قراءة في كتاب: ابن عربي في الفتح المكّيّ: “الانتقاص من القَدْر المُحمَّديّ” ليحيى القيسي
مناقشة متجردة وعقلانية لتحرير أوهام ابن عربي عن مقام النبوة
* زياد أحمد سلامة
“ابن عربي في الفتح المكي: الانتقاص من القَدْر المحمدي” كتاب يبحث في نظرة ومكانة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في فكر الشيخ محي الدين بن عربي (560 ـ 638هـ = 1165 ـ 1240م)، أصدره عام (2019م) الأستاذ “يحيى القيسي”، الباحث والكاتب والروائي الأردني، والأستاذ القيسي المولود عام 1963 انشغل كثيراً في دراسة التصوف والماورائيات والفكر الديني، وعمل ـ كما يقول ـ على تطوير تجربته الروحية على مدار خمس عشرة سنة، وتفرغ تماماً لقراءة متعمقة لكتب الشيخ بن عربي، وكان من نتاج هذه القراءة هذا الكتاب الجديد والفريد في بابه، حاول فيه تقديم رؤية ابن عربي الفكرية ونظرته للمقام النبوي الشريف، ذلك أن الأستاذ القيسي قد لاحظ وجود آراء وطروحات لابن عربي متباينة ومتغايرة تجاه المقام الشريف تراوحت بين نظرة مقدرة لهذه المكانة ومعظمة شأنها ، وأخرى تنتقص من هذا المقام بنحو ما، وهذا الانتقاص من القدر “المحمدي” ربما كان ناتجاً عن رؤية ابن عربي الصوفية واختلاط المقامات والأحوال والدرجات في مفاهيمه ورؤيته بناء على منطلقاته الصوفية، هذه الرؤية الصوفية احتاجت من الأستاذ القيسي نحو عامين لغربلة كتب الشيخ ابن عربي لا سيما كتابه الكبير” الفتوحات المكية”.
مع كتاب “ابن عربي في الفتح المكي …”
جاء الكتاب في 350 صفحة وفي خمسة فصول، بعد أن تحدث في الفصل الأول عن سيرة الشيخ ابن عربي وقال بأنه يطلق عليه أحيانا لقب “ابن عربي” وهو ما شاع عنه، وأحيانا أخرى “ابن العربي” وهو الأقل شيوعا. في الفصل الثاني تحدث عن “الحقيقة المحمدية بين الطعن والتقديس” وهنا يقر ابن عربي بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ذو مقام عال أكثر علواً من غيره من الناس وأنه سيد العالم بأسره، في الفصول التالية سنرى ما يخل بهذا الفهم عند ابن عربي مما يعتبر إساءة لمقام النبوة.
في الفصل الثالث يتحدث الكاتب عن “أخطاء وخطايا بحق النبي” صلى الله عليه وسلم، قالها ابن عربي في كتبه، ففي مسألة “هل للنبي شيطان يأمره” يناقش الكاتب حديثاً منسوبا للنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه “إن له شيطانا موكلا به ولكنه أسلم” ويرى القيسي أن هذا “الحديث يبدو غريبا ويقود إلى الكثير من التساؤلات: هل الشيطان أسلم قبل بعثة النبي أم بعدها؟ ولمن أعلن إسلامه حينها؟ وهل أُوكِلَ بالنبي منذ الطفولة وحتى البعثة أم قبل ذلك وبعدها؟ وماذا لو أن هذا الشيطان ـ قبل إسلامه ـ قد وسوس للنبي العظيم بأي شيء ممكن أن يؤثر على الوحي الإلهي للقرآن؟ (ص 50) هذا نموذج لما رآه الأستاذ القيسي من إساءة لمقام النبوة من خلال ترديد مثل هذا الحديث.
هذه الأسئلة محقة ومشروعة وتدعو للتفكر في صحة الكثير من الأحاديث، وسنناقش بعد قليل بإذن الله مفهوم رد الحديث “دراية” وأي المؤثرات التي تخرم صحة الحديث وتنزله عن منزلة “الحديث الصحيح”.
ومثل مناقشة هذا الحديث؛ يناقش القيسي عدداً آخر من أقوال ابن عربي منها” هل يسبق بلالٌ النبي إلى الجنة؟ (ص54)، هل يخشى النبي تبدل قلبه في الإيمان (ص56) وهل يشتم الرسول أحداً أو يلعنه (ص 57)، وبطبيعة الحال يهاجم القيسي عبارة ابن عربي في حق الرسول صلى الله عليه وسلم أنه” كان حين يهبط عليه الوحي يؤخذ عن حسه و (يرغو كما يرغو البعير) ويقول القيسي بأنه تعبير مرفوض تماما، وهو إساءة بالغة”. (ص 60)، حقا إنه لتعبير مرفوض، ومن الأمور التي أخذها القيسي على ابن عربي: هل خاطب الله نوحاً بلطف ومحمداً بقهر؟ (84)، وهل أساء جبريل إلى النبي؟ (90) وهل جبريل أعلى مقاما من النبي” (91)، هل النبي بوجهين متناقضين (107) ولماذا يحب النبيُ النساء (ص121) وحديث (حُبّبَ إِلَيَّ مِنْ دنياكُمُ النّساءُ والطيبُ وجُعِلَتْ قرةُ عينِي في الصّلاةِ) وهل كان النبي صاحب شهوة بهيمية (ص124) وهل غدا النبي مكسور الثنية بعد معركة أحد (ص 135 ) واتهام النبي بنقص العلم والخبرة (ص142) (ويضرب بذلك مثلاً حديث تأبير النخل الذي سنتحدث عنه لاحقا)، واتهام النبي لآدم بالجحود(ص 147) وذِكْرُ ابن عربي السيدة فاطمة بما لا يليق بمقامها (ص156) ، ويذكر ابن العربي عبارات تقول بأنه لا يجوز لأحد تلقين النبي الشهادتين(ص 158) وأنه عليه السلام لم يفر من الناس كما ادعى ابن عربي (ص 159 ) واستنكر القيسي قول ابن عربي بأن جوهر النبي والدود واحد (ص160) وغير ذلك كثير.
الفصل الرابع: وكان تحت عنوان “مقارنة ابن العربي نفسه بالنبي (ص179).
تحدث الأستاذ القيسي في هذا الفصل عن بعض المقالات التي أوردها ابن عربي في فتوحاته يُفهم منها أن الشيخ يضع نفسه أحيانا في مرتبة تساوي مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم ، أو تعلوها أحيانا، ومن ذلك ادعاؤه أن النبي لبنته طينية ولبنته هو ذهبية (182) وأن النبي من الساهين (في الصلاة) وأن الشيخ لا يسهو (187) وأنه كالنبي تماما يبيت عند ربه فيطعمه ويسقيه (191) وأنه يخاطب الله تعالى مباشرة وكفاحا (193) وأن الرؤى تأتيه مثل فلق الصبح 194 وأنه ذو شفاعة عند الله تعالى وأمه هو السراج (198) ويعلم خائنة الأعين( 198) وأوتي جوامع الكلم (200 ) وأن النبي يولي فرارا (إن هو نظر لأصحاب الكهف) في حين أنه هو [ابن عربي] يثبت ولا يفر (203) وأنه ألحق نفسه بمقام الأنبياء 204 وأنه تسبح الحصى بكفه 210 وأنه ذو مكانة أفضل من مكانة بعض الأنبياء 211ومنهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم 213 و 219 وأنه من ورثة الأنبياء 214 وهل الشيخ في مقام الأنبياء 116وأنه صاحبهم أجمعين 225 وأنه وصل سدرة المنتهى 249ودخوله من أبواب الجنة كلها 296
في الفصل الخامس كان الحديث عن وقوع الشيخ في فخ “الفاضل والمفضول” (ص 235) وطلب الاقتداء به، أي بابن عربي (ص 272) وأنه من المحدثين، أي الملهمين (ص 291).
هذا القول أخذه ابن عربي من شيخه الصوفي الأندلسي ابن قسي، [أبو القاسم أحمد بن الحسين بن قَسِيّ (المتوفي سنة 546 هـ في شلب) متصوف أندلسي، قاد ثورة المريدين، وأسس دولة في غرب الأندلس قاعدتها ميرتلة في وقت انحدار دولة المرابطين، ثم انقلب عليه بعض أتباعه وخلعوه، فلحق بالموحدين في المغرب الذين أعادوه واليًا على شلب، ثم خلعه أهل شلب لما بلغهم اتصاله بألفونسو هنريكي كونت البرتغال، ثم قتلوه. تميّز ابن قسي في الفلسفة وعلم الكلام، وكان يتبع مدرسة ابن مسرة الفلسفية، وهو صاحب كتاب «خلع النعلين في الوصول إلى حضرة الجمعين»، الذي شرحه محيي الدين بن عربي وأكثر النقل عنه في كتابه “الفتوحات المكية”].
من المعرف أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الناس ومقدَّم في كل شيء، وعند ابن عربي قاعدة تقول:” لا يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة” وحسب ابن عربي فقد يكون للمفضول تصحيح الفاضل، ويستدل ابن عربي على ذلك أن عمر بن الخطاب كان له رأي أصح من رأي النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان رأيه قتل أسارى بدر لا أخذ الفداء منهم، وكذلك كان رأي الذين كانوا يلقحون النخل كان أفضل من رأي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان رأيه ترك التلقيح وأن يجري ذلك دون تدخل بشري، فكانت نتيجة اقتراح النبي صلى الله عليه وسلم ترك التلقيح غير موفقة (ص 377) وبناء على قاعدة الفاضل والمفضول هذه ادعى أن كثيرا من مسائل كتاب الفتوحات هو إملاء إلهي وأن كتابه فصوص الحكم إملاء محمدي بالكامل (ص240) وعن مقام الخليفة الأول يرى ابن عربي أن لأبي بكر من الحَضْرات ما ليس للنبي (ص245) وقال بأن للنبي 625 ألف حضرة ولأبي بكر 626 ألف حضرة، أي أن النبي ينقص عن الصديق درجة واحدة ، وقال بأن أبا بكر كان شريكا للنبي صلى الله عليه وسلم في معراجه للسماء، وأن النبي عليه السلام سمع صوت أبي بكر هناك لتذهب عنه الوحشة (ص249) ومن هذا القبيل ما قيل عن اقتراحات عمر في بعض المسائل، فتنزَّل الحكمُ الشرعي موافقا لما اقترحه عمر؛ مثل مسألة فرض الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم (279) ومن ذلك ابتداع عمر مسألة قيام رمضان (التراويح) ص 302
بلا شك ان الكاتب قد عمل جَهده في هذا الكتاب لتحرير مقام النبوة من أوهام وأخاليط ابن عربي، وشطحاته، وبيَّن مكانة النبي صلى الله عليه وسلم كما يليق بمقام النبوة، وكذلك تحرير أوهام غير المطلعين على تفاصيل مؤلفات ابن عربي، الكتاب تتبع أقوال ابن عربي وناقشها بكل جدارة وعقلانية وتجرد.
من أهم النقاط التي استوقفتني في الكتاب:
كنت انتظر من الأستاذ القيسي أن يقوم بتخريج الأحاديث النبوية الواردة في الكتاب، وتلك المنسوبة له صلى الله عليه وسلم، فتخريج الأحاديث هو الخطوة الأولى للحكم على الحديث، ومتى سقط الحديث سنداً ورواية فإنه ساقط لا يُعتد به مهما كانت قوة متنه، وتخريج الأحاديث سيكشف لنا أن الشيخ ابن عربي قد اعتمد على عدد لا بأس منه من الأحاديث الموضوعة والضعيفة، وهنا سيُسَّهل الرد عليه.
الأمر الآخر الذي استوقفني: قال الأستاذ القيسي (ص10) عن خطته في التعامل مع الأحاديث الشريفة والمنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: “الأحاديث المنسوبة إلى النبي الكريم التي وصلتنا في الصحاح وغيرها، قد يكون تعرضت إلى التحريف والتزييف والإضافة والحذف تبعا لأهواء السلطات الحاكمة آنذاك، أو للناقلين من المنافقين أو المغرضين، أو ربما تعرضت لآفة السهو، وبالتالي فإن كل حديث يتناقض مع القرآن الكريم لا يمكن القبول به، وكل حديث يطعن في العصمة النبوية ويسيء إلى النبي العظيم أرفضه تماما” وقال (ص 284) وربما يحتاج الحديث إلى أدوات أخرى للقياس في هذا العصر بعد أن أصبح علم الجرح والتعديل غير كاف لمعرفة صحة الحديث من غيره”.
لا بد من التنويه أن علم الحديث يبحث في دراسة الأحاديث وكيفية قبولها وردها، ومن ذلك دراسة الحديث أولا سنداً من خلال دراسة سلسلة الرواة وانطباق شروط الجرح والتعديل عليهم، ثم الانتقال بعد ذلك إلى دراسة الأحاديث “دراية” أي دراسة متن الحديث و نصه وهنا قال علماء الحديث برد الحديث دراية إن ناقض بشكل قطعي لا يمكن تأويله، نصَّ القرآن الكريم، أو عارض معلوماً من الدين بالضرورة، أو عارض صريح العقل، أي عارض ما كان خارجاً عن السنن والقوانين الكونية، [سوى ما تعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم وكان من قبيل المعجزات]، ولكن وكما لاحظنا عند الكثير من أصحاب القراءة المعاصرة ـ وليس الأستاذ القيسي منهم بالتأكيد ـ مَن يسارعون إلى رد الحديث بحجة أنها تعارض القرآن الكريم، وهنا نقول لا بد أن يكون هناك تعارض واضح قطعي لا ظني، ولا بد من ضرب الأمثلة لا الاكتفاء بالكلام المرسل.
ونسأل الأستاذ القيسي عن مدلول كلامه ” وربما يحتاج الحديث إلى أدوات أخرى للقياس في هذا العصر بعد أن أصبح علم الجرح والتعديل غير كاف لمعرفة صحة الحديث من غيره”. فما هي أدوات القياس الأخرى التي يقترحها لقياس صحة الحديث لم يلتفت إليها علماء الحديث، لا بدَّ أن تكون أدوات منضبطة لا تسمح للهواة أو المغرضين في الخوض بما لا يعرفون.
لقد ناقش علماء الحديث ومنذ عهد الصحابة قبول الحديث ورده دراية، فها هي السيدة عائشة تستدرك على كبار الصحابة بعض الأحاديث وتبين سوء فهمهم لها، أو سوء نقلهم، وقد جمع الإمام “بدر الدين الزركشي” هذه الاستدراكات في كتاب سماه “الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة” وفيه سبع وثلاثون حديثاً استدركت فيها (الصِدِّيقة بنت الصِدِّيق) على كبار الصحابة مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وابن عمر وأبي هريرة وبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وبطبيعة الحال هذه الاستدراكات تعزز القول بعناية المسلمين بالحديث وتقصُّدهم التأكد من صحة الحديث متنا وسندا، ويفوِّت الفرصة على الذين يقولون بأن المسلمين كانوا يقبلون أي حديث على علاته لمجرد صحة سنده.
بشرية الرسول وعصمته:
يُنكر القيسي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أخطأ في القضاء (ص 80) في إشارة للحديث الشريف” عن أُمِّ سَلَمةَ رضي اللَّه عنها: أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النار” [مُتَّفَقٌ عَلَيهِ]. ووجهة نظر القيسي أن “قبول هذا الحديث يعني أن رسول الله ـ صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله ـ يصيب ويخطئ في الأحكام القضائية”.
الحديث متفق على صحته ورواه البخاري ومسلم، ونرى أنه لا ينتقص من مقام النبوة ولا مفهوم العصمة وأنه عليه السلام مؤيد بالوحي من الله، ففيه درس لنا نحن سائر البشر أن الإنسان عند التقاضي قد يتلاعب بالحقائق والأدلة ليكسب القضية ويُحكم لصالحه، فينبهنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العقاب الأخروي الذي ينتظر المتلاعب بحقوق الاخرين. (وليس في الحديث إشارة إلى أنه تم خداع النبي عليه السلام وتقديم معلومات مضللة له حكم بناء عليها ظلماً).
وكذلك ينكر القيسي حديث تأبير النخل (ص 81)، الذي نصه: “عن عائشة: ” أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ [النخل] فَقَالَ: (لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ)، قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: (مَا لِنَخْلِكُمْ؟) قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ). وفي رواية أخرى:” فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: (إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). رواه مسلم وابن ماجه، وحجة القيسي في ذلك:” كيف يستوي أن يُنسب إليه [عليه السلام] قول: أنتم أعلم بأمور دنياكم؟ وهو المعلم والقائد والنبي الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور، وتابع فقال: كيف يمكن الطعن بمقدرته [عليه السلام] على معرفة شيء يعرفه عامة الناس مثل تأبير النخل والنزول على ماء بدر، ويقول القيسي: فالذي أراه أن مثل هذه الأحاديث هدفها الطعن برجاحة عقل النبي وأهليته لقيادة قومه لا غير، وهو يضاف إلى أحاديث كثيرة ومرويات منسوبة له تقدح في مقامه الدنيوي والروحي (ص82)
مرة أخرى نرى صحة هذا الحديث وثبوته وفيه إظهار لبشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو هنا ترك للناس الأمور الفنية التي تحتاج لعلم وخبرة خاصة، فمن المعروف أن هذا المجال (الإداري والفني والذي يحتاج إلى علم مبني على البحث والتجريب) هو مجال بشري تركه الإسلام للناس ليطوروه ويعملوا به بما يحقق مصالحهم، وهنا هنا يعطينا مثالاً عملياً في ذلك، هذا على خلاف الأمور العقدية والفقهية، والتي تعتمد على الوحي والنص، فكان عليه السلام يَصْدرُ فيها عن وحي إلهي لا مجال للبشر في إنشائه، بل لهم تدبره وفهمه واستنباط الأحكام منه وحسب.
للأسف سنرى فريقاً من الناس من يسارعون في القول بأن هذا الحديث يعطي الحق للناس أن يقولوا ما يشاؤون في أمور التشريع وسن القوانين ظناً منهم أنها “من شؤون دنياكم”، كان على هؤلاء التفريق بين ما هو من قبيل “العلم والرأي والخبرة والمشورة” وما هو من قبيل الوحي والعقيدة والتشريع. لنتذكر أن الصحابي “الحباب بن المنذر بن الجموح” قال في غزوة بدر: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغوِّر ما وراءه من القلب (الآبار)، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه، فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية” فهذا الصحابي فرَّق بين ما هو من الوحي وبين ما هو من الرأي!
يرى الأستاذ القيسي أنه لا يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يقع وتنكسر أسنانه، وينقل القيسي عن ابن العربي أن ذلك كان عقابا له (عليه السلام) لمخالفته رأي عمر بن الخطاب بأنه لم يقتل الأسرى يوم بدر (ص135).
هنا ملاحظتان، الأولى أن الحديث صحيح، فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم – كُسرت رباعيته يوم أحد ، وشج في رأسه ، فجعل يسلت الدم عنه ويقول : كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله تعالى فأنزل الله تعالى : ليس لك من الأمر شيء” وأما أنها عقوبة من الله لرسوله عليه السلام، فليس الأمر كذلك، وهذا أيضاً يؤكد بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، ألم يذكر القرآن الكريم أن الأنبياء أيضاً عُرضة للإصابة بأمراض خطيرة ومزمنة، وما أمر سيدنا أيوب عنا ببعيد، يقول تعالى:( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * الأنبياء83) وأما حكاية أن ما أصاب النبي عليه السلام في أحد هو عقوبة له عليه السلام في أنه لم يقتل أسرى بدر استجابة لاقتراح عمر بن الخطاب، فهذا قول لا يصح، فقد بحثت في المسألة ما يؤيد هذا القول فلم أجد نصاً في ذلك، ومن الواضح أنه من تفسيرات واستنتاجات ابن عربي.
روايات عائشة لأحداث لم تعاصرها 167
ينكر الأستاذ القيسي رواية السيدة عائشة لأحاديث لم تعاصر أحداثها مثل الحديث عن ببداية الرؤى المنامية التي كان يراها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل التقائه بالوحي مباشرة. ولنا هنا بعض الملاحظات:
الأول: رواية الصحابة عن بعضهم أمرٌ مألوف، فعندما تتحدث السيدة عائشة بصيغة الجزم لهذه الأحاديث يعني أنها سمعتها من صاحبي آخر، وعندما يروي صحابي حديثاً عن صحابي آخر لم يُسمه في السند فلا عيب في ذلك لأن ذكر الصحابي لن يضيف شيئاً إذ أن الصحابة جميعهم عدول، والراجح أنها سمعت هذه الأحاديث من النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتأكيد عندما تروي مثل هذه الأحاديث عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم فتكون قد سمعتها منه لقربها منه فهي زوجته وجمعهما سقف واحد نحو عشر سنوات.
الأمر الثاني يتعلق بعمر السيدة عائشة، فرغم أن الشائع أن عمر السيدة عائشة عندما دخل بها الرسول صلى الله عليه وسلم تسع سنوات، إلا انه وبعد البحث تراوحت تقديرات عمر السيدة عائشة بين 13 إلى 25 سنة، ومِن أبرز مَن خاض في هذه المسألة الدكتور حسين مؤنس المؤرخ المصري البارز والذي قدر عمرها عند زواجها بتسعة عشر عاماً والأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه “الصديقة بنت الصديق، والذي قدر عمرها عند زواجها ما بين 14 ــ 15 سنة، ويُعتبر العقاد أول من تحدث عن تقدير عمر السيدة عائشة مخالفاُ بذلك الرواية المشهورة عن عمرها، وهناك أدلة كثيرة ترجح هذا الأمر، ومن هنا نقول بأن السيدة عائشة كانت في عُمْرٍ يمكنها من معرفة الظروف الأولى للرسول صلى الله عليه وسلم لا سيما وأن النبي صلى الله عليه وسلم وأباها كانا صديقين حميمين.
ابن عربي يأخذ الأحاديث دون تمحيص 187
يورد ابن عربي تلك الرواية التي تنسب لبعض حاضري وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهجر (أي يخلط في الكلام) وهنا يشير ابن عربي للحديث الذي رواه البخاري وفيه:” قال ابن عباس يوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله (ص) وجعه، فقال: ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: ما شأنه؟ أهجر؟ استفهموه فذهبوا يردون عليه، فقال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه، وأوصاهم بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة، أو قال: فنسيتها. (صحيح البخاري -كتاب المغازي -باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته)، وهناك عدد من الروايات المتشابهة دون لفظ (يهجر).
لا بد من رد هذه الجملة (فقالوا: ما شأنه؟ أهجر؟) لأنها جملة لا تتناسب مع مقام النبوة ولا يمكن لأي صحابي أن ينتقص من مقام النبوة بهذا الشكل، فتُرد كل (الأحاديث) التي فيها هذه الجملة دراية. علماً بأن سائر الروايات أشارت إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتد عليه الوجع فلم يشأ الحاضرون إزعاجه، ولهذا أرى أنه كان على الأستاذ القيسي رد الروايات دراية أصلاً وعدم الاستمرار في مناقشة الروايات.
ما معنى “عبس وتولى” وهل أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن أم مكتوم؟
ذكر القيسي ص 99 و137 أن ابن عربي قد فسر قوله تعالى “عبس وتولى” بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعرض عن ابن أم مكتوم الأعمى الفقير لأنه يتطير من العميان ويحب الفأل الحسن، وأن تفسير ابن عربي هذا لا يختلف عن التفسيرات التقليدية المسيئة للجناب المحمدي.
ويقول الأستاذ القيسي بأن التفسير الذي يأخذ به ما قال به “الشيخ المجدد النيّل أبو قرون “بأن الذي عبس وتولى ليس هو النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو رجل آخر من الكفار عبس وتولى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النبي لم يعرض عن ابن أم مكتوم بل كان مقبلاً عليه، وأن الخطاب للكافر {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ *عبس 3و4} وهو تقريع للكافر لإعراضه واستغنائه عما كان يدعو إليه النبي صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله، (ص 99)
وتفسير الكاتب السوداني “الشيخ المجدد النيّل أبو قرون ” شبيه بالتفسير الشيعي لمناسبة السورة ففي تفسير الطبرسي:” عن الصادق عليه السلام قال: «إنّها نزلت في رجل من بني أميّة، كان عند النّبيّ صلی الله عليه وآله وسلم فجاء ابن أمّ مكتوم، فلمّا رآه تقذّر منه وعبس وجهه وجمع نفسه، وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك عنه وأنكره عليه».
ما نود قوله هنا أن هذا التفسير قد يكون صحيحاً، ولكن التفسير “التقليدي” لمعنى “عبس وتولى” أيضاً مقبول ولا يطعن في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم وحُسن خُلُقِه. وملخص القصة كما عند الترمذي: أُنْزِلَ: عَبَسَ وَتَولَّى في ابنِ أمِّ مَكْتومٍ الأعمى، أتى رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فجعلَ يقولُ: يا رسولَ اللَّهِ أرشِدني، وعندَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ رجلٌ من عُظماءِ المشرِكينَ، فجعلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يُعرضُ عنهُ ويُقبلُ على الآخَرِ، ويقولُ: أترى بما أقولُ بأسًا؟ فيقولُ: لا، ففي هذا أُنْزِلَ”.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قام بتأخير السماع لعبد الله بن مكتوم لحين الفراغ من سماع هذا الرجل الكافر ذي المكانة الذي كان في نقاش مع النبي صلى الله عليه وسلم طمعاً في إسلامه ظناً من الرسول صلى الله عليه وسلم أن إسلام هذا الرجل سيكون سبباً في إسلام الكثير من قومه، ولم يكن ابن أم مكتوم قد أسلم بعد، وكان هذا التصرف تقديراً من الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه سيفرغ للرجل الأعمى بعد ذلك، لم يخالف النبي صلى الله عليه وسلم أمراً تشريعياً يقول بوجوب أن يُشرك الرسول صلى الله عليه وسلم أي سائل في حديث كان قائماً، أو يجعل الحديث مع الضعفاء ذا أوَّلية، ولكننا ننظر الآن إلى أن التصرف كان يجب أن يكون كذا أو كذا حسب مفاهيمنا وتقديراتنا، على أية حال نستطيع القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم تصرف خلاف الأولى ولم يخدش مفهوم العصمة.
الصلاة على المنافقين(ص 298)
ينكر الأستاذ القيسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى على أحد المنافقين، فتعجب عمر بن الخطاب من ذلك فشد ثوب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثر على عاتقه وقال: ألم ينهك ربك أن تصلي عليهم؟ صحيح أن الرواية بهذا الشكل يجب ردها فورا ففيها تطاول من عمر على النبي صلى الله عليه وسلم ويبدو أنه أكثر حرصا على تأدية الأحكام الشرعية من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الرواية الصحيحة خلاف ذلك، جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري ” كتاب الجنائز ” باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين؛ عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أنه قال: لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول دُعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبْتُ إليه فقلتُ: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا أعدد عليه قوله! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أخِّرْ عني يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إني خُيِّرت فاخترت؛ لو أعلم أني إنْ زدتُ على السبعين يُغفر له لزدت عليها، قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة “ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبدا” إلى قوله “وهم فاسقون” قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ والله ورسوله أعلم”. فلم يكن النهي عن الصلاة على المنافقين قد نزل بعد، ولم يقم عمر بشد ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتصرف بسوء أدب!.
هل ابتدع عمر قيام رمضان 302
يقول القيسي: “إذا كان قيام رمضان بدعة أي لم تكن موجودة في عهد النبي العظيم فهل يحق لأي شخص مهما كانت مكانته أن يضيف شيئا في الدين أو ينقص منه”؟
الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى التراويح جماعة ولكن خشي صلى الله عليه وسلم أن تُفرض (جماعة) فتركها، وبقي الناس يصلون فرادى إلى أيام عمر رضي الله تعالى عنه. رأى أن الحكمة التي من أجلها ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة جماعة -وهي خشية أن تُفرض علينا-قد انتفت. لأنه لا فرض ولا سنة ولا أي شرع بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجمع الناس على مثل ما جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم أول الأمر وصلوا جماعة، وقال “نعمت البدعة”. وهذا لا يعني أن عمر رضي الله تعالى عنه ابتدع في الدين بدعة لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم. أبداً. لأنه إنما أعاد ما كان عمله النبي صلى الله عليه وسلم.
مفهوم الدولة الإسلامية
تحدث الأستاذ القيسي عن مفهوم الدولة الإسلامية كثيراً، فيقول “تم تحويل الإسلام من دين أرسل إلى الناس كافة إلى دولة سياسية ضمن حدود جغرافية ضيقة حيث بدأ فيها القهر والإجبار، وليس منح الناس حرية الاختيار، كما يخلط بين المُلك الذي أعطاه الله داود عليه السلام بشكل خاص دون بقية الأنبياء فجمع بين النبوة والحكم السياسي وبين الدعوة المحمدية التي لا علاقة لها بالملك (ص146) ، وكرر الكلام أيضاً في الصفحة 254 فقال: من البديهي القول إن رسول الله صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله لم يحدد شكل الحكم بعد رحيله وترك الأمر مفتوحا للاتفاق على إدارة شؤونهم، ولم يوص بملك أو رئاسة لأحد لأنه يعرف أن الإسلام دعوة أخلاقية للناس كافة وليس دولة سياسية محددة بجغرافيا معينة، والذي أوصى به هو المرجعية الدينية بعده لعليٍّ في واقعة الغدير “من كنت مولاه فعلي مولاه”….إلخ. وقال: “من المعروف أن عليا لم يكن مقتنعا بالخلافة أصلا فهو يعرف جيدا أن الدين دعوة أخلاقية وليس دولة خلافة سياسية بالقهر وهو المرجعية الدينية بعد النبي العظيم وهو الوصي والولي …. إلخ ص 316. القول بعدم وجود دولة أو نظام سياسي في الإسلام قول مُستحدَث، بدأ مع مصطفى كمال اتاتورك عندما انقلب على السلطان العثماني عام 1924، والذي جمع حوله من الرجال الذين عملوا على تسويغ وجهته في فصل الدين عن الدولة، وكان كتاب الشيخ “علي عبد الرازق” :”الإسلام وأصول الحكم” من أولى المحاولات التنظيرية التي رمت لتكريس هذه المقولة، ثم أجهد أصحابُ الفكر العلماني المتأثر بالفكر الرأسمالي الغربي أنفسهم في تسويق هذا المفهوم، في المقابل ذهب الإسلاميون لتأصيل فكرة أن الإسلام دين ومنه الدولة، وأن فيه نظام للحكم، وأنه عنى بتنظيم شؤون الناس من خلال نظام حاكم، شأن أي نظام حكم عرفه العالم، وكان هناك العديد من الأدلة على ذلك من القرآن الكريم والسنة والسيرة النبوية والفقه والممارسة العملية للمسلمين، نسوق بعضها:
أولاً: من القرآن الكريم: ما دام أن القرآن الكريم كتاب الإسلام المنزل؟ فلماذا إذن وجدت فيه آيات الحكم والسلطان لو لم تكن للإسلام دولة؟ استمع إليه وهو ينادي في الحكم فيقول:
-
“وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ” و (الظالمون) و (الفاسقون) [المائدة: 44-و45 و47].
-
يقول تعالى: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأْمْرِ مِنْكُمْ”[النساء 59]
-
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” [النساء 65]
وهل هناك أشد صراحة من هذا في إنذار من لم يجعل ما أنزل الله حكماً؟ ومن جعل الحكم على خلاف ما أنزل الله؟ وهناك الآيات الكثيرة الدالة على تفصيلات حوادث الحكم، فهناك آيات التشريع الحربي، والتشريع السياسي، والتشريع الجنائي، والتشريع الاجتماعي، والتشريع المدني، وغير ذلك من التشريعات.
ثانياً: من السنة النبوية:
-
جاء في صحيح مسلم عن ابن عمر قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من خلع يداً من طاعة (الله) لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”
-
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سيليكم بعدي ولاة فيليكم البر ببره؛ ويليكم الفاجر بفجوره، فاسمعوا وأطيعوا في كل ما وافق الحق، فإن أحسنوا فلكم، وإن أساءوا فلكم وعليهم.
ثالثاً: وجود الدولة والسلطان:
هناك كثير من الواجبات الشرعية يتوقف تنفيذها على وجود الدولة والسلطان كتنفيذ الأحكام، وإقامة الحدود، وسد الثغور وتجهيز الجيوش وقطع المنازعات الواقعة بين العباد، وحفظ الأمن، ولأن جلب المنافع للأمة ودفع المضار عنها لا يتأتى إلا بوجوده. ونحو ذلك من الأمور التي بين آحاد الأمة،
رابعاً: الإجماع (إجماع الصحابة):
جعل الصحابة أهم المهمات بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم نصب الخليفة، على ما في الصحيحين من حديث سقيفة بني ساعدة، وكذا بعد موت كل خليفة من الخلفاء، وقد تواتر نقل إجماع الصحابة على وجوب نصب الخليفة حتى جعلوه من أهم الواجبات، ويعتبر ذلك دليلاً قطعياً، وتواتر إجماع الصحابة أيضاً على امتناع خلو الأمة من خليفة في أي وقت من الأوقات، فواجب على الأمة نصب إمام؛ إي إقامته وتوليته، وتخاطب بذلك جميع الأمة من ابتداء موته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة.
خامساً: من السيرة النبوية والواقع التاريخي:
الواقع التاريخي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة أيام حياته ومن بعده يدل دلالة واضحة على أن الإسلام كان نظاماً للدولة وللحياة، ولكل جزئية من جزئيات حياة الأمة والدولة. ومن ذلك:
-
باشر الرسول صلى الله عليه وسلم أعمال الدولة عندما وصل إلى المدينة المنورة، كان للدولة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم عدة مديرين، لكل مصلحة مدير، كان يُسمى كاتباً، فقد كان معيقيب بن أبي فاطمة كاتباً للغنائم، والزبير بن العوام كاتباً لأموال الصدقات، والمغيرة بن شعبة كاتباً للمداينات والمعاملات، وشرحبيل بن حسنة كاتباً للتوقيعات إلى الملوك ـ أي كاتباً للرسائل الصادرة إلى الخارج ـ وعبد الله بن ألأرقم كاتباً للناس في قبائلهم ومياهم.
-
اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم مجلساً للشورى، وكان يستشير أصحابه في الأمور، وقد خص أربعة عشر رجلاً في الشورى.
-
أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد؛ مكاناً للصلاة وللاجتماع والتشاور ولإدارة شؤون المسلمين، والقضاء بينهم.
-
اتخذ عليه الصلاة والسلام أبا بكر وعمر وزيرين، والتف المسلمون حوله، وصاروا يرجعون إليه، فكان يقوم بأعمال رئيس الدولة والقاضي وقائد الجيش، وكان عليه السلام يرعى شؤون المسلمين ويفصل في الخصومات.
-
أرسل عليه السلام الولاة إلى المقاطعات الإسلامية ليطبقوا الإسلام فيها ويرعوا شؤون الناس وفق ما يوجههم عليه (أي وفق الأحكام الشرعية)
-
إرسال الولاة والمعلمين للأقاليم، ليحكموا بين الناس في أمورهم، ويعلموهم الإسلام ديناً فيه العبادة والنظام والقانون.
-
تطبيق أحكام الإسلام؛ مثل إقامة الحدود وإيقاع العقوبات وتحصيل أموال الدولة كالزكاة ونحوها. وإقامة القضاء بين المتخاصمين.
-
فرض السيطرة السياسية على المدينة ورعاياها وما حولها مما وقع تحت سلطان المسلمين، ومن ذلك كتابة الصحيفة الشهيرة وموادعة اليهود.
-
عقد معاهدات مع القوى السياسية الأخرى (مثل قريش وصلح الحديبية)
-
تشريع الجهاد، فقد أخذ عليه السلام يُؤَمِّر على السرايا قواداً ويرسل السرايا خارج المدينة.
سادساً: من الفقه:
فرض الله تعالى على المسلمين طاعة أُولي الأمرـ أي الحاكم ـ مما يدل على وجوب وجود ولي الأمر على المسلمين، قال تعالى: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأْمْرِ مِنْكُمْ”[النساء 59] ولا يأمر الله بطاعة مَنْ لا وجود له، ولا يفرض طاعة من وجوده مندوب، فدَّل على أنَّ إيجاد ولي الأمر واجب، فالله تعالى حين أمر بطاعة ولي الأمر فإنه يكون قد أمر بإيجاده فإن وجود ولي الأمر يترتب عليه إقامة الحكم الشرعي وترك إيجاده يترتب عليه تضييع الحكم الشرعي، فيكون إيجاده واجباً لما يترتب على عدم إيجاده من حرمة وهي تضييع الحكم الشرعي.
سابعاً: أدلة عقلية:
طبيعة الحياة توجب وجود رئيس للدولة؛ فإن كل أمة لا تستغني عن قوة تحمي قوانينها، وتدير شؤون أفرادها؛ وهذه القوة هي الحاكم، لأنه ضرورة من ضروريات المجتمع الإنساني، لذلك كان العقل والشرع يوجب على المسلمين إيجاد الدولة.
وكذلك فالمسلمون مكلفون حسب الشرع تبليغ الإسلام (ألا فليبلغ الشاهدُ الغائبَ) وحمْل الدعوة الإسلامية لا يكون إلا عن طريق الدولة، لأنها هي التي تملك القوة التي تحمي هذه الدعوة، وتزيل الحواجز المادية التي تقف في سبيلها بالقوة المادية. ولذلك كان قيام الدولة الإسلامية من ألزم الواجبات على المسلمين جميعاً.
أما قول الأستاذ يحيى القيسي بأن الإمام عليٍّ كرم الله وجهه لم يكن مقتنعاً بوجود نظام سياسي ودولة في الإسلام فقول ينقصه البرهان، وتحدثنا بعض كتب السيرة بأنه سارع فوراً بمبايعة أبي بكر الصديق عندما تم انتخابه خليفة، وقالت روايات أخرى بأنه كان يأمل أن تتم استشارته في أمر انتخاب خليفة، وتقول روايات أخرى أيضاً بأنه امتنع عن مبايعة أبي بكر وتأخر في ذلك إلى أن فقد الأمل في أن يكون هو الخليفة.
أما أنه قبل أن يكون مرجعاً دينياً وحسب، فأمر لا ينطبق على الواقع لأمر بسيط هو أنه لا وجود لمرجع ديني في الإسلام ولا لولي ولا وصي كما هو معرف (لدى أهل السنة على الأقل)، ولنا أن نسأل: ما هي مهمات هذا المرجع أو الوصي والولي؟ هل سيُشرِّع تشريعات جديدة؟ ووهل سيستحدث أموراً جديدة؟ أم ان مهمته هي مهمة الأئمة الاثني عشر في المذهب الشيعي الجعفري كما هو في صورته الآن؟!
هناك أمور كثيرة استوقفتني عند قراءة هذا الكتاب، مواضيع فقهية وأخرى عقدية وغيرها والتي لا يمكن حصرها وذكرها في مقال أو إطلالة على هذا الكتاب الجميل القيِّم الذي أوضح لنا فكر ابن عربي ورؤيته الصوفية وإلى أين بلغ به التماهي في هذا الفكر الذي بلغ درجة خلط الخيال بالواقع.
نشد على أيدي الأستاذ الباحث يحيى القيسي وننتظر منه المزيد من العطاءات والكشوفات على الفكر الصوفي وفكر ابن عربي بالذات.
- كاتب وباحث من الأردن