مدينة وكتاب

  • حاتم الجباهي

عندما تسكن مدينة كتابا، فإنّها تسكنه هربا من نفسها، إذ تعرف بأنّها أشبه بالأشباح.

المدن ترى كيف تترامى أطرافها، ومعالمها وظلالها وأسرارها، فتسعى جاهدة أن تجمّع كلّ ذلك، تلملم شتاتها وتبعثرها الأزليّ، عبر الكتبَ أو لوحات الفنّانين. ليس ذلك برغبة في الخلود، أو ليتذكّرها العابرون والراحلون عنها، إنّما هي تلجأ إلى اللغة لتشيّد نفسها من جديد. فاللغة وحدها من بين السّحرة تمتلك الإكسير الذي تحتاجه المدن، لتشيّد نفسها من جديد، بكامل جمالها وقبح متناقضاتها، وأفراحها وجروحها، وتفاصيل قصصها.

واللغة حين تكون ساحرة وقديرة، فإنّها تجعل حلم المدينة طيّعا، و “في قبضة اليد”، التي تمسك بزمام الحبر والورق.

في الحقيقة، بإمكان اللغة فعل أكثر من ذلك، كأن تلغيَ البرزخ الذي يفصل بين الكاتب والقارئ، وتصنع لهما لقاء يتكرّر في المكان مثلا، وفي مدينة سوسة بالتحديد، تلك المدينة الساحلية الشرقية للبلاد التونسيّة، التي حظيت في هاته المجموعة، بعناية خاصّة، والتي وجدتني وأنا القارئ، أشترك مع الكاتبة في لملمة تفاصيلها، وتركيب بعض قطعها في لوحة خياليّة.

هاته المجموعة القصصيّة، “سفر في قبضة اليد” للقاصّة التونسيّة لمياء نويرة بوكيل، دعوة مفتوحة للسفر إلى مدينة سوسة، ودعوة شعرت بها تخصّني، لمكانة ذلك المكان في وجداني، وذاكرتي الطلّابيّة التي طبعت أجمل أيام عمري في التسعينيات.

عنوان المجموعة أسرني، وتقسيمه إلى رحلات، أحالني إلى كتاب ، للإيرلندي الحرّ، جوناثان سويفت، والذي ” رحلات جلفر “

لم يكن كتابا للأطفال برغم ما صنعته به دور النشر، وشاشات السينما، كما أنّه لم يكن أيضا كتاب رحلات ولا ابتعاد، إنّما كان نقدا لذات المكان، ونشرا لسياسات الإنجليز، وتهكّما ساخرا ولاذعا للحياة القريبة والمحيطة بالكاتب، والحال أيضا ينطبق على مجموعة “سفر في قبضة اليد”، التي لم تكن سفرا كما يعلن العنوان، بل حلّ وحلول في المكان، ومنه إلى واقع الحياة.

قسّمت القاصّة لميا نويرة بوكيل، مجموعتها المتألّفة من خمسة وأربعين نصّا، إلى رحلات بعدد أصابع اليد، تحمل كلّ رحلة عنوانا من العناوين التالية: في الحبّ والخيبة، في السوق، في العائلة، في البلد السعيد، و الكريستال.

أمّا عنوان المجموعة، فقد كان عتبة  لأجمل أقصوصاتها، عن فتاة، تحيل القارئ الفطن، إلى بطلة قصّة “بائعة الكبريت”، للمؤلّف الدنماركي هانز كريستيان أندرسن، تجتمع بطلتا القصّتين كلاهما على البؤس، وإن اختلفت تفاصيل حكايتهما، ففتاة الكبريت تشعل أعواد الثقاب بحثا عن الدفء في ليلة ثلجيّة،وعن الضوء الذي يستحضر صورة جدّتها، وفتاة الشاحنة، لقصّة سفر في قبضة الي، تصنع من قروح يدها، رسوما لبلونات ومناطيد،تحقّق لها حلمها بالسفر بعيدا عن كلّ شيء، وعاليا حيث لا يدركها شيء، حيث “أبعد نجمة في السماء”…

كنت أعرف أنّني سأحتاج إلى مسايرة خيالي كثيرا مع كل نصّ جديد، ليكون سفري أيضا في قبضة يدي. بعض من خيالي كان يبحث سعيدا عن نسق أو نغم، يوحّد كل النصوص، وكان ما يحدث لي في كلّ مرّة، عند بلوغ نهاية كلّ نصّ، مكسّرا لأفق انتظاري، وما شكّله خيالي، لذلك كنت أستحضر في كلّ مرّة هذا التشبيه، وهو أنّ النهايات شبيهة

بما يحدث للأطفال عند ركوبهم المنزلقات في مدن الملاهي، “الزرزيحة” كما نقول بلهجتنا التونسيّة،

 ففي هذه النصوص القصيرة انحدارات ومنزلقات مدهشة، تنتهي بمنعرج أشدّ تعقيفا، شبيه بحرف القاف، ينزل بك إلى الأسفل، ثمّ يرفعك عاليا، ويلقي بك في فضاء الدهشة، حيث بإمكانك أن تذهب بخيالك بعيدا، أبعد من النهاية، أو أن ترتدّ لتعيد قراءة القصّة من أوّل وجديد، تلك الارتدادات، والمنزلقات المتكرّرة كوّنت للقصص إيقاعا مكرّرا، بنوتات سمفونيّة سعيدة، لا تعرف إلى أين تأخذك، ما تعرفه فقط، أنّها سترجّ عقلك، وتستدعيك للتفكير أو الضحك، وخاصّة إلى إعادة قراءة النصّ.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *