-
أمل الهاني
يقدّم الفنان التشكيلي التونسي، كمال عبد الله، بشهر مارس من سنة 2021، معرضا فرديّا بعنوان: “البارا – تشخيصيّة”، برواق 5 أوت – المعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس. يعرض مجموعة محفورات بتقنية الحفر الغائر، ومجموعة من الاعمال التصويرية بتخطيط قلمي، تُعرض الأعمال على محامل صغيرة الحجم، مُؤطّرة ومُجهّزة بأغطية بلورية وموزّعة على كامل الجدران البيضاء للقاعة تحت إضاءة قوية ومركّزة. عندما نتحدث عن التوصيف المكاني لفضاء العرض، وندقّق في وصف التصميم أو الشكل الخارجي للمحفورة، فإننا في حضرة فن الحفر، الفن المتعدّد النسخ، الصغير في الحجم، الدقيق في الانجاز، المُرهف والمُرهق تقنيا وتصويريا وتحضيريا، وهو الذي يمسك بطرفي الموازنة الفنية إن شئتم، التطبيق التقني والإبداع الشخصي، بل أبعد من ذلك، لأن فن الحفر، مساحة تعبير، تتوحّد فيها البصمة الابداعية والجمالية والحرفية، بمعنى الحرفة، أي اكتساب المعرفة الدقيقة لأصول التقنية الحاملة لأدوات وآلات ومراحل معيّنة، المضبوطة زمنيّا وعمليّا.
فن الحفر، عراقة التقنية وتأصيل الممارسة:
يعتبر فن الحفر، من أعرق الفنون في تاريخ الممارسة التشكيليّة، ذلك أنّ التعاطي التقليدي لأصول التقنية، يحتكم لمنهاج تطبيقي صارم وقواعد تقنية مضبوطة. يحافظ كمال عبد الله على نسق انتاج المحفورات التقليدية في اختصاص الحفر الغائر، ويُثبت بجدارة الحفّار الملتزم، أهمّية هذا الفن، الصعب في الممارسة، العسير على الفهم، المُلغز تقنيا وأسلوبيا، إذ يجب أن تكون دارسا وخابرا إمكانات التقنية، لتستطيع أن تُفرّق بين حمضية مساحية وأخرى منقوشة أوبين تقنية المنقاش والمنقاش الصلب. وليس من السهل على الفنّان أن يعيش مراحل الولادة المحبّرة لصفيحة من نحاس أو فولاذ، فهذه العمليّة المعقّدة في الإنجاز، تتعرّض لعوامل النجاح والفشل وعامل الصدفة، فالمسحوبة، وهي ورقة خاصة كورقة من نوع “آرش” أو “وينسور” والتي يُطبع عليها التصميم المُنجز مُسبقا على الصفيحة، مُعرّضة للإتلاف كما للحفظ، ليس من السهل اتّباع خطوات دقيقة في النقش والحفر والطبع والسحب، والانتهاء بمحفورة ناجحة تطبيقيّا، فهذه تجربة سنين وطول صبر ونتيجة خبرة وممارسة عمليّة دؤوبة. وليس من الصعب أن ينخرط الفنان في مخبر محاليل الحمض والحبر وأزاميل النقش والخدش، لأن من يأخذ على عاتقه مسؤولية إنجاز المسحوبات المُطبّعة بالأسود والأبيض، والمُوقّعة بأجساد مُهجّنة مُحوّرة ودوائر وأشياء أخرى، على الطريقة المخبريّة، التجريبيّة، فهو مجازف من الصفّ الأول. أن تكون حفّارا، فهذا يعني أن تكون مجازفا، أن تجازف باللون والشكل والحجم والصورة، أن تعيش لحظات ولادة الصفائح المُغمّسة في الحمض وأن تخُطّ ببراعة الرسّام المُحنّك على محامل معدنية صلبة، تَخترقها إبرة منقاش أو ازميل، لتترك رأسا ناتئا أو جسما بارزا أو كرات مدوّرة ولعلّها أحجار، تكاد أن تُقذف من هناك لتأتيَ هنا، أو أن تختلق أشياءً تشبه الآلة أو توحي بأنابيب وذرّات وشذرات متنوّعة مختلفة، تَنقش وتَحفر وتُخربش كل هذه التكوينات والأشكال على صفيحة صغيرة الحجم، لأنّ القياسات عادة ما تكون مُحدّدة لتُناسب حجم الآلة الضاغطة. لقد عمد كمال عبد الله إلى عرض “الصفائح” وهي المحامل التي حُفرت عليها الأشكال والرموز، وعرض “المسحوبات”، والتي تمثّل النتيجة النهائية لعمليّة الحفر، ونطلق على المسحوبة مباشرة لفظ “محفورة”. ولعلنا في هذا المعرض البصري، التعريفي، نتطلّع ولو نظريّا على خفايا ورشة الحفر، فبين الصفيحة والمسحوبة، يكمن التسلسل المرحلي في اختصاص تقنية الحفر الغائر، ابتداءً من النقش والحفر على الصفيحة مرورا بالتحبير والتحميض وصولا للطبع والسحب. أمّا الأعمال التصويرية بقلم الرصاص والمعروضة مع المجموعة فهي عبارة عن تخطيطات وبحوث مسبقة، أنجزها الفنان قبل الشروع في المراحل التقنية للحفر، ونلاحظ جليّا أنّ مضامين المحفورات المعروضة، جاءت نتاجا لمرحلة البحوث الخطيّة والأعمال القلميّة. يفتح المعرض التشكيلي الأخير لكمال عبد الله الستار عن بعض خبايا ورشة الحفر، فمن الخط يولد البحث ومن البحث تُنقش الصفيحة ومن الصفيحة تولد المسحوبة. يقدّم كمال عبد الله، على طريقته، تكريما لهذا الفن العريق، الأصيل والمتفرّد. وتحاور المحفورة مواضيعا تجتاز القالب التقليدي والصورة النمطيّة عبر تنشيط الفضاء وتحوير شكل الجسد وابتداع التراكيب التصويرية.
فضاءات غرائبيّة – فضاءات ديناميكيّة:
إنّ المُركّبات التصويرية في محفورة كمال عبد الله، هي مُركّبات صنعها الواقع والخيال، تنفلت من المشهد الواقعي وتسقط مُشوّهة على بياض الورقة، مُنسلخة من واقعيّتها نحو مصير جديد، مُعرّاة تماما من رتابتها نحو أفق آخر منحه كمال عبد الله في فيض من الخيال وفيض من الصور وفيض من الحبر. لطالما دأب الفنّان على استنباط الأجساد الهجينة، والفضاءات الغرائبية، التي تلفُّ الكائنات والأجسام الابتكارية لقطع ميكانيكية أو حجرية أو حديدية، ويتجزّأ الفضاء لمربّعات ودوائر ومستطيلات وتشتغل طواحين هواء ويبرز بيض مُفقّس وحمار ناتئ، وكُرات كورونا آتية من جائحة فتّاكة، وصنبور حنفيّة أو ما شابه، ووجوه وهالات وأجساد تضجّ بالحركة، وتتراءى لنا دوائر مُولّدة لأجساد مُجنّحة، تنبثق من الثقوب السوداء وتجتاح الفضاء دورانيّا، كأنها في دورانها اللانهائي، المتكرّر، تُحقق أسطورة الخلود وفينيق البعث، إن الدائرة كشكل هندسي وكواكبي، لا تحدّه بداية أو نهاية، متّصل بالطبيعة في دوران الأرض والتفافها الأزلي حول الشمس، منفصل عن قاعدة الانتهاء والفناء، انبثقت أيضا الأجساد المُجنّحة من دوائرها المقدسة، في حركات عنفوانية، قوية، متحرّرة. إن الأجنحة كمصدر للطيران والتحليق، هي رمز للحرية والتعالي، اعتبرها ميرسيا الياد رمزا للتجاوز أيضا وهي ” الرغبة الرامية إلى إنقاذ الذات من حدودها، الحدود التي يشعر بها الإنسان وكأنّها تدهور وسقوط ” (1)، كذلك، هي ذات دلالة قدسيّة لارتباطها بصورة الملائكة في الكتب السماوية، جسّدها الرسّامون والشعراء في لوحات فنّية مسكونة بهاجس التحرّر والبطولة، هي ذاتها التي نطق بها دوريش في الجدارية، عندما شبّه نفسه بطائر العنقاء الذي يحترق ويترمّد ويُبعث من جديد، ليواصل مسيرة من الصمود والمقاومة. إنها طاقة للتجدّد والتواصل، قوّة على التحدّي والاستمرارية، ويبدو أن كمال عبد الله في مجموعته الأخيرة، الموقّعة بتاريخ 2020، قد تمادى بشخوصه المارقة على الرتيب، حدود الجسد الساكن والنفس البائسة المكتومة، لأنّها ومنذ أن أطلقها في مساحات من الحبر والصفائح والمسحوبات، قد أصدرت صرخة المقاومة والروح الثائرة المتحرّرة، وها هي الآن تعيد وتواصل مسيرة سنوات من أشغال الحفر والتجريب، تَستعيد وتُعيد مشاهدا من النصر والانتشاء. ولئن اشتغل كمال عبد الله سابقا على خاصية تكرار الشكل داخل العمل الفنّي عبر تفكيك حركة الجسد الطائر أو المُحلّق، إلاّ أنّه قد طوّر في استعمال هذه الخاصية تحديدا وتدخّل على الجزء من الجسد، فيقوم مثلا بتكرار شكل الساق أو الرأس، عديد المرّات، بطريقة متجاورة ومتتالية. لقد ركّز على حركة تنقّل الساق، فنجده يُكرّر رسمها، ناتئة من الجسد، مُتجاورة، مُتعدّدة، الساق تلو الأخرى، ونستعيد بهذا النسق التكراري الغنائي، بعض خصائص المدرسة المستقبلية، التي انتهجت أسلوب التفكيك والتحليل وعلاقته بالزمن. إنّ طريقة تفكيك حركة الساق في المحفورة، من خلال اعتماد سلسلة من الحركات المتتالية التي تقوم على مضاعفة الشكل وتكراره مع إحداث التغيير البسيط الذي تتركه حركة الجري أو المشي، تُوضّح عملية تفكيك اللحظة الزمنية اللامادّية إلى لحظة مادّية نتحسّسها بصريّا وتشكيليّا، إنّ تفكيك الحركة هو أيضا تفكيك للوحدة الزمنية، فكل حركة تأتي بها الساق تُحدّد لحظة معيّنة من الزمن. من زاوية أخرى، ربّما ينبثق الجسدُ من الجسد ويتخارج في مرايا متعدّدة كحالة خُرافيّة من التوالد والتناسل الذاتي، أو دلاليّة تُعظّم قدرة الذات على التحرّر والانفلات من سجنها النفسي. يذهب كمال عبد الله إلى التكثيف من ابتكار عناصر ميكانيكيّة مع الحضور الدائم لمركزيّة الجسد، كترميز لعالم الآلة واستباقية العلم في تاريخ الانسان المعاصر. في مجاز آخر، تتراءى الآلة شبيهة بالجسد، ويعدو الجسد أن يكون آلة، من منظور ديكارت، هو “آلة صنعتها يد الله”(2). إنّ فعل الحركة والديناميكية كان حاضرا بقوة في محفورة كمال عبد الله، مشاهد مشحونة بالطاقة والحيوية وبهاجس الحلم الثائر والروح المتحرّرة.
يترك فعل التهجين والفتك والتشويه، آثاره على الجسد والوجه، كلغة احتجاجيّة وتصويرية ثائرة، نتأمّل تفاصيل الرؤوس والملامح والعضلات المحوّرة، في نطاق سريالي يعبث بالواقع والمستهلك والجاهز، ويصوّر القبح في بعده الجمالي، من منظار استفزازي للعين والفكر وهدم للطابع الحكائي، يختفي القبح وينبري الجمال حينما نستشعر إحساسا بالقوة والشجاعة والنخوة، على حد قول نيتشه (3)، ويستنطقه كمال عبد الله في حركيّة الأجساد الثائرة، من خلال تفعيل تقنية الحفر الغائر كالحمضيات المنقوشة والمساحية والابرة الجافّة، واعتماد الأحبار القاتمة السوداء، في إثارة مشاهد ملحمية تضج بالحركة، تسطع من بياض ناصع وسواد حالك بتدرّجاته ورماديّاته، وتنتفض في آثار الخطوط الخشنة والرقيقة، والتباينات الضوئية الحادّة، من خلال التلاعب بأحجام المساحات السوداء والبيضاء، وتمرير الخدوش المتنوّعة في الكثافة والصلابة وذلك حسب متطلّبات الشكل والتركيب. يقول نيغري: “إن الفن هو الحياة، التجسّد والعمل. لم يعد الفن خاتمة إنّما صار مقدّمة. إنّه بدون فرح وبدون شعر لن يكون ثمة ثورة. لأن الفن مرّة أخرى قد استبق على الثورة.” (4). تنبع روح المقاومة من الكينونة وتتمظهر في أشكال ورموز، يصبح الفن في محفورة كمال عبد الله فعل مقاومة وحافز للعمل والحياة، بل شكل من أشكال الفرح وثورة يقودها الشكل واللون والتقنية.
البارا – تشخيصية، التشخيصية الأخرى، شخوص وكائنات تأتينا من الدوائر وتنبثق من بيض وثقوب، عجائبيّة مجنّحة، متمرّدة وثائرة، في حركة مستمرّة ووضعيات متشابهة، متفجّرة في اللوحة، منتشرة، مكتسحة الفضاء التشكيلي والفضاء المُتخيَّل للشاهد، تأتي من محمل مُسطّح وتسكن المُخيّلة، تُربك العين وتعبث بالهدوء الساكن فينا، تشخيصيّة مُغايرة، مُخالفة ومُغامرة، تغمرنا بالأسئلة والهواجس.
يعرض كمال عبد الله أعماله منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، وهو الأستاذ الجامعي بالمعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس، شهدت له تونس وبلدان أجنبية معارض جماعيّة وفرديّة، في الرسم والحفر، وذلك على امتداد مسيرته الفنية، ويعتبر كمال عبد الله من القلائل الدؤوبين على ممارسة تقنية الحفر التقليدية، التي تتميّز، على الرغم من محدوديّة انتاجها في تونس وقلّة ممارسيها، ثراءً أسلوبيّا وتقنيا ومشهديّة متفرّدة على الساحة التشكيلية.
المراجع:
-
إلياد (ميرسيا) “الأساطير والأحلام والأسرار”، ترجمة: حسيب كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة السورية – دمشق – 2004. ص 170.
-
Descartes (René), discours de la méthode, cinquième partie, librairie philosophique J.Varin, paris, 1 1992, p 120.
3.”فحيثما يغدو المرء منهارًا، يستشعر حتمًا قرب شيء “قبيح”. فإحساسه بالقوة، وإرادة القوة لديه، وشجاعته ونخوته كلها تنهار مع القبح، وتعرف ارتفاعًا مع الجمال”، الفن والجمال عند نيتشه، أحمد بادغيش، مقال منشور بموقع ساقية.
http://www.saqya.com/tag/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A8%D8%AD/
-
Negri (Antonio), Art et Multitude, neufs Lettres sur l’art suivies de Métamorphose, Traduit de l’italien par J.Revel, N.Guilhot, X. Leconte et N. Sels, Paris, Ed. Mille et une nuit. 2009. p117