاليز العمر؟
كيف أكفُّ عن رسمك يا وطن في عيون لم تسمع عنك في نشرات الأخبار أو تقرؤك في كتب التاريخ أو تتلو اسمك في سرِّها كما الآيات المقدسة؟
كيف أضع سماءك الزرقاء الصافية في أطرٍ رمادية مغبرة تميل عند كل غروب إلى قاحلة فتذبح في مخيلتي كل تلك الصور؟
أتعبني هذا الآخر، لوحة مبهمة على جدار كاتم للصوت، قُلتُ فيه من الشعر الحرِّ ما يكفي لبناء المدينة الفاضلة للشعراء لكنه من هواة الشعر المقفى والأبيات التي لا تخرج عن السطر لو بعلامة استفهام؟
حاولت أن أفرَّ إليك من كل هذا، أن أهجر هذا الآخر وأبقيه طيَّ عواصم النسيان، أن أقتل كل هذا المساحة من التيه بالسباحة في عينيك لكنك أصريت على أن تبحث في قدود الحوريات عن الباب الخلفي للوطن.
كان لا بدَّ لي أن أرتدي وجهًا آخر لا تعرفه الحياة، سحبت منه يدًا جديدة أصافح بها من حولي، غريبة هذه الوجوه؛ تعيش داخل صناديق حجرية لا تغادرها خشية أن تذوب في الآخر فتتلاشى، أو تكفر بالتعويذات التي خلَّفها إليها الأولون فتصلَى في نار الجحيم.
يا أميري: ماذا لو أنني حاولت الاسترخاء على كتف وطن يحملني بين ذراعيه كسائر الأميرات لا أن أخرج من مأواي مذعورة أشرح للآخر بكل ما أوتيت من بيان أنا من أكون؟!
وما الضير لو اصطحبني هذا الآخر إلى بلاط قلبه دون أن يسألني من أي البلاد أتيت يا حافية القدمين ولماذا لا تكفين عن تلاوة الشعر في منامك ونثر الطائرات الورقية عند كل صباح؟
تعبت من الآخر وتعب الآخر مني. لماذا عليَّ أن أحملك يا وطن على أكتافي؟ هل تستحق حفنة من الخطوات المنثورة على أرصفة الوطن وبعض الذكريات المبعثرة على سرير الطفولة أن أسكب عمري في قوارير عشقية يثمل منها االقاصي والداني وأبقى أنا أترنح وأنا أعدُّ أوراق العمر وهي تسقط عند بوابات الانتظار؟ ماذا لو بُحت بكراهيتي لك ؟! أجبني يا وطن: هل كنتَ تدري أن أميرة من بلاطك العامر أصبحت حافية القدمين في بلاط الغرباء؟ فما جدوى عشقي وانتظاري وحنيني واشتياقي واشتهائي لعناقيدك إن كنت لا تدري أنتَ أي وجه أنا اليوم أرتدي؟!

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *