نوال السعداوى.. وأوهام الحشود

  • مصطفى عبادة

ماتت نوال السعداوى

ماتت نوال

مات عمر من النضال والجدال، واختراق ركام الأعراف الاجتماعية، ماتت المدفعية الثقيلة فى الدفاع عن حقوق نساء مصر. وقبل موتها جرى ما حذرت منه، تم التحرش بالأطفال وإلقاء النساء من النوافذ، كانت نوال ترى كل ذلك وغيره الكثير وتحذر منه، قالت إن الإسلام ليس كذلك، فجرجروها فى المحاكم، وشغلوها واربكوها بالمحاكمات، كرمها العالم،ومنحها الجوائز والتكريمات ودعاها للتدريس فى أعرق جامعاته، وأهانها المصريون علنا، و­­­­قرأوا كتبها سرا، هرب منها الجميع، وظل الناشرون يتاجرون فى كتبا ليل نهار،ويربحون منها الملايين، كانت كتبها تطبع لدول غير مصر، وتشحن بالآلاف ليستفيد منها آخرون، وبنات وطنها خاضعات مستسلمات لذيول ما يسمى الصحوة الإسلامية التى سوّدت الدنيا، وسيّدت نمطا غريبا على وطن قدس المرأة طوال تاريخه

ماتت نوال السعداوي.

وقد أحدثت خرقا فى جدار سميك غليظ، قاموا على إنشائه بدأب منقطع النظير منذ مائة عام، جدار قائم يحجب النور عن الناس تحت ستار التدين، والهدف كان السيطرة على عقول المصريين وتحويلهم إلى قطيع، تمت شيطنة حتى مصطلح التنوير، وتم تكفير كل من قال بغير ما يريدون، وكانت نوال هى الشمعة الدءوب فى قلب الظلام.

حتى وهى ميتة عرّت نفوسهم الضعيفة، وأظهرت مدى هشاشتهم، ورعبهم من أى صوت مختلف، حتى وهى ميتة جلجلت صرخاتها، وتميز صوتها، وسيكون ذلك الموت هو الإيذان بالبعث الحقيقى لكل ما قالت وآمنت به، الآن ستصبح كتبها ومقولاتها زادا للجميع، وإذا كانت حياتها معولا فى الجهل، فإن موتها صاعفة مقبلة لا يمنعها شىء أو أحد، صاعقة محمولة على أعناق ملايين البنات المقبلات على الحياة، وقد كشفن سر اللعبة، لن يكن بعد ذلك محظيات ولا جاهلات.

ماتت نوال السعداوى:

وكانت آخر صوت فى نهر كبير يسمى اليسار المصرى، النهر الذى لم يكن طرف خيط، آمن بالديمقراطية الاجتماعية، ويكفيه فخرا أنه لم يصطف مع عدو، ولم يلجأ إلى خليفة أو سلطان، حين كان فى قلب محنته، حين سجن وعذب كان يهتف “بلادى وإن جارت علىّ عزيزة”، وأنتج فى أقبية السجون تاريخا وأدبا وفلسفة، لم يخرج ليعاير أحدا أو يطلب الثمن، ظل صوت المقهورين والمعذبين، النهر الذى إذا خبا أو ضعف تياره جرفت الأموال كل قيمة، وكل مبدأ، النهر الذى حين أضعفوه، وقعوا بين براثن جماعات لا ترحم، أراقت دماءهم ودماءنا، ولوثت كل شرف وأهانت كل قضية.

 ماتت نوال السعداوى

 وهى شاهد على عصر، وعلامة على الإيمان بالمبدأ والدفاع عن قيمة الحرية، وعن المرأة الحرة الأنثى المكتملة، الأنثى التى لا تشعر أن وجودها خطيئة.

ماتت نوال السعداوى

ونحن الذين صحونا على أن من بيننا من يقول إن صوت المرأة عورة، بل كلها عورة، وهم يحوزون الزوجات بالأربع، والمحظيات بما لا نعرف، صحونا مع دعاة جدد، وعلى إسلام جديد، يحلل للرجل أن تكون له حياتان، حياة أمام الشاشة وأخرى خلفها، عاشوا هم وماتت نوال السعداوى التى ترى أن شرف الإنسان رجلا أو امرأة هو الصدق، صدق التفكير، وصدق الإحساس، وصدق الأفعال، وأن الإنسان الشريف هو الذى لا يعيش حياة مزدوجة، واحدة فى العلانية، وأخرى فى الخفاء، هم راكموا الملايين والشهرة تحت ستار الدعوة وهى ماتت ولم تغير ما تؤمن به، أو تعتقده، ولو لو يكن لها من إنجاز غير هذا لكفاها.

اشتهرت نوال بالنجاح الكبير الذى حققته كتبها ومواقفها التى تعطى للمرأة حقها، ما رآه بعض الرجال انتقاصا من حقوقهم، وبدا أنها فى وقت ما كمن يحارب أشباحا، ورغبات غريبة طفت على سطح المجتمع المصرى بعد عودة العمالة المهاجرة، عمالة جلبت معها التدين الشكلى والشهوات، جلبت الجشع والحسد والأنانية والحلول الفردية، ثم شكلت فيما بعد جيشا من الأشباح يتحكم فى قيم وأخلاقيات المصريين ويصوغها على هواه، ذلك الجيش الذى سيّد مقولات: “الحجاب قبل الحساب”، جيش من الأشباح تحس به كامنا خلف كل شىء، وموجود فى كل حرب، ومنشىء كل حرب خادعة، ففجأة صار إسلامنا غير صحيح، ليس حتى ناقصا بل هو غير صحيح بالمرة، ودخلنا فى حروب عبثية، كنا نناقش التنوير والظلام والغرب والرب، والحداثة وما بعد الحداثة، والعولمة وتأثيراتها على قيم المجتمع، ولم ننتبه إلى أن قيم المجتمع صاغها مجموعة من الأميين، كنا نناقش كل ذلك ونحن غارقون فى المجارى وتلال الزبالة، كان مفكرونا يقدمون للمحاكمات – ومنهم نوال السعداوى – كلما علا صوت أحدهم بنقد أو إشارة إلى الخلل، كنا نناقش كل ذلك ونحن لا نهرع إلى المساجد وذيول جلابيبنا ملوثة بالروث والبراز وقمامة قرويين هربوا من الفقر والجوع والتهميش، ووجدوا فى خطاب الأشباح خلاصا ومهربا، وجدو ا جنة افتقدوها على الأرض فقتلوا الآخرين حتى يصلوا إليها، صارت الأوهام الشعبية وضلالات الحرمان غير العادية، وجنون الحشود وعبثية الفضول والتنميط والهوس الدينى والمالى، صارت هى القانون، وانحطت الطبيعة البشرية، وبدا كأننا نعانى مرضا جماعيا.

ماتت نوال السعداوى

وكانت وحدها أمة، وجيشا موازيا، يحارب فى ثلاث جهات: عنصرية بنيوية يقودها رجال الدين والدعاة الذين يروجون خطاب الزهد والطاعة وهم يراكمون الملاين والنساء هم الذين يرون المرأة مجرد وعاء لمتعة الرجل، ومعهم جماعة رأسمالية وأغنياء طفيليين يرون المرأة سلعة، مجرد سلعة فاسترخصوها في الدراما والإعلانات، وجبهة الأعراف والتقاليد الاجتماعية، وجبهة التجاهل الرسمى والخوف من الاقتراب منها.

ماتت المرأة العادية.. غير العادية

ماتت من كانت مثلا لجميع النساء فى الوطن المصرى فى القوة والتصميم والمثابرة، ماتت بعد أن ألهمت الملايين من النساء اللاتى لا نقرأ عنهن فى الأخبار أو نراهن فى الأفلام والمسلسلات، الطبيبات والمحاميات والمحاربات فى واقع هش. واقع تعيش فيه كل النساء كالناجيات من السرطان.

* كاتب وإعلامي من مصر

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *