فصل مترجم من رواية “قلب الظلام” لجوزيف كونراد

قلب الظلام ؛ قلب الظلمة؛ قلب ظلمات جوزيف كونراد

ترجمة هاني سمير يارد

الجزء الأول

كَانَ نيلي، وَهُوَ قَارِبٌ لِلْمُتْعَةِ وَالتَّنَزُّهِ، مُتَوَقِّفَاً يَتَهَادَى إِلَى مِرْسَاهِ مِنْ غَيْرِ رَفْرَفَةٍ فِي شِرَاعَيهِ. المَدُّ كَانَ قَدْ بَدَأَ، وَالرِّيحُ سَاجِيَةٌ تَقْرِيباً، وَلمْ يَكُنْ أَمَامَ القَارِبِ_ وَقَدْ كَانَ مُتَّجِهاً باتِّجَاهِ مَسِيْلِ النَّهْرِ إِلَى البَحْرِ_ سِوَى أَنْ يُلقِي مِرْسَاهُ وَيَنْتَظِرَ الجَزْرَ. 


انبَسَطَ أَمَامَنَا مَجْرَى التِّمْز القَرِيْبِ مِنْ مَصَبِّهِ انْبِسَاط مُسْتَهَلِ طَرْيقٍ مِلاَحِيٍّ لاَ نِهَايَةَ لَهُ. فِي الأُفُقِ وُصِلَ بَحْرٌ بِسَمَاءٍ دُونَ رِبَاطٍ، وَبَدَت الأَشْرِعَةُ الَّتِي لوّحَتْهَا الشَّمْسُ لِلمَرَاكِبِ المُنْسَاقَةِ مَعَ المَدِّ فِي المَدَى المُضَاءِ لَكَأنَهَا وَاقِفَةٌ بِلاَ حَرَاكٍ فِي جُمُوعٍ كَتَّانيِّةٍ حَمْرَاءَ مُدَبَّبَةِ الرُؤوسِ، بِوَمَضَاتِ الصَّوَارِي الصَّقِيْلَةِ. اسْتَقَرَّ ضَبَابٌ رَقِيْقٌ عَلَى الشُطْآنِ الضَّحْلَةِ المُمْتَدَّةِ إِلَى البَحْرِ بانْبِسَاطٍ مُتَلاَشٍ. كَانَ الهَوَاءُ مُكْفَهِرَّاً فَوْقَ غرِيفْ سِنْد، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَبْدُو فِي الخَلْفِ بَعْيدَاً كَأَنَّمَا انْقَبَضَ إِلَى قَتَامَةٍ كَئِيبَةٍ تَجْثُمُ سَاكِنَةً فَوْقَ أَكْبَرِ مَدِينَةٍ وأعظمِها عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ. 

كَانَ المُدِيرُ العَامِ لِلشَرِكَاتِ رَئِيسَ قَارِبِنَا وَمُضِيفَنَا. راقَبْنَا نَحْنُ الأرْبَعَةُ ظَهْرَهَ مُرَاقَبةً حَانِيةً وَهُوَ يَقِفُ فِي الَمْرنَحَةِ يَنْظُرُ قُبَالةَ البَحْرِ. كُلُّ شَيْءٍ عَلَى النَّهْرِ بِرُمَّتِهِ كَانَ يَتَّسِمُ اتَّسَامَاً بَحْرَياً لِلغَايةِ. كَانَ المُدِيرُ أَشْبَهَ بِرَئِيسِ السَّفِينَةِ الَّذِي هُوَ عِنْدَ البَحَّارَةِ بِمَثَابةِ تَجْسيدٍ للِثِّقَةِ. كَانَ مِنَ العَسِيرِ إدْرَاكُ أنَّ عَمَلَهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فِي مَصَبِّ النَّهْرِ المُضَاءِ، وَإِنَّمَا خَلْفَهُ فِي جَوْفِ القَتَامَةِ الجَاثِمَةِ.

كَمَا أَسْلَفْتُ فِي مَوْضِعٍ مَا قَبْلَ قَلِيلٍ كَانَتْ تَجْمَعُنَا رَابِطَةُ البَحْرِ، الَّتِي كَانَتْ_ إِضَافَةً إِلَى تَوْحِيدِ قُلُوْبِنَا فِي فَتَرَاتِ تَبَاعُدِنِا_ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي جَعْلِنَا قَادِرْين عَلَى احْتِمَالِ خُزَعْبِلاَتِ بَلْ وَحَتَّى قَنَاعَاتِ بَعْضِنَا بَعْضَاً. كَانَ المُحَامِي _ وَهُوَ مِنْ خِيارِ الرِّفَاقِ القُدَامَى _ قَدْ حَظِيَ بالأَرِيكَةِ الوَحِيْدَةِ عَلَى القَارِبِ؛ وَذَلِكَ لِكِبَرِ سِنِّهِ وَلِمَنَاقِبِهِ العَدِيدَةِ، وَكَانَ مُضّطَجِعَاً عَلَى السّجَادَةِ الوَحِيْدَةِ. المُحَاسِبُ كان قَدْ جَاءَ بِصُنْدُوقِ لُعبَةِ الدُوْمِيْنُو وَجَعَلَ يَلْهُو بأَحْجَارِهَا صَانِعَاً مِنْهَا تَشْكِيلاَتٍ مِعْمَارِيةً. استَوَى مَارْلُو مُتَرَبِّعَاً فِي الكَوْثَلِ مُتَّكِئَاً إِلَى الصَارِي. لِمَارْلُو خَدَّانِ غَائِرَانِ، وَبَشَرَةٌ شَاحِبَةٌ، وَظَهْرٌ مُنْتَصِبٌ، وَهَيْئَةُ زَاهِدٍ مُتَنَسِّكٍ، وَأَمَّا وَذِرَاعَاهُ عَلَى جَانِبَيهِ وَرَاحَتَاهُ ظَاهِرَتَانِ فَكَانَ أَشْبَهَ مَا يَكُونُ بِوَثَنٍ. اتِّجَهَ المُدِيرُ العَامُ إِلَى الكَوْثَلِ وَجَلَسَ بَيْنَنَا بَعْدَما أَرْضَاهُ وَضْعُ المِرْسَاةِ المَكينِ. أَخذْنَا بأَطرَافِ الأَحَادِيثِ بَينَنَا قَلِيلاً، ثُمَّ رَانَ على مَتْنِ اليَخْتِ الصَّمْتُ، وَلِسَبَبٍ أَوْ لآخَرَ لَمْ نَبْدَأْ فِي لَعِبِ لُعْبَةِ الدُوْمِيْنُو تِلْكَ. شَعَرْنَا بِالحَاجَةِ إِلَى التَّأَمُّلِ، وَانْتَابَتْنَا نَوْبَةٌ مِنَ التَّحْدِيقِ الهَادِئ. الْنَّهَارُ يَحُثُّ خُطَاهُ إِلَى نِهَايتِهِ بِصَفَاءٍ وَسُكُوْنٍ بَالِغَيّ التَأَلُّقِ. صَفْحَةُ المَاءِ تَعْكِسُ الضَّوْءَ بِهُدُوءٍ؛ وَالسَّمَاءُ الصَّافِيةُ اتِّسَاعٌ رَحْبٌ لَطِيفٌ مِنَ النُّورِ الَّذِي لاَ تَشُوبُهُ شَائِبَةٌ؛ أَمَّا السَّدِيمُ نَفْسُهُ فَوْقَ سِبَاخِ مُقَاطَعَةِ إسكس فَكَانَ يُشْبِهُ نَسِيجَاً رَقِيْقَاً بَرَّاقَاً تَدَلّى مِنَ التِّلاَلِ الدَّاخِلِيّةِ المُشَجَّرَةِ، ]ولكَأنَه] يَكْسو الشُطْآنَ الضَّحْلَةَ بِكُسُوْرٍ شَفَّافَةٍ. فَقَط القَتَامَةُ الجَاثِمَةُ فَوْقَ أَعَالِي النَّهْرِ، مِنْ صَوْبِ الغَرْبِ، جَعَلَتْ تَزْدَادُ حِلْكَةً مَعَ انْقِضَاءِ كُلِّ دَقِيْقَةٍ، وَكَأنَي بِهَا مُنْزَعِجَةٌ مِنْ دُنُوِ الشَّمْسِ.

وَأَخِيْرَاً غَرِقَتِ الشَّمْسُ بِسُقُوطِهَا المُتَقَوِّسِ في المَنْظَرِ وَالرُؤيةِ، وَامْتَقَعَ لَوْنُهَا الوَهَّاجُ الأَبْيَضُ إِلَى أَحْمَرَ خَضِيبٍ، وَكَفَّتْ عَنْ بَعْثِ الحَرَارَةِ وَالضِّياءِ، لَكَأنَهَا عَلَى وَشَكِ الانْطِفَاءِ بَغْتَةً، كامِدَةً كَمَدَاً شَدِيدَاً بِلَمْسَة تِلْكَ القَتَامَةِ الجَاثِمَةِ فَوْقَ نَفَرٍ مِنَ الرِّجَالِ. 

طَرَأَ تَغَيُّرٌ مُفَاجِئٌ عَلَى صَفْحَةِ المَاءِ، وَبَاتَ الصَّفَاءُ أَقَلَّ تألّقَاً، لَكِنَّهُ أَكْثَرُ عُمْقَاً، وَرَقَدَ النَّهْرُ العَتِيْقُ غَيْرَ مُكَدَّرٍ بِمَجْرَاهِ الرَّحِيبِ عِنْدَ أَصِيْلِ نَهَارٍ بَعْدَ عُصُوْرٍ مِنَ الخِدْمَاتِ الجَلْيِلَةِ الَّتِي قَدّمَهَا لِلْعِرْقِ الَّذِي اسْتَوْطَنَ ضِفَافَهُ، مُمتَدَّاً باتِّجَاهِ طَرْيقٍ مِلاَحِيٍّ هَادِئٍ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ. لَمْ نَنْظُرْ إِلَى المَسِيْلِ المَهِيبِ لِلْنَّهْرِ بِفَوْرَةِ نَهَارٍ قَصِيْرٍ دَائِمِ الغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ، وَلَكِنَّنَا تَطَلَّعْنَا إِلَيْهِ فِي جَلاَلِ ضَوْءِ ذِكْرَيَاتٍ بَاقِيَةٍ. وَالحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّةَ مَا هُوَ أَيْسَرُ لِلمَرْءِ الَّذِي يَعْمَلُ فِي البَحْرِ“_ كَمَا يُقَالُ_ بِتَوْقِيْرٍ وَمَوَدَّةٍ، مِنْ أَنْ يَسْتَحْضِرَ رُوح المَاضِي العَظِيمَةِ فَوْقَ مَصَبِّ نَهْرِ التِّمْز. مَا فَتِئَ تَعَاقُبُ مَدِّهِ وَجَزْرِهِ يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ فِي خِدْمَتِهِ الَّتِي لاَ تَنْقَطِعُ، غَاصَّاً بِذِكْرَياتِ الرِّجَالِ وَالسُّفُنِ الَّذِينَ حَمَلَهُمْ إِلَى سَكِيْنَةِ البَيْتِ أَوْ إِلَى مَعَارِكِ البَحْرِ. كان قَدْ خَبِرَ وَخَدَمَ جَمِيْعَ الرِّجَالِ الَّذِينَ تَعْتَزُّ بِهِمْ الأُمَّةُ، ابْتِدَاءً مِنَ السَّيْرِ فرَانْسيسْ دِرِيكْ وَانْتِهَاءً بـِ السَّيْرِ جُونْ فرَانْكلِينْ وَجَمِيعُهمْ فُرْسَانٌ، سَوَاءٌ أَحَمَلُوْا أَلْقَاباً أَمْ لَمْ يَحْمِلُوا، إِنَّهُمْ فُرْسَانُ البَحْرِ المُطَوِّفُونَ العِظَامُ. كَانَ قَدْ حَمَلَ كُلَّ السُّفُنِ الَّتِي تَلأْلأَتْ أسْمَاؤهَا كَالجَوَاهِرِ فِي لَيْلِ الزَّمَانِ، ابْتِدَاءً مِنَ غُولْدِنْ هَاينْد العَائِدَةِ بِخَصْرَينِ مُكَوَّرَينِ مَلِيَئينِ بِالكُنُوزِ، فَتَزُورُهَا جَلاَلَةُ المَلِكَةِ، وَتَخرُجُ ]السَّفِينَةُ[ بالتَّالِي مِنَ الحِكَايَةِ العِملاقةِ، وَانْتِهَاءً بِسَفِينَتَي إِرِبَسْ آند تِرْوُرْ وَقَدْ عَقَدَتْا الْعَزْمَ عَلَى فُتُوحَاتٍ أُخْرَى، وَاللتَيْنِ لَمْ تَرْجِعَا أَبَدَاً. لقَدْ خَبِرَ تَعَاقُبُ مَدِّهِ وَجَزْرِهِ السُّفُنَ وَالرِّجَالَ. أَبْحَرُوا مِنْ ديبتفورد و غرينتش و إريث: مُغَامِرينَ وَمُسْتَوْطِنِينَ، وَسُفُنَ مُلُوْكٍ، وَسُفُنَ تُجّارٍ مُضَارِبين، وَرُؤَسَاءَ سُفُنٍ، وَأُمَرَاءَ بَحْرٍ، وَالمُتَطَفِّلِين الغَامِضْينَ عَلَى التِّجَارَةِ الشَرْقِيَّةِ، وَالجِنَرَالاتِ المُفَوّضِينَ لأَسَاطِيْل ]شركة[ الهِنْدِ الشَرْقِيَّةِ. كَانَ قَدْ خَرَجَ مَعَ المَسِيْلِ ذَاكَ البَاحِثُونَ عَنْ الذَّهَبِ أَوْ طُلاَّبُ الشُّهْرَةِ، حَامِلِيْنَ السَّيْفَ، وَغَالِباً مَا احتَمَلُوا القَبْسَ، رُسُلُ الْقُوَّةِ فِي الأَرْضِ، حَمَلَةُ شَرَارَةٍ من النَّارِ المُقَدَّسَةِ. أَيُّ عَظَمَةٍ لَمْ تَطْفُ فَوْقَ جَزْرِ ذَلِكَ النَّهْرِ إِلَى لُغْزِ أَصْقَاعِ الأَرْضِ غَيْرِ المَطْرُوقَةِ؟. . . أَحْلاَمُ الرِّجَالِ، وَبُذُورُ الدُّوَلِ، وَجَرَاثِيمُ الإمْبرَاطُورِيّاتِ.

غَابَتِ الشَّمْسُ، وَأَغْطَشَ الغَسَقُ عَلَى المَسِيْل، وَرَاحَتِ الأَضْواءُ تَظْهَرُ عَلَى امْتِدَادِ الشَّاطِئ، وَأَرْسَلَتْ مَنَارَةُ تشَابْمَانْ، ذَلِكَ البِنَاءُ ثُلاَثِي القَوَائِم المُشَيَّدُ فَوْقَ سَهْلٍ طِيْنِيّ، ضَوْءاً قَوياً. تَحَرَّكَتْ أَضْوَاءُ السُّفُنِ فِي عُرْضِ النَّهْرِ حَرَكَةً عَظِيمَةً لأَضْوَاءٍ تَرتَفِعُ وَتَنخَفِضُ. وَفِي أَعَالِي النَّهْرِ غَرْبَاً كَانَ مَا يَزْالُ مَوْضِعُ المَدِينَةِ بالِغَةِ الجَسَامَةِ مَوْسُوماً بِمَيْسِمِ الشُؤْمِ عَلَى صَفْحَةِ السَّمَاءِ: قَتَامَةٌ جَاثِمَةٌ فِي أَشِعَّةِ الشَّمْسِ، وَوَهَجٌ قَاتِمٌ تَحْتَ النُّجُوْمِ.

     

وَهَذَا أَيْضَاً، قَالَ مَارْلُو فَجْأَةً: كَانَ وَاحِدَاً مِنَ الأَصْقَاعِ المظْلِمَةِ فِي العَالَمِ. 

]مَارْلُو[ الرَّجُلُ الوَحِيْدُ بَيْنَنَا الَّذِي كَانَ مَا يَزْالُ يَعْمَلُ فِي البَحْرِ، وَأَسْوَأُ شَيْءٍ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ إِنَّهُ لاَ يُمَثِّلُ فِئَتَهُ. كَانَ مَلاّحَاً، لَكِنِّه جَوّالٌ طَوَّافٌ أَيْضَاً، أَمَّا مَعَظَمُ البَحَّارَةِ فَيقْضُونَ حَيَاتَهُم _ لِنَقُلْ _ وَهُمْ جَالِسُوْنَ. إنَّ عُقُولَهُمْ مِنَ النَّوْعِ التي لاَ تبْرَحُ بَيْتَهَا، وَبَيْتُهم دَائِمَاً مَعَهُم؛ فَبَيْتُهمُ السَّفِيْنَةُ، وَبَلَدُهم البَحْرُ. وَكُلُّ سَفِيْنَةٍ تُشْبِهُ الأُخْرَى إِلَى حَدٍّ بَعيدٍ، وَالبَحْرُ هُوَ دَائِمَاً البَحْرُ. وَفِي ثَبَاتِ مَا يُحِيطُ بِالبَحَّارَةِ مِنْ بِيْئَةٍ، فإنَّ الشُطْآنَ الغَرِيْبةَ، وَالوُجُوهَ الغَرِيْبةَ، وَتغيُّر رَحَابة البِيْئَةِ، تَمُرُّ مُنْسَلَّةً بِالبَحَّارَةِ مُغَلَّفَةً لَيْسَ بإحْسَاسٍ مِنَ الغُمُوضِ، وَلَكِنْ بِتَجَاهُلٍ مَشُوبٍ بِالازْدِرَاءِ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ غُمُوضٍ لِلبَحَّارِ غَيْرُ البَحْرِ نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ سَيّدُ وُجُوْدِهِ، وَمُبْهَمٌ كَتَصَارِيفِ القَدَرِ. أَمَّا الأَشْياءُ الأُخْرَى ]غير البحر[، وَعَقِبَ سَاعَاتِ عَمَلِهِ، فإنِّ نَزْهَةً عَابِرَةً أَو مَرَحاً صَخُوْبِاً عابراً عَلَى الشَّاطِئ كَفِيْلٌ بَأَنْ يمِيطَ لَهُ اللِّثَامَ عَنْ سِرِّ قَارَّةٍ بِأَسْرِهَا، وَغَالِباً مَا يَجِدُ السِّرَّ لاَ يَسْتَحِقُّ المَعْرِفَةَ. إنَّ خُزَعْبِلاَتِ البَحَّارَةِ ذَاتُ سُهُولَةٍ مُبَاشِرَةٍ، وَيَكْمُنُ مُجْمَلُ مَعْنَاها دَاخِلَ قِشْرَةِ حَبَّةِ جَوْزٍ مَصْدُوعَةٍ. لَكِنَّ مَارْلُو لَمْ يَكُنْ بَحّارَاً نَمَطِّياً (إذا مَا كَانَ لَديهِ مَيلٌ لِنَسْجِ الخُزَعْبِلاَتِ أَصْلاً)، وَمَعنَى الحَدَثِ القَصَصيِّ عِندَهُ لاَ يَكْمُنُ فِي الدَّاخِلِ، كَمَا فِي النَّوَاةِ، وإِنَّمَا فِي الخَارِجِ، مُغلِّفَاً الحِكَايَةَ الَّتِي تُظْهِرُ مَعَنَى الحَدَثِ فَقَط، كَوَهَجٍ يُرْسِلُ سَدِيمَاً عَلَى شَاكِلَةِ وَاحِدَةٍ مِنْ دَارَاتِ القَمَرِ المُضِبَّةِ تِلْكَ الَّتِي تُصْبِحُ مَرْئِيَّةً أَحْيانَاً مِنْ جَرَّاءِ الإضاءةِ الطيفيةِ لِنُورِ القَمَرِ.

     

لم يَبْدُ تَعْلِيقُ مَارْلُو مُفَاجِئاً عَلَى الإِطْلاَقِ. كَانَ تَمَاماً كـ مَارْلُو. وَتَمَّ قَبُولُهُ بِصَمْتٍ. لَمْ يَتَجَشَّمْ أَحَدٌ حَتَّى عَنَاءَ أَنْ يَشْخَرَ، ثُمَّ أَرْدَفَ قَائِلاً بِهُدُوءٍ:

كُنْتُ أُفَكِّرُ بِالعُصُوْرِ الغَابِرَةِ عِنْدَمَا قَدِمَ الرُّومَانُ هُنَا أَوَّلَ مَرَّةٍ قَبْلَ أَلْفٍ وَتسعمائة عامٍ_ كَأَنَّهَا بالأَمْسِ القَرِيبِ . . . بَزَغَ النُّورُ مِنْ هَذَا النَّهْرِ مُنْذُ عَهْدِ_ هَلْ تَقُولُونَ عَهْدِ الفُرْسَانِ؟ نَعَمْ، لَكِنَّ النُّورَ كَانَ كَوَهْجٍ مُنْدَفِعٍ فَوْقَ سَهْلٍ أَوْ كَبرْقٍ فِي السَّحَابِ. إِنَّنَا نَعيشُ فِي بَصِيصٍ مِنَ النُّورِ، وَعَسَى أَنْ يَدُومَ مَا دَامَت الأَرْضُ العَجْوزُ تَدُورُ. لَكِنَّ الظُّلُمَاتِ كَانَتْ هَا هُنَا بِالأَمْسِ. تَصَوّرْوا مَشَاعِرَ قَائِدِ سَفِينَةٍ حَرْبِيَّةٍ رَائِعَةٍ_ مَاذَا تَدْعُونَها؟ مِرزَاب؟، وَقَدْ صَدَرَتْ لَهُ الأَوامِرُ فَجْأَةً _ وَهُوَ فِي عُرضِ البَحْرِ الأَبْيَضِ المتَوَسَّطِ _ للتَوَجَّهِ شِمَالاً؛ تَصَوَّرْوا شُعُورَهَ وَهُوَ يَشُقُّ الأَرْضَ شَقّاً عَبْرَ بِلاَدِ الغَال، ثُمَّ يُولَّى إِمْرَةَ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ المرَاكِبِ الَّتِي كَانَتْ الفَيِالِقُ تَبتَنِيها عَلَى مَا يَبْدُو بِالمِئَاتِ فِي غُضُونِ شَهْرٍ أَوْ اثنَينِ، إِذْ _ حَتّماً _ إِنَّهُمْ كَانُوا أَيْضَاً صُنّاعاً مَهَرَةً مُثيرين لِلدَّهشَةِ، هَذَا إِذَا مَا صَدَّقْنَا كُلَّ مَا نَقرأُ. تَخَيَّلُوهُ هَا هُنْا_ فِي أَقصَى أَقَاصِي العَالَمِ؛ بَحْرٌ لَهُ لَوْنُ الرَّصَاصِ، سَمَاءٌ لَهَا لَوْنُ الدُّخَانِ، طِرَازٌ مِنَ السُّفُنِ صَلابتُهُ بِصَلاَبَةِ الكونسرتينة_ يَمْخَرُ عُبَابَ هَذَا النَّهْرِ بأَحمَالِهِ أَوْ بِأَوَامِرِه أَوْ بأَيِّ شَيْءٍ تُريدُونَهُ. ]تخيّلوه[ وَأتُنَ الضَّحْلِ، وَسِبَاخاً، وَغَابَاتٍ وَمُتَوَّحِّشِين، مَعَ نَزْرٍ يَسيرٍ عَزِيزٍ مِنَ قُوتٍ يَصْلُحُ لِرَجُلٍ مُتَحَضِّرٍ، وَلاَ شَيْءَ ليشْرَبَ غَيْرَ مَاءِ التِّمْز. فَلاَ خَمرَ الفلارناين هُنَا، وَلاَ نُزُولَ مِنَ السَّفِيْنَةِ إِلَى الشَّاطِئ. يضيعُ مُعَسْكَرٌ فِي عُرْضِ البَرِّيَّةِ وَطُولِها كإِبْرَةٍ ضَائِعَةٍ فِي كومةِ مِنْ حَشيشِ العَلَفِ_ ]كومة[ مِنَ القُرِّ، وَالضَّبَابِ، وَالعَوَاصِفِ، وَالأَوْبِئَةِ، وَالغُرْبَةِ، وَالموْتِ_ الموْتِ المتَوَارِي فِي الهَوَاءِ، وَالماءِ، وَالأَدْغَالِ. لاَ بُدَّ أَنَّهُمْ تَسَاقَطُوا كَالذُّبَابِ هُنَا. آهٍ، أَجَلْ لَقَدْ أَدَّى وَاجِبَهُ، بِلاَ رَيْبٍ، عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ أَيْضَاً، وَمِنْ غَيْرِ كَبِيْرِ تَفْكِيرٍ بِالوَاجِبِ أَيْضَاً إِلاَّ بَعْدِ حِينٍ ليتبجّحَ _ رُبَّمَا _ بالَّذِي لاقَاهُ فِي زَمَانِهِ ]من مصاعب[. كَانُوا عَلَى قَدرٍ مِنَ الرُجُولَةِ لمواجهةِ الظُّلُمَاتِ. وَرُبَّمَا كَانَ مُبتَهِجاً بِتَرَقُّبِهِ فُرْصَةً للتَرقِيةِ شَيْئَاً فَشَيْئَاً فِي الأُسطُولِ فِي رافينا إِنْ كَانَ لَدَيهِ أَصْدِقَاءٌ مُخْلِصُونَ فِي رُوْمَا، وَإنْ بَقِيَ فِي قَيْدِ الحَياةِ فِي ذَلِكَ المنَاخِ المروِّعِ. أَوْ فَكِّرْوا بِمُوَاطِنٍ شَابٍ مُهَذَّبٍ بِرِدَائِهِ الرُّومَانيّ التوغا_ وَرُبَّمَا انْطَوَى قُدُومُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ المجَازَفَةِ_ قَدِمَ إِلَى هَا هُنَا بِمَعَيَّةِ حَاكِمٍ، أَوْ جَابِي ضَرَائِبٍ، أَوْ حَتَّى بِرِفْقَةِ تَاجِرٍ لِيُصْلِحَ مِنْ شَأْنِ نَفْسِهِ. فَيَسْقُطَ فِي مُسْتَنْقَعٍ، وَيُخَوِّضَ فِي الآجام، وَفِي مُعَسكرٍ مَا فِي قَلْبِ اليَابِسَةِ يَشْعرُ بالهَمَجِيَّةِ؛ الهَمَجِيَّةِ المطْلَقَةِ، تُطْبِقُ عَليهِ_ كُلُّ تِلْكَ البَرِّيَّةِ الغَامِضَةِ الَّتِي تَضّطّرِبُ فِي الغَابةِ، وَفِي الأَدْغَالِ وَفِي قُلُوبِ الرِّجَالِ المتَوَحِّشِينَ. ليسَ لَديهِ فَترَةٌ تَمهِيديةٌ لِلتَّعَرِّفِ إِلَى هَذِهِ الأَلْغَازِ. فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعِيْشَ في عُقْرِ المبْهَمِ، الَّذِي هُوَ مَقِيتٌ أَيْضَاً، وَلَهُ سِحْرُهُ كَذَلِكَ الَّذِي مَا يَلْبَثُ أَنَ يَفْعَلَ فِعْلُهُ فِيهِ. سِحْرُ الرِجْسِ_ تَصَوَّرْوا النَّدمَ المتَزَايدَ، وَالتَّوقَ للإفلاتِ، وَالقَرَفَ الَّذِي لاَ حولَ لَهُ وَلاَ قُوَّةَ، وَالاستسلامَ، وَالحِقْدَ.

أَمْسَكَ مَارْلُو عَنِ الكَلاَمِ قَلِيلاً.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *