الطَبَّـــال – قصَّة قصيرة

( ثقافات )

*الأديب السُّوري موسى رَحُوم عبَّاس

       ضاعت كلُّ جهوده أدراج الرِّياح، وكلُّ محاولاته في ثني المايسترو وحيد عَرَفة عن مناداته بذلك اللقب القبيح باءت بالفشل، في ” البروفات” يصرخ بأعلى صوته: أين الطبَّال؟ هاتوا الطبَّال! مع بداية الحركة الثانية يدخل الطبَّال… يتوقف الطبَّال… يقترب منه أسعد مهنَّا وهو يزدرد ريقه بصعوبة، يحاول ابتلاع تلك اللغة الجارحة، يهمس له:

سعادة المايسترو أنا ضابط الإيقاع في الأوركسترا، ضابط ويفخم الطَّاء جدا، ويكزُّ أسنانه عليها، تخترقه نظرة الاستهجان الحادَّة، يشيح بنظره عنها، لتصلَ إلى مسمعه عبارات السُّخرية والتوبيخ، قال له مرَّة، أظنُّك تحسب نفسك ضابطا حقيقيا يا أسعد بيك! وأكمل عازف الغيتار:

 ضابط مخابرات، معلِّييم! لتعلو ضحكات العازفين، بينما كان أسعد يغرق في عرقه، ويحاول أن يخفي نفسه خلف عازف التشيلُّلو الكبير!

نعم، أنا ضابط الإيقاع أسعد مهنّا، أنا من يتحكم بالحركة صعودا وهبوطا، كلكم تضبطون سرعة عزفكم على إيقاعاتي، أنا مضبوط كساعة سويسرية، أستمع لإيقاعات الحياة من حولي، أصغي لخرير المياه وإيقاعات حبَّات المطر على سطح بيتي، وأميز هدير المحركات المختلفة من إيقاعها، أعرف الحزين من السَّعيد من إيقاع تنفسه، أميز الهارب من حبيبته مِنَ الهاربِ من مطارديه من العسكر والعسس من وقع أقدامه على جلد الإسفلت المتشقق في حيِّنا البائس، كلُّ شيء في حياتي له إيقاع منضبط، أنا أسعد مُهنَّا لستُ طبَّالا، لستُ طبالا يا وحيد عرفة! لستُ … يحاول أن يهدِّئ من بكاء طفلته وهي مازالت تنشج بحرقة بعد عودتها من المدرسة، كانت تردِّدُ أنها لن تذهبَ إليها مرَّةً أخرى، لن تسمحَ لتلك الطفلة التي توصلها سيارةٌ سوداءُ لبوابة المدارس أن تسخرَ منها، وتقول لها ابنة الطبَّال! وقام إرضاء لها بوضع لوحة جميلة بخط الثلث علي يمين باب الشقة، كتب فيها ( أسعد مُهنَّا ضابط إيقاع) مما جعل ابنته تضحك فرحة.

في الاحتفال السَّنوي والمناسبة الوطنية الكبيرة، قدمت الفرقةُ معزوفاتٍ محليةً وعالميةً كثيرةً، وفي الكونشيرتو الذي يحب، اختار أسعد مهنَّا لحظة فارقة وعند الانتقال من الحركة الثانية الهادئة إلى الثالثة الصَّاخبة إذ لابد أنْ يكونَ للإيقاعات الدورُ الأساسُ في تمثيل الحرب ومباغتة العدو والهجوم الخاطف على مقدمته، وأصوات سلاسل الدبابات وطلقات المدفعية، وهمهمات الجنود، هنا توقف سعد! توقف تماما، المايسترو جمدت يده على المؤشر، لا يصدق ما يحصل، ظنَّ الجمهور أنَّها جزءٌ من العرض، صفق الجميع، صفقوا طويلا، وقفوا وهم يصفقون، عادوا للكراسي، لكن الإيقاعات لم تنطلق، أخيرا صرخ المايسترو، أيها الطبَّال، أيها الطبال! لكن أسعد قد اكتفى بكلمة واحدة: ضابط، ضابط الإيقاع، نهض من مكانه، انحنى طويلا للجمهور، خلع ربطة عنقه وتلك السترة الرمادية التي تحمل شعار الفرقة، طواها بهدوء ووضعها على آلات الإيقاع أمامه،  ثم غادر من الباب الخلفي بهدوء!

  عندما نزل من سيارة الأجرة عائدا إلى بيته، قابل جاره الجديد الرقيب تحسين الشُّرطي في المرور أمام بوَّابة العمارة، تقدم تحسين خطوتين وأدَّى التحية العسكرية له وختمها بسيدي! لم يكن في وضع يمكنه من استيقافه ومحاورته عن معنى هذا، تابع صعودا إلى الطَّابق الثالث، عندما هَمَّ بوضع المفتاح توقف عند التغيير الطَّفيف في اللوحة أمام الشقة، فوجد كلمة ” إيقاع ” قد أزيلت تماما، وصار بإمكان ابنته الآن أن تذهب للمدرسة مرفوعة الرَّأس، كما صار بإمكانه أن يأخذ من الجزَّار اللحم الطازج بنصف سعره، وهو يستمع لضحكاته الصَّفراء، وهو يقول له: يارجل، حرام عليك سنوات تسكن معنا، ولا نعرفك، سيدي الضَّابط!

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *