في مَسِيرَةِ البِغَال – قصَّةٌ قصيرةٌ

*الأديب السُّوري موسى رَحُوم عبَّاس

            تلك الغرفة الصَّغيرة في الطَّابق الأرضيِّ من بيتنا، احتلَّها جدِّي لعشرات السِّنين، معلِّلا ذلك بأنَّ لها ميزات ” استراتيجية” هكذا كان يقول لنا، رغم أنَّ أمي والكثير منَّا لا يعرف معنى هذه الكلمة، فهي لا تحتاج الصُّعود إليها بدرج، ولها بابٌ يمكنه من رصد جميع تحركات قاطني البيت، وشباكٌ ينفتح على الحديقة الخلفية يجدد هواءها، والحقيقة أنَّه يخفي رائحة السَّجائر التي منعه الطَّبيب منها؛ فامتنع أمامه، واستمر يقدِّم لنا نحن الأطفال الرِّشى؛ لنجلبَ له علب دخانه المُفضَّل، سألْنا والدي عن غيابِ جدِّنا الطَّويل في المشفى، لكنه اكتفى بقوله أنَّهُ صعد إلى السَّماء، ونَهَرَنا بشدَّة عندما قلنا: ونحن نريد أن نصعدَ إلى السَّماء؛ لنلتقيَ جدَّنا! فظننَّا أنَّ طرقاتِ السَّماءِ مغلقةٌ، أو تتحكَّم بها الحواجزُ والجنودُ أيضا!! ولُذْنا بالصَّمتِ والتَّوجُّسِ!

لم نكن نعرفُ عن محتويات غرفة جدِّنا شيئا، كانت لُغْزا محيِّرا لعقولنا الصَّغيرةِ، الإضاءةُ فيها لم تكن تنقطع، الهدوء المطلق هو المسيطر غالبا، هذا كلُّه صنع لها رهبةً في نفوسنا، وفُضُولا شديدا لمعرفة تفاصيلها الغامضة، لكن بعد صعود جدِّنا ” إلى السَّماء” صرنا نمرُّ سِراعا أمام بابها المغلق، نحاول اجتياز المسافة بأقصى ما نستطيع، ظننتُ أنني رأيتُ جدِّيَ هيكلا عظميا ممددا على سريره، بل ربما رأيتُهُ يرقصُ بجمجمته الكبيرة، وعينيه الغائرتين عميقا في تلك الجمجمة، وربَّما رأيتُهُ يراقبنا من فتحة المِفتاح، وكأنني رصدتُهُ مبتسمًا، وصوت سعاله يصلني واضحا، كانت أمي تبقى المصابيح مضاءة ليلا ونهارا، ربما أرادتْ مداراةَ خوفنا ورهبتنا، وربما ضبطتنا نتلفَّتُ يمنةً ويسرةً ونحن نجوزُ الممرَّ الضَّيقَ أمام باب غرفة جدِّنا، التي اخترعنا لها اسما جديدا مستوحى من أفلام (جوراسِك بارك) هو” ديناصور1 ” وأعطيناه الرقم ( 1) لنمنحَهُ صفةَ المؤسِّس لعائلتنا، والمرجع في تاريخها!

كلُّ ذلك لم يُشْفِ غليلي، ويُرْضِ فضولي، فانتظرتُ فرصةَ خروج أسرتي لمناسبة عائلية، تعلَّلْتُ بالمرض، واقتحمتُ حجرة “الديناصور 1” جدران تغصُّ بالكتب الصَّفراء، مكتبة مُنظَّمة ومُفهرسة، بعض الكتب ماتزالُ على الأرض مُكدَّسةً، لا تحملُ أرقامًا، بعضها هدايا، أصحابها ماتوا من عشرات السِّنين، وبعضها يحملُ علاماتٍ حمراءَ ومُلصقاتٍ خاصَّةً، عرفتُ فيما بعد أنَّها ممنوعةٌ، ومهرَّبة من بيروت غالبا، مع مرور الوقت أدمنتُ دخول الحجرة، وفي كلِّ مرَّةٍ أجترحُ وسيلةً سرِّيةً لذلك، المفاجأة الكبرى لي أنِّي اكتشفتُ أنَّ جدِّي مؤرخٌ خطيرٌ، وأدراجه محشوة بالأوراق المكتوبة بخطٍ جميلٍ صغيرِ الكلمات، مُنمَّق العناوين، ظننتُ أن تلك العناوين مسروقةٌ من مكتبات بغداد العبَّاسية، أو مكتب عنبر الدمشقي، أو دكاكين الوراقين في البصرة والقاهرة، لكنَّه خطُّ جدِّي أعرفهُ، فقد كتبَ لي العديدَ من الرَّسائل لمدرسيَّ يوصيهم بي، ويُذكِّرهم بأمانة المهنة وجسامتها، بين كل تلك الأوراق وجدتُ ورقاتٍ مُذَيَّلةً بإهداءٍ خاصٍ لي، وسأنقلها كما وردتْ.

”   في هذه البقعة من أرض الله الواسعة حيثُ الغلال والكروم، والبرودة والغيوم، ومياه الأنهار، وتغريد الأطيار، تدافعت شعوبٌ وقبائلُ لسكناها مُخلِّفين بلدانهم وأراضيهم القاحلة، ألسنتهم مختلفة، ومآكلهم ومشاربهم لا تشبه بعضها، فاختصَّ كلٌ منهم ببقعة أرض توسعتْ مع الوقت؛ لتصبحَ حيًّا كبيرا، له شيخٌ وكاهنٌ وعسكرٌ، ومعبدٌ وسيفٌ وخنجرٌ، لكنَّ الأرض ضاقت عليهم بما رَحُبَتْ، فأرسلوا العيونَ والرُّواد؛ ليستطلعوا الأمصارَ، ويجوبوا الدِّياروالبلاد، فعادوا لهم بأبهى الأخبار، فاجتمع الشُّيوخُ والكَهَنَةُ وزعماءُ العسكرِ وسَدَنَةُ المعابدِ، وقرروا إقامة سباق بين القبائل من سكان الأحياء، وستكون أفضل الأراضي وشواطئ الأنهار لمَنْ يصلُ أولا، وفي ليلة السِّباق الكبير، جهَّزوا بِغَالهم والحمير، البغال لأبناء السَّادة، والحمير للعامَّة والدَّهْماء، وجعل كلُّ فريقٍ منهم عَلَمًا ورايةً تشير إليه! الأزرق والأخضر والأحمر والأسود … ورسم فنانوهم على هذه الرايات صورا لسباع وطيور، ووجوه مُخيفة وجماجم مرعبة! وصنع لهم الشُّعراء والمُغنُّون قصائدَ حماسيةً ، وجعلوا بعضَ النِّسوة والأطفال في مقدمة الرَّكبِ؛ لإثارة الحماس والحَمِيَّة، سيوفهم تلمع، وخناجرهم تتلوى وتشعشع، المقدمة للفدائيين، والمؤخرة للقياديين، ومع تباشير الصَّباح، انطلقت القلوب والأرواح، كلُّ قبيلة تحثُّ الخطى للوصول أولا، وترفع الصَّوتَ في الحُداءِ للتغطية على المنافسين، سقط ذلك الشَّاب عن بغلته، وهو يَعْبُرُ المنحنى، سال دمه، لفظ أنفاسه، لفَّه رفاقه بالرَّاية، وأسندوه إلى البَرْذعة المرصَّعة بالنجوم اللامعة، والموشَّاة بالأشعار الجامعة، دمه يقطر طوال الطَّريق من فمه، نشبت معركة بين قبيلة الفَراسين وقبيلة العقابين حول طريق مختصر للوصول إلى شاطئ النهر، سقط خلق كثير، واختلطت دماء الأعمى والبصير، حمل كل طرف قتلاه، وتابعوا المسير، سرت إشاعات أنَّ قبيلة العقابين تخفي أمرا سيقلبُ النتيجة رأسا على عقب، وثمَّة شائعةٌ أخرى، تقول أنَّ جنبات الطريق تخفي مُلَثَّمِين يخيفون البِغال، فتجندل فرسانها، بل ذكر من نثقُ بصدقه أنَّ أفرادا من فريقٍ نتحفَّظُ على ذِكْرِ اسمه، اغتصبوا نساءً عندما حلَّ الظَّلامُ، وتواروا في الأجَمَةِ خلف التلِّ الأصفر، كلُّ هذه الإشاعات لم تفتَّ في عَضُدِ الفراسين؛ فواصلوا تقدمهم، حتى الشاطئ الشَّرقي للنهر، ودفنوا ذلك الشاب الذي تجندل في رابعة النَّهار، ثم ابتنوا له مقاما، ووضعوا عند شاهدته ” طاسة” كبيرة من النُّحاس الأصفر؛ ترنُّ فيها الدَّراهمُ الذهبيَّةُ والفضيَّةُ التي تُلقيها العَواقِرُ من النِّساء، والعَوانسُ على نيَّة الزَّواج والحياة الرَّضية، ويتمسَّح بقماشها اليائسون من المرضى وأصحاب العِلَل، والطَّامحون وشيوخ النِّحَل، وتَقَدَّمَ مَنْ كان في السَّاقة والمؤخرة، وتأخَّرَ من كان في المقدِّمةِ من أصحاب الهمم المؤثِّرة، فخطب الشُّيوخُ والكُهَّانُ بعد أنْ اجتازوا الصُّفوف إلى الأمام، وركزوا الرَّاياتِ؛ لتخفقَ في الأعالي والآكام، ونالَ أصحابُ المركز الثاني، فالثالث في السَّباق أرضهم، كلٌ حَسْبَ مركزه، القبيلة الوحيدة التي لم تشارك في السِّباق لكنَّها مُنحتِ الجبلَ المجاورَ للنهرِمن جهة الغرب، هي قبيلةٌ مِنَ الملثَّمين، ولا يُعلمُ دورهم في ذلك السِّباق، رغم كثرة الشَّائعات، ودفن كلُّ قبيلٍ قتلاهم، وابتنى لهم التماثيل، وركز على شواهدهم الغار والآسَ، ونثر الرُّزَّ والزنجبيل، بينما كان أبناؤهم اليتامى يتضاغون، وأراملهم من الجوع والحزن يتضورن، ساد الهرج والمرج، وفُقِدَ خلقٌ كثيرٌ تحت حوافر البِغال الهائجةِ، …. ”  هذا ما وجدته صالحا للقراءة، وأمَّا بقية الأوراق فكانتْ صفراءَ حائلةَ اللَّونِ، مُمَزَّقةَ الأطرافِ، اختلطَ حِبْرُها ببعضه، فربما أكلتها الرُّطوبةُ والعَفَنُ، قرأتُ بعضًا من كلماتها بصعوبة، مثل: ثأر، مؤامرة، وطن، سلاح، خيانة …. بينما بقي العنوانُ واضحا جدا” فصلُ المقالِ في مسيرةِ البِغال”

    لا أخفي أنَّني سعيدٌ بالتَّاريخِ الذي صَنَعَهُ جدِّي لي، فقد أعاد لي الاعتبار، ويمكن لي من الآن أنْ أفخرَ بِهِ، وأنسخَ منه النُّسخَ؛ لأوزعَها على المُدن  والأمصارِ، وأباهي به مَسِيراتٍ أخرى للحميرِ والخيولِ والعرباتِ، بل حتى لِسُفنِ الفضاءِ، لعلِّي ألتقي بجدِّي في سَمَاءٍ ما!    

   الرِّياض

7/4/ 2021

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *