مِقَصُّ الشّجر

( ثقافات )

*أماني سليمان داود

نقلناه إلى البيت، لم يتبقّ ما يمكن تقديمه له هناك، “عليكم بالتكفّل به، حتى يشاء الله أمرا”، أجمعتْ المستشفياتُ حتى الخاصّ منها على هذه الإجابة، لم يكن في اليد حيلة، بلسانٍ معقود، وروحٍ صامتة، حُمل الجسد إلى البيت، جسدٌ ثقيل ليس ثمة حياة فيه سوى ما يتبقى للمرء من أنفاس، أين يهيم صاحبه؟!!، أتأمله ولا يتحرك لساني بأدنى كلمة، تختلط عواطفي تجاه الجسد والحياة والموت، وتجاه كل شيء، وأرتبكُ أمام فكرة جسدٍ معلَّقٍ لا هو بالحيّ ولا بالميت، لا يمارس الوجود، ومحظورٌ أن يوضع في قبر، فثمة أنفاس ما تزال تحُول دون مَنْحِه صفة ميت، وما زالت شهادةُ التعريف به هي شهادةُ الميلاد، لا شهادةُ الوفاة.

كل شيء يحتاج إلى شهادة، فكرتُ، إن الأمر يستدعي السخرية المُرة، فكّرتُ أيضا، وارتبكتُ أمام الضيوف الذين توافدوا في البداية لمواساة أمي والدعاء له بالشفاء العاجل، ضيوفٌ لم يطل ترددهم على البيت، إذ سرعان ما انفضّوا أمام حالةٍ تقف في منطقة وسطى، وراح بالكاد يزورنا أحد، ولستُ أدري إنْ تذكّره أحدٌ بعد ذلك أو تذكَّرَنا، والأغلب أننا ولجنا بوّابة النسيان، سمعتُ البعض يدعو الله أن يختار له الأفضل، عرفتُ في قرارة نفسي، أن الأفضل لنا أن يغادر بسلام بعد أن أوجَعَ قلبَ أمي وأوصلَها إلى حالة التردّي. لم أستطع أنْ أعلن أمامها أنه مجرّد عملٍ غير صالح، أتعبها بصحوه وبمرضه، ولم أعد أسمع أمي تدعو بأن يستعيد وعيه، ويستفيق من غيبوبة غامضة طالت لبضعة أشهر، مالت إلى الصمت، لكنها حافظت على ثباتها وقوّتها كي تتمكن من خدمته، ولم تعد تشكو وجَع الرِّجلين، وارتفاعَ الضغط.

خشيتُ عليها هذا الصمت، وحسبتُ أنها ستنفجر في أية لحظة ولأي سبب وعلى أي أمر صغير، لكنها لم تفعل، ظلتْ مواظبة على قيام الليل، والجلوس على سجادة الصلاة لأوقات طويلة صافنة في الجدار أمامها، وكلما صحوتُ ورأيتها على هذا النحو نهضتُ بسرعة أهزّها ويدي على قلبي، فتنظر إليّ دون أن تتوقف عن تحريك فمها وأصابعها، أطمئن، وأعود إلى فراشي.

لم أخش على الجسد الذي يشاركنا الأنفاس في البيت بقدر ما خشيت على أمي وأنا أحسبها تذبل يوماً بعد يوم، رأيتُ عروقاً تنفر من وجهها ومن يديها، وغدتْ مع الوقت أشبه بفروع الشجرة التي طالما تسلّقتُها أمام بيتنا، ورغم كل ذلك لم أجرؤ على فتح موضوع يتعلّق بقرار إزالة أجهزة التنفس عنه، لم أجرؤ على ذلك في المستشفى إذ حين لمحتْ أمي بوادر قبول في وجهي عند اجتماع الأطباء بنا لأخذ الرأي، جنّ جنونها ولم أنبس بعدُ ببنت شفة، فكيف يمكنني الآن وأنا أراها تتحولّ إلى شجرة وتعتاد مَنْحَ ظلِّها إلى ابنها وحراسةَ أنفاسه التي ظنّت أنها يمكن أن لا تكون أخيرة؟!!، سيكون مجرد التفكير بذلك مدعاة لنعتي بالمجرمة!!.

 حافظتْ أمي على ترتيب غرفته، وأصبتُ بالعجب كلما دخلتُ غرفته مساء فرأيتُ فيها الفوضى ذاتها التي كان يشعلها قبل غيابه في إغماءته الطويلة، وزدتُ استهجانا من مواظبة أمي في ساعات الصباح على ترتيب تلك الغرفة، راقبتها يوماً لأكتشف أنها تدخل عند الغروب يومياً فتزيح كل شيء من مكانه المعتاد تقذف بعض الأغطية إلى الأرض، تنثر الأوراق وتملأ السلة بمحارم الفاين وتشعل السجائر فتنفث في كل سيجارة قليلاً ثم تملأ المنافض ببقاياها وتترك المكان يعبق برائحة الفوضى، لتقوم في صباح اليوم التالي بإزالة كل ذلك، تفتح النوافذ، تأتي بالمكنسة الكهربائية، فتشغّلها وهي تبرطم بصوت مرتفع موجِّهة الكلامَ لأخي: ألن تكفَّ عن هذه الفوضى؟!!، ألن تتعلَّم وقد صرتَ كبيراً ترتيبَ غرفتك؟!!، ألن تتوب عن إشعال السجائر في غرف النوم، ومَلْء البيت بالسموم؟!!، لا أمل فيك!!. تجمع الأوساخ وتنفض الأغطية وترتّب السرير حوله، وتقوم بما يحتاجه من عنايةٍ وتصليحٍ لأجهزة التنفس التي تحيط بفمه ووجهه، تقف عند الباب فتنظر إليه، ثم تجهش ببكاء حار، وتغلق الغرفة عليه.

هالني أنّ أمي تتحوّل إلى كائنٍ خرافيّ، فعدا عن تحوُّل جسدها إلى جذع شجرة، ويديها إلى فروع لهذه الشجرة، أحسستُ بأنّ مَسّا أصابها، فهي لا تغيب عن الوجود وقت قيام الليل وحسب، بل أعود من عملي فأراها قد قرّبتْ مقعداً من أخي، وراحت تقرأ بصوت عالٍ أجزاء من الكتب والمجلات التي طالما تحرّجتْ من مواظبته على اقتنائها، تفتح مجلات عن عارضات الأزياء فتسرد له آخر أخبارهنّ، وآخر صرعات عروضهنّ، وتحاول أن تقرّب الصفحات الملونة الممتلئة بصورهنّ، فتضعها قبالة عينيه المغمضتين، وتُبدي رأيها معجبة بهذه أو مستاءة من تلك، كما تفتح له آلة التسجيل التي كثيراً ما تعاركتْ معه على صوتها الذي يجلجل بآخر صرعات موسيقى الراب بحيث يُسمع الحارة عن بكرة أبيها دون أن يحفل بأحد، تفتحها له على أعلى موجة، وتعتذر له آسفة بأنّ هذا آخر مدى للصوت.

أصِلُ من شغلي، فأراها قد أعدّتْ وجبات الطعام المعتادة، لكنها قد عَنَّت نفسَها بعمل أطباق خاصة كان يطلبها منها بشكل يومي دون أن يعبأ بإجهادها أو يقبل بأن يتناول طعامنا الذي يُبدي مَقْته منه وترفّعه عنه، أرى وجباته كالمعتاد مرتّبة على الطاولة قرب سريره، حيث تظلّ مكانها حتى صباح اليوم التالي حين تقوم أمي بتوضيب غرفته.

وحين يصدف أن يأتي أحدٌ لزيارتنا ممن لم ييأسوا من حالة أمي وهذا نادر، تعود فتحدّث ضيفها عن عادات أخي الكريهة، وكسله، وعدم رغبته بالعمل، وضياع حاله، تبكي وتشكو أنه غدا في الأربعين ولم يفكر بالزواج، يحرك رأسه متأثرا، ثم حين ينهض مودِّعاً، يشدُّ على يديَّ ويقرّب وجهه من أذني هامساً: اعتني بأمِّكِ.

لم يطل الأمر على أية حال، انفضّ الجميع عن بيتنا حتى أقرب المقرَّبين، أخرُج إلى العمل وحالي لا تسرّ صديقاً ولا عدوّاً، يسألني الكثير ما بال روحي المرحة قد غارت في مكان بعيد، يهدهد بعضهم على ظهري ظانّين بأنني أعبر قصة حبٍّ فاشلة، يقولون إن القسمة والنصيب مسألة في يد الله وحده، وهم يتهامسون من خلفي ويتبادلون النّظرات، لم يعلم أحد أن شجرةً في بيتي تفرّعتْ أكثر وأكثر، حتى ضاق البيتُ بها.

 عدت مرة من عملي، فاستقبلتني أمي وفي يدها مِقَصّ الشجر، وما أن ولجتُ البيت حتى مدّت يدها به قائلة: قلّميني، سحبتُ المِقَصَّ من يدها فورا، أسرعتُ أخبئه بعيداً عن متناوَلها، خشيتُ أن تؤذي به نفسَها، أخذتْ تشرح لي بأنّ عليَّ أن أقلِّم أصابع يديها ورجليها، كي تقوى أكثر وتنهض وتخضرّ، فما كان مني إلا أن نظرتُ في وجهها وبلعتُ ريقي وضممتُها إلى صدري.

في الواقع فقدتُ قدرتي على البكاء، فقد احتبستْ دموعي وضنّتْ عليَّ ببضع قطرات تخفف وجع قلبي الذي بدأ يدقّ على نحو مضطرب بين الفينة والأخرى، وأخذتْ أنفاسي تضيق كلما رأيتُ أمي تدخل مساءً غرفة أخي فتعيث فيها الفوضى، وتدخلها صباحاً لتصلح ما أعملته يداها.

تباعدت صفنات أمي الطويلة في صلاة قيام الليل عن بعضها، قلّ استيقاظها في الثلث الأخير قرب الفجر، وراحت تغطُّ في نوبات نومٍ عميقة، وبعد أن كان نومها هادئاً خفيفاً، تصحو فيه عند أدنى حركة مني إلى جوارها في السرير، شرعتْ تشخر بصوت منفّر، يتحشرج فيه صوتها كأنها تدخّن الحشيش منذ سنوات.

أدمنت أمي دخان أخي، وصارت تحدّثني ببهجةٍ وهي تجلس في غرفة المعيشة رِجلا على رِجْل، تشاهد البرامج الزراعية، خصوصاً تلك التي تعلِّم تقليم الأشجار وتركيبها، تنفث الدخان وتأكل من الأطباق التي تصنعها خصيصاً لأخي، ثم تقوم فتضع بقاياها في غرفته، مع منفضة الدخان، وتروح إلى النوم.

لم تعد تنام إلا وآلة التسجيل تلعلع جوار سريرها بموسيقى الراب، تغيّرَ مزاج أمي، وباتت كثيرة الثرثرة، تتقلَّب بين مواضيع شتى لا أدري من أين تختلقها؟! بيْدَ أن حالاتها لم تكن تستمر لفترات طويلة، كل حالة غريبة تتلبّسها لبضعة أسابيع، ثم تنقلب إلى حالة غريبة جديدة لا أدري من أين استقتها؟!، وأي عقل لها أتى بها؟!.

لم تكفّ عن الشكوى بأن فروع أغصانها قد طالت، وأن عَلَيَّ أن أبادر بتقليمها، لكنّ أمراً لم يخطر على بالي انضاف إلى ذلك، إذ فاجأتني مرة بقولها: أنا لا أثمر، وعليك بقلعي؛ فالشجرة التي لا تثمر حلالٌ قطعها، ركبني القلقُ كلما خرجتُ من البيت؛ فهي تظنّ نفسها شجرة وعليها أن تثمر كي تستحق البقاء؟!.

 لم تعد أمي تتحدث عن أخي أمامي وإن كانت مستمرة في خدمته كما لو كانت ممرضة خاصة ذات خبرة طويلة، ولم يتغير الحال عليه كثيرا، فتقارير الأطباء لم تُعْطِ أيَّ جديد ولم تُسْدِ أيّ نصيحة مفيدة، عبرتْ الشهور ببطء ولم يعد لشيء معنى في حياتنا، لم تكفّ أمي عن الحديث والثرثرة، غير أنها باتت تتحدث دون أن تتعمد توجيه الكلام لي، ولم يعد يهمها إن انشغلتُ ببعض متطلبات العمل أثناء حديثها كالسابق، طوال الوقت تحاور أحداً أمامها تراه ولا أراه، أحاول اجترار أنفاسي بصعوبة، تدخّن بشراهة وتضحك أحيانا، وأحيانا أراها تسمع موسيقى الراب وهي تطبخ بعض الأطباق الخاصة لأخي.

ضاق أصحاب العمل بي، ووصلني أكثر من كتاب تنبيه يشير إلى إهمالي وعدم قيامي بالأعمال الموكلة إليّ كما ينبغي، وصلتُ الحدّ الأقصى في التسيّب دون أن أحسّ، ولم يشفع لي ذكائي وإنجازاتي السابقة، وبتُّ مهددة بتسريحي من العمل، ما أسعد الكثير من زملائي الذين طالما تطلّعوا إلى نيل مُسمّايَ الوظيفي، لم يقصّروا البتة في خلْق صراعات وهمية، دسّوا الفتن عن زلّاتي كي يتمكنوا من تحقيق مآربهم، لم أشكُ، ولم أتذمّر، ولم يعلم أحدٌ بأن أخي معلّق بين دربين وأن أمي شجرة تنتظر أن تحمل ثمرا، لكنهم علموا بكل ذلك حين نِمْتُ إلى جوارها يوماً على أنغام الراب، وكانت سعيدةً ليلتها لأنني وعدتُها بتقليم فروعها صباحا، لكنني للأسف لم أوفِ بوعدي، فقد مِتُّ في نفس الليلة.

  • أديبة وأكاديمية من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *