العنف اللغوي..ردود الفعل على وفاة نوال السعداوي

  • عمر الردّاد

شهدت مواقع التواصل الاجتماعي جدالات واسعة، بعد الإعلان عن وفاة الطبيبة والكاتبة المصرية نوال السعداوي عن عمر يناهز الـ90 عاماً، ويبدو أنّه لم يكن مستغرباً أن تعجّ مواقع التواصل الاجتماعي بإعادة إنتاج مقارباتها ومقولاتها الخلافية، التي أثارت إشكاليات بين مؤيدين ومعارضين لها، لا سيّما أنّها خاضت في رحاب المسكوت عنه لفضاءاته المرتبطة بالمرأة وحقوقها، والمقدّس الديني، ومن مرجعيات وبمخرجات ربما كانت صادمة.

غير أنّ ما يلفت النظر هو مستويات العنف اللغوي التي استخدمت في تعليقات شهدتها بعض مواقع التواصل “تويتر وفيسبوك” بإسباغ أوصاف عليها لا تتوقف عند حدود تكفيرها، بل وإصدار أحكام عليها، ومن منطلقاتها الفكرية التي تقوم على أساس من المساواة والنسوية الحديثة التي واجهت خطاباً ذكورياً عربياً راسخاً، وما السعداوي سوى معول أمام سلاسل جبلية من الذكورية المتجذّرة في الميراث وحقوق العمل وحرّيات الجسد والاعتقاد، فقد كان لافتاً إنكار مجرّد الترحّم على المذكورة، رغم أنّها قضت نحبها، بل إنّ أوصافاً أسبغت عليها، فهي “المقبورة، الهالكة، الكافرة، الملحدة، الشاذة، إلى نار جهنم… إلخ”، ناهيك عن التشفي بموتها.

ولأنّ النصوص اللغوية التي تتضمنها التعليقات والمشاركات عبر مواقع التواصل لم تعد نصوصاً تخضع للتحرير والتقليب والترميز، لذلك فعند تحليل خطابها نجد أنفسنا أمام رؤية لغوية صادرة مباشرة عن طبقاتنا الاجتماعية والمهنية، على تعدّدها وتنوّعها، فالنصّ اللغوي أصبح مفتاحاً لقراءة الواقع الاجتماعي، وممثلاً له وليس مرآته، ما سمح لهذا العنف اللغوي أن يظهر وينتشر في التعليقات والتغريدات عبر قنوات اتصال متنوّعة، فأبرزت ما تخفيه قطاعات عديدة من أنساق باتت تشكّل أفكاراً كبرى، تستبطن “التطرّف” القار في بعض النفوس، وتطرح مجدداً مقاربات اجتماعية تزعم أنه ما زال هناك فجوات عميقة بين البنى السطحية وقيمها من “الحرّية والديمقراطية وحقوق الإنسان”، والبنى العميقة ذات الشدّ العكسي التي تلتوي على رفض للمختلف وشيطنته وإقصائه و”قتله” إن لزم الأمر.

واستناداً لمقولات إنّ علاقة اللغة بالمجتمع هي تأثير وتأثر، ومن خلالها يستطيع الإنسان التعبير عن مكنوناته وخباياه الداخلية، وأن يخرجها إلى البيئة والوسط الاجتماعي المتواجد فيه، فإنّ مفردات القاموس الذي استخدم في السباب وشتم السعداوي يكشف عن تنمّر متزايد للوجه الأسود من اللغة، ويشكّل اختباراً لمقولاتنا الخاصّة بمدى اعترافنا بالآخر وقبولنا بالتعددية، ويعيد سؤال الهوية وجنسانيتها، فاللغة “أيّ لغة” هي العنصر الأساسي في تشكّل الثقافة، وهي عنوان التجليات الثقافية المشكّلة للمجتمع.

بيد أنّ ما ينبغي التوقف عنده مليّاً، هو أنّه إذا كانت قطاعات شعبية قد قالت ما قالته في السعداوي، وبانتقائية مقصودة، اختزلت مقارباتها بمواقفها من التأويلات الدينية بتأثير من المؤسسات الدينية، وتجاوزت مطالباتها الخاصّة باحترام المرأة وحقوقها، فقد كان لافتاً أن ينخرط أساتذة جامعيون وأوساط نخبوية من المثقفين في تلك الجدالات، غابت عنهم صفة الأكاديمي الموضوعي الذي يفترض أن يتوخّى دقة العبارة، بمن فيهم مختصّون في علوم اللغة.

إنّ الاحتكام لمقاربات المفاصلة وضيق الأفق ورؤية العالم بين مقدّس ومدنّس تعكس صورة المشهد الثقافي العربي البائسة، وربما تفسّر هذا العنف اللغوي بمرجعيتين؛ الأولى: حالة الضيق التي تعيشها المجتمعات العربية، جرّاء انخفاض منسوب الديمقراطية أو انعدامها في المجتمعات والدول، والثاني: السلطة التي ما زالت فاعلة للأنساق المضمرة بمرجعياتها الدينية والاجتماعية، التي تستند لتأويلات أحادية لطالما ظلت ذكورية وإقصائية في آنٍ واحد، وهو ما يذكّرنا بما وقعت في خطيئته التنظيمات الجهادية، تلك التأويلات التي تطرح تساؤلات حول حقيقة إيماننا بتعاليم ديننا الحنيف بالرحمة والتسامح، والمدى الذي وصلت إليه المجتمعات العربية في تسيّد خطاب الكراهية بمفرداته، خاصّة أنّ عنف اللغة بعد وفاة السعداوي غير معزول عن المفهوم العام للعنف والتطرّف، وكأننا ما زلنا في مربّعنا الأوّل، بل إننا حتى لم نشعل شمعة في الظلام، ولم نُولِّ وجوهنا للشمس في مشرقها.

  • كاتب وباحث من الأردن

  • * عن موقع حفريات

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *