رجاء عالم *
كتاب (تاريخ القراءة) للكاتب (ألبرتو مانجويل)، (Alberto Manguel)، يتكلم عن اكتشافه لهذا العالم السحري (عالم القراءة)، و الذي يخترق بالمرء لعوالم خارج عالمه و لم تخطر له على بالٍ، و يُلاحق مانجويل ما توفره الكتبُ من مساحات في العقل البشري و التاريخ و المجهول. يبدأ الكتاب بلوحات تُصَوِّر القُرَّاء الأهم عبر التاريخ، لوحة تمثل أرسطو يقرأ مخطوطة، و لوحة رُسِمَتء لفيرجيل بعد خمسة عشر قرناً من وفاته، بوشاحه و بنظارتيه على أنفه الأقنى يقرأ مخطوطة، و أخرى للقديس دومينيك، و أخرى للعاشقين باولو و فرانشيسكا تحت شجرة، يقرآن بيتاً للشِعر سيقودهما في النهاية لدمارهما… و لوحة لعيسى بن مريم طفلاً يقرأ و يشرح من كتاب لكبراء قومه في المعبد بينما هم مذهولين و غير مصدقين يُقَلِّبون صفحات الكتاب للبحث عن إجابات لتلك المعجزة.
يبدو ميجويل مسحوراً بفعل القراءة، و يضمِّن ذلك الافتتان في كتابٍ هو مزيج من البحث العلمي و المقالات، يقول:
(نقرأ لنجد النهاية، من أجل خاطر الحكاية، نقرأ لكي لا نصلها، من أجل خاطر القراءة. نقرأ باحثين كمتتبعي الأثر، غائبين عن محيطنا. نقرأ بذهن مشتت، نقرأ صفحات دفعة واحدة … نقرأ في زخَّات من المتعة المفاجئة، دون أن نعرف ما الذي جلب تلك المتعة، “ما بحق السماء هي هذه المشاعر؟” تساءلت ريبيكا ويست بعد قراءتها لمسرحية الملك لير، “ما تأثير الملاحم الفنية العظيمة على حياتي و التي تُحرِّض فيَّ كل هذه السعادة؟” الحقيقة أننا لا نعرف، لأننا نقرأ بجهل، نقرأ مقيدين بكبريائنا، ممسوخين. نقرأ بكَرَمٍ، مصطنعين الأعذار للنص، و نملأ الثغرات، و نرتق الأخطاء، و أحياناً، عندما نكون محظوظين، نقرأ بأنفاس محبوسة، برعدة، كما لو أن ذاكرة قد تم إنقاذها للتو و فجأة من الضياع من مكان سحيق من نفوسنا. هذا الإدراك المباغت لشيء لم نعلم من قبل أنه هناك، أو لشيء كنا نشعر به و بشكل غامض مثل اختلاجة نور أو ظِل، و الذي ينبعث خياله الشبحي و يخطو عائداً داخلنا قبل أن نستطيع رؤية ما هو).
و كما يقول تعليق مارجريت فيزر، (هذا الكتاب هو تاريخ أنفسنا، و يحتفل بأكثر ممارساتنا متعة: فعل القراءة).
يقول الكاتب أنه قد تعلَّمَ القراءة في سن الرابعة، و منذ ذلك الحين صارت القراءة هي المعتكف الذي يلجأ إليه وسط الزحام و يشعر بالخصوصية فوق قدرة الآخرين على اقتحامه. بينما لم يتعلَّم الكتابة قبل سن السابعة، يقول إنه كان بوسعه أن يحيا من غير الكتابة بينما ليس بوسعه أبداً أن يحيا بلا القراءة، المجتمعات كلها بدأت بل و وُجِدَتء بالقراءة حيث إن الكتابة تقتضي و تسبقها قراءة و ترجمة رموز المجتمع و الطبيعة قبل أن يشرع الكُتَّاب بإطلاق أقلامهم لكتابتها.
و في غمرة دخوله المبكر لعالم القراءة و استسلامه لسحرها صار ميجويل يقرأ كل شيء: الملاحظات، الإعلانات، المطبوع وراء تذكرة الترام، و الرسائل الملقاة في الزبالة، و الجرائد التي تذروها الرياح تحت مقعده في الحديقة. و قرأ أن سيرفانتس في ولعه بالقراءة كان يقرأ مزق الأوراق الملقاة في الشارع، و أن ما دفعه لهذا التنقيب هو هذا التقديس للكتاب. يقول إن الإسلام مضى في تقديس القراءة لحد أنه نَزَّه القرآن أن يكون من مخلوقات الله بل هو كلام الله مُتَعَلِّقٌ بذاته، و حيث إن ذاته أزليِّة ليس فيها حدوث، صار القرآن صفة أزليِّة من صفات ذاته كالرحمة أو مثل وجوده الكلي المعرفة، فالقرآن هو رحمة من رحمته و شفاء من شفائه و هداية من هدايته.
يقول ميجويل إنه قد تلقى خبراته الأولى من القراءة، حتى صار فيما بعد و حين تدرَّج في الحياة و كلما صادف موقفاً أو شخصية تشبه تلك التي سبق و صادفته في الكتب، يشعر بخيبة و بصعقة الإعادة، (مثل مشهد يعاد لعبه على خشبة مسرح) يقول لقد سبق و مرَّ بي هذا الموقف في الكلمات. يقول: “لقد وجدتُ في فكرة الشيء حقيقةً أكثر مما في الشيء ذاته، لأن الفكرة قد أعطيت لي ابتداءً و أُعطيت لي كشيء، كعَالَمٍ قائم، لقد حصل أن التقيت بالكون في الكتب: مهضوماً، مُصَنَّفَاً، مُعَنوناً، مُتَأمَلاً فيه، محتفظاً رغم كل ذلك برهبته” و يستشهد بمقولة عالم النفس جيمس هيلمان الذي يرى أن الأطفال الذين قرأت لهم القصص في طفولتهم يتقدمون على أولئك الذين سيتعرفون مؤخراً على القصص، يقول: “القدوم المبكر برفقة الحياة المقروءة هو منظور عميق للحياة يتسلح به الطفل، و أن خزين القراءات المبكرة برأس القاريء هي حياة معاش فيها و من خلالها، و هي الطريقة التي تجد بها الروحُ ذاتَها في الحياة”.
يقول لقد أردت أن أحيا بين الكتب، لذا فحين بلغتُ السادسة عشرة عملت بعد المدرسة في مكتبة بيجماليون، واحدة من ثلاث مكتبات متخصصة في الكتب الأنجلو جيرمانية في بوينس آيرس، لصاحبتها ليلي ليباك، و التي عهدتء لي بمهمةٍ يومية هي نفض الغبار و تنظيف كل كتاب من الكتب اللانهائية على أرفف المكتبة. الوسيلة التي شاءت بواسطتها أن تضمن معرفتي لكامل مخزون الكتب و مواقعها على الأرفف “يُعَلَّق” للأسف فلقد أغرتني الكتب بما هو أفدح من مجرد تنظيفها، أرادتني الكتبُ أن أحملها بين يدي و أفتحها و أتفحَّصها، و أحياناً لم يكن ذلك كافياً، في مرات قليلة لقد قمت بسرقة الكتاب الذي يُغريني. لقد حملته لبيتي مدسوساً في معطفي، لأنه لم يكن كافياً أن أقرأه فقط، كان من الحيوي أن يصير ملكي. و تعترف الروائية جامايكا كينكيد، بجريمة مماثلة حيث أقدمت على سرقة بعض الكتب من مكتبة طفولتها، و تعترف بأنه لم يكن في نيِّتها السرقة و إنما، “بمجرد قراءتي للكتاب لايعود بوسعي مفارقته”.
يقول ميجويل “سريعاً ما اكتشفت أن المرء ببساطة لا يقرأ رواية الجريمة و العقاب، لكن المرء يقرأ نسخة معينة لتلك الرواية، نسخة مُمَيِّزة بشيء من الخشونة أو النعومة لأوراقها، برائحتها، بشق طفيف في صفحة 72، و دائرة كوب القهوة على الركن الأيمن للغلاف الخلفي .
في القرون الوسطي، ربما قام الناسخون بتصحيح نسختهم من النصوص التي ينسخونها، و بالتالي ينتجون لنا نصوصاً أدق، رغم ذلك، و على أية حال فإن النسخة الأولى التي تقع بيدي و أقرأها تظل هي المقياس أو النسخة المُنَقَّحة المثلى التي أقيس عليها بقيِّةَ النُسَخِ، لقد أوهمنا اكتشافُ الطباعة بأن جميع القراء الذي يقرأون دون كيشوت يقرأون نفس الكتاب. بالنسبة لي، حتى اليوم، أشعر كما لو أن اختراع الطباعة لم يتم، و أن كل نسخة من أي كتاب هي نسخة فريدة فرادة طائر الفينيق.
مُتَضَمَّناً في كل كتاب نملكه يكمن تاريخُ القراءات السابقة التي تَمَّت لذاك الكتاب. بمعنى أن كل قاريء جديد للكتاب يتأثر بما يتخيله عن الأيدي التي تناولت الكتاب قبله. فمثلاً نسختي من سيرة كبليج (شيء من نفسي) و التي اشتريتها مستعملة من بوينس آيرس، تحمل قصيدة مكتوبة باليد مؤرخة بيوم وفاة كيبلينج، لقد أَثَّرَت هذه القصيدة على قراءتي لكيبلينج، و أدخلتني في جدلٍ مع شاعرها المجهول، و صارت تلك الحوارات جزءً من سيرة كيبلينج. لذا فإن الكتاب يحمل تاريخه الخاص لكل قاريء يقع بين يديه”.: