*أحمد الشهاوي
” اذا ما مات مثلي مات بموته خلقٌ كثيرٌ ،
و أنت تموتُ ليس يدري بموتك لا الصغيرُ أو الكبيرُ”
كأن من كتب ذلك ، كان يدرك أن عمره قصير ، وأنه سيصير ملء الدنيا ، وينشغل الناس بذكره ، ويبقى منجزه دالا عليه ، ومشيرا إليه ، وقد صدق حدسه ، ولا أحد الآن يتصور أن الرجل الذي عاش في القرن الثاني الهجري ، تكون لغته حديثة وحُرَّة ، كما لو أنه من بين معاصرينا الأفذاذ ، بل أكثر حداثةً من حداثيين كثيرين يعيشون بيننا ، بالطبع لأنه ابنٌ لثقافاتٍ وحضارات ولغات شتى ، كما أنه ابنٌ لنفس حُرَّة ، ثائرة ، وناقدة ، وناهضة ، ومختلفة ، ومغايرة ، لم تنافق أو تحاب أو توار أو تمالئ .
نعرفه باعتباره صاحب كتب ( كليلة ودمنة ) ، و ( الأدب الصغير ) و(الأدب الكبير) ، درسناه صغارًا وقرأناه في مراحل مختلفة من حياتنا ، وما زلنا نعيد قراءته بشيء من الحنين والبهجة ، لكنَّ أحدًا ممن كان منُوطًا به تقديم نُبذة أو سيرة عنه ، لم يقل لنا كيف قتل ولماذا ؟ لأنه في ذلك الوقت – وحتى أيامنا هذه – يُنظر إلى أزمنة الخلافة والخلفاء بشيءٍ من التقديس حدّ الألوهية أو على الأقل النبوة ، رغم فساد وشرور ومجُون وقلة دين وحياء وتربية أغلب هؤلاء الخلفاء خُصوصًا في الدولة العباسية بامتداداتها التي طالت للأسف ، وكانت سببًا في تأخر الشعوب التي خضعت لسلطانها.
والناس منذ مقتل ابن المقفع تذكره ، وتقرأ كتابه الأشهر ” كليلة ودمنة ” ، وكذا كتبه الأخرى ، التي أثْرت الأدب العربي ، والآداب الأخرى ، بعد نقلها إلى لغاتٍ كثيرة في العالم ، وكان لها وما زال التأثير الواسع في ثقافات الشعوب ، ولم يعد يذكر الناس الخليفة الذي أمر بقتله وهو الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس وأقواهم ، والذي تولَّى الخلافة وهو في الحادية والأربعين من عمره ، إذ حكم اثنتين وعشرين سنة حتى مماته (136 – 158هـجرية / 754 – 775ميلادية ) ، وسبق له أن قتل أبا مسلم الخراساني في ( سنة 137 هـجرية / 756 ميلادية ) ، وكان قريبًا منه وصديقًا له ، وذا مكانةٍ بين أهله وذويه في خراسان ، ولمَّا أدرك الخليفة فعلته في القتل ، خطب في الناس مُبرِّرًا فعله الشنيع ، ومخوِّفًا ومُنذرًا ومُحذِّرًا : ( أيها الناس، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء الحق، إن أبا مسلم أحسن مبتدئًا وأساء معقبًا، فأخذ من الناس بنا أكثر مما أعطانا، ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبيث سريرته وفساد نيته ما لو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا في قتله، وعنفنا في إمهالنا، فما زال ينقض بيعته، ويخفر ذمته حيث أحل لنا عقوبته، وأباح لنا في دمه، فحكمنا فيه حكمه لنا في غيره، ممن شق العصا، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه ) .
إذن هاهو ( خليفة المسلمين ) باعترافه في خطبته يقتل على ما تطويه النوايا ، وتحمله السرائر ، فهو وحده من يحل الدماء ، ويصدر حكمه بالقتل ، مع أن الله وحده أعلم بالنوايا ، وهو الأمر نفسه الذي فعله مع ابن المقفع ، كما قتل الخليفة أيضا حفيد رسول الله محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على في المدينة ، وقائمة الذين قتلهم المنصور في عصره تطول أوراقها .
أليس هو القائل : ( أنا سلطان الله في أرضه ) ، وهو أول من أرسى وراثة الحكم ، وكذا أرسى الحكم باسم الدين ، بمعنى أنه استغل الدين في الترويج والتمهيد لدولته ، وفي عصره شاعت المقَاتِل ، وانتشرت الأحاديث المكذوبة والمُلفَّقة والمسنودة إلى النبي محمد زورًا وبهتانًا .
ولم يكن ابن المقفع زنديقًا ولا ملحدًا ولا مارقًا ولا خارجًا على دينه ، الذي اعتنقه بعد أن كان مجوسيًّا يعبد النار كأهله ، لكنه دخل الإسلام مُختارًا ، وصار أحد أعمدة ورموز عصره والعصور التي تلت ، في الأدب والفكر والثقافة والترجمة ، ومع ذلك قُتل قبل أن يبلغ السادسة والثلاثين ، وهي السن نفسها التي قُتل فيها شهاب الدين السهروردي ( 539 – 586 هـ – 1154- 1191 ميلادية )
شيخ الإشراق ، و صاحب ” عوارف المعارف ” و ” هياكل النور ” بأمرٍ مُباشرٍ من صلاح الدين الأيوبي في قلعة حلب سنة 587 هجرية ، وهي أيضا السن التي قتل فيها الإسرائيليون الكاتب الروائي الفلسطيني غسان كنفاني (عكا 8 من أبريل 1936 – بيروت 8 من يوليو 1972 ميلادية )
إنه أبو مُحمّد عبد الله بن المقفع (106 – 142 هـجرية – 724 / 759 ميلادية ) ، وكان اسمه قبل اعتناق الديانة الإسلامية (روزبه بن ذادويه) ، وكان ذا معرفة بالثقافة العربية والفارسية واليونانية والهندية ، عاصر خلافتين هما : الخلافة الأموية والخلافة العباسية التي قُتل تحت ظلها المُحمَّل بالدسائس والمؤمرات وسفك الدماء ، وسطوة الطغيان ، واستشراء الفساد ، وشيوع الاستبداد ، وإعلاء الأوغاد وسفلة القوم وتقريبهم من أصحاب السلطان ، بدءا من الخليفة ومُرُورًا بالولاة والأمراء والوزراء والقادة والجند .
يقول ابن كثير (المُتوفَّى 774 هـجرية ) في كتابه ” البداية والنهاية ” : ( … وأما ابن المقفع فلا ؛ فَكُتُبُهُ بين أيدينا تكاد تنطق قائلة : ” وايم الله ، إنَّ صاحبي لبريء مما نُسب إليه)) ، وليت شعري كيف ساغ لفلان وفلان وفلان ممن ترجموا للرجل أن يجزموا بذلك، وكلهم قد صَفِرَت يَدُهُ من البرهان؟ إنْ هي إلا تهمة تناقلوها بدون بيان. وقِدْمًا اتهموا أبا العلاء المعري بذلك حتى قيض الله له مِن جهابذة المتأخرىن مَن أثبت بالدليل الساطع والبرهان القاطع براءته. فتبصروا رحمكم الله) .
وألم يقل محمد بن سلام الجمحي (139 – 231هـجرية ، 756 – 845ميلادية ) صاحب كتاب ” طبقات فحول الشعراء ” : “سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع، ولا كان في العجم أذكي من ابن المقفع ولا أجمع”.
لقد رأى ابن المقفع ظلم الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور للرعية ، وحاول في رسائله وكتاباته بشكل مباشر وغير مباشر أن يكون في الأرض عدل وإنصاف ، هادفا إلى رد الحاكم عن استبداد ، وحثه على فعل الخير ولزوم العدل ، ” فإن الوحيد في نفسه والمنفرد برأيه حيث كان فهو ضائع ولا ناصر له ، على أن العاقل قد يبلغ بحيلته ما لا يبلغ بالخيل والجنود ” . و” الحكماء لا يشيرون إلا بالخير، والجهال يشيرون بضده ” .
وإذا كان ابن المقفع قد كتب ناصحًا الملوك ” إني وجدت الأمور التي اختص بها الإنسان من بين سائر الحيوانات أربعة أشياء، وهي جماع ما في العالم، وهي الحكمة والعفة والعقل والعدل، والعلم والأدب والروية داخلةٌ في باب الحكمة ، والحلم والصبر والوقار داخلةٌ في باب العقل. والحياء والكرم والصيانة والأنفة داخلةٌ في باب العفة. والصدق والإحسان والمراقبة وحسن الخلق داخلةٌ في باب العدل. وهذه هي المحاسن، وأضدادها هي المساوئ ، فمتى كملت هذه في واحدٍ لم تخرجه الزيادة في نعمةٍ إلى سوء الحظ من دنياه ولا إلى نقصٍ في عقباه،… ” ، فكان لابد من مقتله ، لأن أبا جعفر المنصور رأى نفسه إلها على الأرض .
____
*آسيا.إن
مرتبط