إبراهيم خليل في قراءته “الحَوْلَاء” لروايتي “حيوات سحيقة”

إبراهيم خليل في قراءته “الحَوْلَاء” لروايتي “حيوات سحيقة”

فرق هائل بين “الناقد” المُخلص و”الناقم” المُتربّص

  

  • يحيى القيسي

قرأت ما كتبه د. إبراهيم خليل في ملحق “الدستور الثقافي” الصادر يوم السبت 12 آذار الجاري، عن روايتي الأخيرة بعنوان “حيوات سحيقة ليحيى القيسي والمنحى الإشراقي في السرد الروائي”، وقد انطوت القراءة على مُغالطات كثيرة، وأخطاء وفيرة، تنمُّ عن العَمى النقْدي، والقراءة الحولاء للنّص، لهذا وجب منّي الردّ عليه، لبيان ما وقع فيه، رغم أنّي لا أحبّ السِجال ولا الجِدال، لكنّي رغبت بكتابة هذا المقال حتى يطلع عليه القراء والباحثون والنقاد، بعد قراءة الرواية، ثم قراءة مقال خليل، كي يكتشفوا بأنفسهم مقدار التضليل الذي يمكن أن يقوم به “الناقد”، أو “الناقم” حينما يكتب خبط عشواء، أو تخونه أمانته النقدية، أو تُسيطر عليه ضحالته الفكرية.

العنوان الكبير عن “المنحى الإشراقي في السرد الروائي” الذي استبشرت به لم يأخذ من الناقد في مقالته إلا سطراً واحداً في النهاية، إذ يتناول لغة السرد فقط ويقول ” فهو ينحو فيها منحىً إشراقيا، عِرفانياً، ينمّ على إدامة النظر في كتب التراث، ولا سيما كتب التصوف”.

والسؤال هنا أين دراستك للمنحى الإشراقي في الرواية يا رجل؟، وكيف تقوم بتضليل القُرّاء والدارسين بكتابة عنوان ما، وتكتفي بسطر واحد عنه؟ وأين الأمانة في النقد؟ ثم أين المشكلة في أنني أقوم بتوظيف لغة المُتصوفة، أو النهل من التراث العرفاني؟!، ومن قال لك إنني أفعل ذلك بسبب إدامة النظر في الكتب..؟!

لو قرأت رواياتي الأخرى التي سبقت هذه الرواية لعرفت شيئاً عن تطوّر تجربتي الروحية، وانغماسي الحقيقي في التصوّف الفكري، وليس اللغة فقط؟ لكنّي أود تذكيرك بأنك لم تكلف نفسك قراءة هذه الروايات، أو حتى الحصول على النسخ المهداة لك منّي شخصياً التي وضعتها لك في بيت أحد الأصدقاء منذ أكثر من خمس سنوات، وما تزال هناك كما علمت، إضافة إلى أننا لم نلتق أيضاً منذ أكثر من عشرين سنة تقريباً حتى تكتشف بنفسك ربّما انشغالاتي الروحية، وأن ما أكتبه خلاصة تجربتي الخاصة، وليس لأنني أديم النظر في كتب المتصوّفة.

المهم أنّ ما يخلص إليه خليل في مقالته “العظيمة” يكتبه أيضاً في سطر واحد في نهاية المقال”:

“فالقيسي في روايته هذه يستهدفُ النُخبة، لا القراء العاديّين، مع أنّ الرواية – أساسًا- تستهدفُ القارئ العادي في رأي فرجينيا وولف”.

الحمدلله على هذا الاكتشاف الهائل بأنني أستهدف النخبة لا القراء العاديين، وحتى هذا الرأي أخذته بنفسك اقتباساً من فرجينيا وولف، كأنك بذلك تنفي أن يكون هذا الرأي خلاصة ما توصلت إليه، وبالتالي من الواضح أنّ الرواية لم تنل القراءة العميقة منك، ربما بسبب أنك لا تنتمي إلى هذه النُخبة مع مثل هذا النقد الذي يشبه حاطب ليل، ويأخذ من الرواية القشور الظاهرية، ويتغاضى عن القراءة المعمّقة للجانب العِرفاني، أو حتى اللغة نفسها، أو تقنيات السرد، أو غيرها مما ينتظر الروائي من الناقد أن يغوص بها، ويضيء مجاهلها، علماً بأن اقتباسك من فرجينيا وولف غير دقيق، فلو أردت أن أعدد لك عشرات الروائيين من العرب والأجانب الذين لا يرون أن على الرواية أن تتوجه إلى القراء العاديين لما اتسع المقام هنا.

في كل الأحوال سأورد هنا بعض الأمثلة من مقال خليل تكشف تهافت النقد، وقصور القراءة لهذه الرواية حتى لا أظلمه:

المثال الأول: يقول خليل عن شخصية الرواية “صالح” إنه رافق فريقاً تلفزيونيا “ ليصوّر فيلما عن رحلات السويسري بيركهارت عام 1812 إلى تمبكتو مرورا باسطمبول فحلب، فشرق الأردن الذي اكتشف في جنوبه مدينة بترا. (ص8).

لا يوجد في صفحة 8 المشار إليها كلمة “اسطمبول”،  ولا “شرق الأردن” على الإطلاق، فكيف سمح لنفسه بالاجتهاد في شيء لم أورده، فالرواية دقيقة جداً، وتغيير أي كلمة أو تبديل مواضعها يعني تغيير المعنى، وهذا نوع من التضليل للقارىء.

المثال الثاني: بخصوص الممرضة النيوزلاندية ماغي التي تزوجت بدوياً من البتراء، فهذا الجزء من الرواية مبني على وقائع حقيقية وبحث، فأنا أؤمن بالرواية التي تقدم معرفة وليس حكاية فحسب، وهناك روايات كثيرة مبنية على بحوث معمقة، وقراءات كثيفة، مثل أعمال دان براون، وباولو كويلو، وجمال الغيطاني.. وغيرهم، وقد أوردت اسم السيدة النيوزلاندية كاملاً واسم كتابها أيضا في الهامش ليرجع إليه من يشاء، وقصة زواج ماغي بأردني من البدول في البتراء معروفة أيضا، ولكن انظروا ما كتب خليل في مقاله:

“هنا لم يذكر الكاتب كيف اتفق لهما ذلك مع ما بين الاثنين من تباين في العرق والثقافة والدين والمستوى الحضاري”.

حكاية السيدة ماغي بالنسبة لي حكاية فرعية ترفد الحبكة الأساسية، ومع ذلك أوضحت الكثير من التفاصيل القائمة على الواقع في الصفحتين 15 و16 من الرواية، لكن يبدو أن خليل يقرأ تصفّحاً وليس تعمّقاً، وإلا لكان قرأ اسم السيدة كاملاً، واسم زوجها واسم الكتاب، وكان بامكانه التأكد من الأمر عبر تصفح الانترنت قليلاً إن أحبّ الاستزادة، ومعرفة أن هذا الكتاب ترجم إلى عشرات اللغات، ثم هل هذه النيوزلندية هي أول امرأة غربية تتزوج من عربي أو حتى بدوي حتى تشكك بالأمر؟! يا رجل هناك آلاف النساء الغربيات المتزوجات من أردنيين وسورييين وعراقيين ..الخ..!

لاحظوا أنه في جزء آخر من المقال يعود للتساؤل الساذج نفسه:

” فوق هذا لا بد من إقناع القارئ بأن السيدة ماغي وجدت فعلا ما يحفزها على ذلك الهيام والشغف غير المتوقع بمن تزوجته، وما هي درجة العشق التي تدفع بها للتخلي عن بلادها، وعن أهلها، والعيش وحيدة غريبة بين آثار الأنباط ، وخرائب الأعراب”.

المثال الثالث: يقول خليل إن هناك “ثغرة كبيرة في الرواية” وهي أن فريق العمل التلفزي لم يسأل عن زميلهم الذي سقط من الجبل، مع أنهم يملكون هواتف خلوية، وبالطبع ربما لم يقرأ بالتفصيل الدقيق أيضاً أنني أوضحت أن “صالح” انتبذ مكاناً بعيداً عن الفريق أولاً، وحين زلت قدمه وسقط وهو يقوم بالتصوير من خلال هاتفه النقال للحظات الغروب، ضاع ذلك الهاتف أيضاً وربما هوى إلى الوادي السحيق، فبالله عليك كيف سيتم التواصل معه؟ وأين النقد العظيم في مثل هذه الملاحظات المتهافتة، والتي تراها ثغرة كبيرة في “المنحى الإشراقي للرواية”..!

هذه مسائل قد تصلح للنقاش في شركات الاتصالات ولدى محققي الأمن وليس في مقال نقدي…!

المثال الرابع: يقول خليل إنّ مشهد انقاذ “صالح” من الجبل هو “مشهد دراماتيكي يُذكرنا بالأفلام الهوليوديّة”، ومن يقرأ الرواية يعرف أنه مشهد عادي يقوم به رجال الدفاع المدني في الأردن بشكل يومي، وليس قادماً من أفلام هوليود، أي انقاذ رجل من مرتفع جبلي باستخدام طائرة الهيلوكبتر ورجال يتدلون من حبال، فلو قرأه خليل بنيّة عادية غير مبيّتة للتربّص بالرواية لأدرك أنّه ليس مما يدخل في باب النقد أساساً، ولا يتحمل الروائي وزره، كخلل في بنية الرواية أو المبالغة الدراماتيكية لمشهد عادي.

المثال الخامس:  يقول خليل إنّ “صالح” نصح بالعودة إلى الزرقاء “حيث أمه وأخوه محمود وأخوه حسن يعتنون به إلى أن يبرأ”. وهذا أيضا جزء من “القراءة الحولاء” فلا يوجد ذكر في الرواية لأخيه محمود وأنّه كان يعيش معهم، بل كما أوضحت في الرواية يعيش خارج الزرقاء نتيجة عمله في الأمن، فكيف سمح الناقد الجهبذ لنفسه بمثل هذا التضليل للقارىء وإيراد ما لم يرد..!

المثال السادس: أورد خليل أيضاً في قراءته ما يلي:

” فقد صدرت الإشارات من النمس لمجاهدة الطغمة الكافرة بدمشق، والرافضة في العراق

والحقيقة لا توجد في الرواية أية عبارة أو إشارة لـ “الطغمة الكافرة في دمشق” أو “الرافضة في العراق”، وهي اجتهادات شخصية من خليل يريد أن يضعها على لسان  الجهادي “النمس” أو يقول إنها وردت في الرواية، وهذا أيضاً يدخل في جانب التضليل للقارىء، وتحريف الكلم عن مواضعه، وأتحدّاه بالطبع أن يوضح للقراء في أي الصفحات وردت مثل هذه العبارات التي افتراها؟

المثال السابع: يرى خليل أنني أخطأت في الآية القرآنية التي أوردها في المثال التالي له:

“حتى إن دعوة نوح ابنه ليركب معهم في الفلك خوطبَ بها صالح « يا بني اركب معنا ولا تكن من المغرقين” وهذا غير دقيق (مع الكافرين: هود، الآية: 43).

والذي أوردته في الرواية ليس على لسان نوح النبي نفسه، بل على أساس شخصية متخيّلة، وبالتالي لم أذكر أن الله قال في القرآن ذلك حتى يحسب لي خطأ في النقل، لاحظوا النص الأصلي واحكموا بأنفسكم:

وثمّة شيخ جليل في تلك السفينة يناديه بأعلى صوته “يا بني اركب معنا ولا تكن من المغرقين” ص 138.

فالسرد هنا انثيالات من تخيلات الشخصية الرئيسة في الرواية “صالح” أو انفتاحه على حيوات سحيقة قادمة من عصور غابرة، ولا ذكر هنا لنوح عليه السلام، ولم أقل إن القرآن يقول كذا وكذا حتى يرى الناقد أنني أخطأت في نقل الآية، وكان يجب أن أضع كلمة “الكافرين” بدل “المغرقين”، فالروائي يحقّ له التناص، أو التأثر بالنص القرآني بالطريقة التي يراها غير مخلة ما دام أنها لا تذكر صراحة أنها من القرآن، علما أنّ كلمة “المغرقين” وردت أيضاً في سياق قصة نوح عليه السلام وابنه، فعلى أي أساس قام الناقد بتسجيل هذه الملاحظة إذن؟

المثال الثامن: يأخذ خليل عليّ ذكري لتفاصيل عن الزرقاء في الرواية وأنه لا ضرورة لذلك، والحجّة في بقوله “فمن منا لا يعرف الزرقاء ثاني مدينة من حيث عدد السكان”؟.

في الحقيقة هذا أمر مستغرب، فما كتبته عن الزرقاء جاء في سياق وصف طبيعة المدينة التي شكلت الشخصية الرئيسة “صالح”، وساهمت في ظهور التطرّف أيضاً لبعض أفرادها، وليس كل القراء يعرفون الزرقاء مثل ما تعرف يا دكتور، فأنت أحد أبنائها، وربّما يقرأ الرواية من هو في المغرب أو المهجر من بلاد العالم، ولم يسمع بالزرقاء من قبل، فهل تفترض أنني كتبت الرواية لأبناء الزرقاء مثلاً، ثم إذا كنت لا ترى فيما ذكرته من ضرورة، فهذا يقع ضمن بقية ما أشرت إليه في مقالك من أفكار، من الصعب في هذا المقام الردّ عليها، ومن ذلك أن حكاية النمس لو شطبناها من الرواية لا تؤثر، وأنّ “صالح ” مريض نفسي أو مجنون بحاجة إلى معالجة، وما الفائدة من بحوثه حول جذور التطرف في تراثنا وما إلى ذلك من أمثلة كثيرة تحتاج إلى دراسة طويلة للرد عليها أتركها أمانة في أعناق المتخصصين الصادقين والباحثين المخلصين.

وأكتفي بما أوردته هنا من أمثلة جليّة تؤشّر بشكل صارخ على أن الرجل لم يقرأ الرواية بتعمّق، ولا بصدر مفتوح على المعرفة، بل برؤية مسبقة لا أدري دوافعها، ولقد كنت سعيداً أنك لم تكتب عني حرفاً واحداً عبر مسيرتك “النقدية” الطويلة، فلما كتبت أخيراً كنت كمن صمت دهراً ونطق كفراً، وأترك الأمر كما أشرت من قبل للقرّاء الذين يقرأون بقلب مفتوح، وللنقاد الأنقياء، وللتاريخ.

“فأمّا الزبد فيذهب جفاء”.

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *