لطفية الدليمي*
(ثقافات)
قراءة انطباعية لـقصيدة ( رحلوا إلى الماضي بدوني)
لست سوى قارئة مولعة بالشعر، أتقصى روح النص –وأنا أجوب مدائن الشعر – تبهرني التماعات شعرية تشع وسط المتاهات ، أو أكتشف قصيدة مستوحدة قائمة كصرح جمالي يؤهلها لتكون مكتفية بذاتها ووهجها العرفاني، ـوقصيدة ( رحلوا إلى الماضي بدوني ) آخر قصائد مجموعة ( زلة أخرى للحكمة ) للشاعر جريس سماوي من هذه القصائد التي تشكل برأيي حضورا ضوئيا وتمتاز عن قصائد المجموعة بسطو عنبرتها الكونية والتوافق الهارموني بين الأصوات الصادحة والأخرى شديدة الخفوت والتضاد بين الصور الحية صاخبة الألوان والأخرى الرمادية الموشكة على الزوال في المشهد الرعوي الأسطوري ..
ترثي القصيدة هوية زمن وبشر وروح أمكنة وتستعيد فراديس الذاكرة الكونية المبددة برحلة مضادة نحو الماضي و تتوالى المشاهد بتقطيع سينمائي بارع لتضعنا إزاء بداهات الحياة البكر على أرض الرعاة والحراثين والأنبياء ..
هذه القصيدة الأسيانة الشجية مثيل ترانيم المترحلين في مفازات الزمن،تستل الموروث المقدس كخيط ضوئي من صدوع الذاكرة وتنسج به توليفة هارمونية تتناغم مع الأساطير المغيبةّ ، أساطيرنا التي طالما اقترفنا خيانتها بالتغاضي ـفغادرتنا و تخلت عنا ونحن في نشوة الوعي بذواتنا الحاضرة ثم اكتشفنا مع حيف فادح -أننا نعبر برزخ الوجود عزلاً بلا ذخيرة ولا ندم ، مقتلعين من أهوائنا وخطايانا ، مزهوين بفضائل ليست لنا ، نتساءل في وهلة الصدمة : أين نحن ؟؟ ومن نكون ؟؟ وتردد السفوح صدى حيرتنا في التيه العظيم : من نحن ؟ أين نحن ومن نكون ؟؟
في قصيدة الشاعر جريس السماوي ( رحلوا الى الماضي بدوني ) يداهمنا السؤال لدى كل انتباهة وعي :
– أين نحن ..؟؟ أي غسق أرضي يطوينا تحت عتمته الجائحة ؟؟ أية سيول من صهير البراكين تهدد خطوتنا التالية ؟؟ ما الذي نعرفه عنا ؟؟ ما الذي نحياه ؟؟ماالذي ضاع منا ؟ ولماذا فقدنا إمكانية أن نرى ما هو أبعد من أعمارنا المحدودة .؟؟ كيف نعيد الإعتبار للزمن الوجودي – الكوني في خلايانا المتهاوية ؟؟
قصيدة تنذرنا وتوقظنا من سهو الزمن وبلادة الأمكنة وتقول لنا – أفيقوا فقد سقطت خطاكم في اللامكان وليس لكم زمن يخصكم ..
يرتبط السؤال حينا بالتاريخ وحينا بالأسطورة ، ولكننا حين نحاول ترتيب أولويات سؤال القصيدة ، تكون جغرافيا الروح المستعادة هي مرمى الشاعر ورحلته العرفانية المفترضة في طيات الزمن الفاني..
يقول وليم بليك ( أوقات الحماقة تقيسها الساعة، وأوقات الحكمة لا يمكن لساعة أن تقيسها)
أوقات الحكمة هي الزمن اللامتناهي الذي يلاعبه الشاعر ، تزل بين أصابعه حكمة الجمال أو تعلو حكمة القلب صاعدة من قاع البئر أو متألقة كلؤلؤة في صدفة ، الحكمة أولا وأخيرا هي خفة الزمن غير المرئية وخفق المعنى في ضجة اللغات ، فكيف تزل الحكمة ؟ وكيف ينزلق الزمن الى هوة الأسف ..؟؟
قصيدة جريس سماوي تأتي مرتابة في شجن السؤال الأول مفتاحها ولغزها :
ماذا يعِد أبي
لضيوفنا الآتين ؟
ماذا يعد أبي لأعدائي ؟
ماذا أعد أنا ؟؟
يا لحيرة الشاعر وحيرتنا ونحن نهجس ( روح فلاح خفي يهتدي بالنجم ، تكلؤه الثريا )، نشاركه ريبة الرؤيا ونكتوي بالشك فيمن سيأتي بفداحة الفاجعة ، نصحبه في الرحلة الكاشفة الموئسة حيث (َهَـلي رحلوا الى الماضي بدوني ) في وحشة التلال وأنين الصبي الذبيح ومحرقة الفداء التي أقامها الرائي إبراهيم على مرتقى النبوءة ..
تبدأ القصيدة بهذا السؤال الترنيمة الحائرة ، كل مفردة في المقطع تعلي لبٍنة في صرح الروح، كل مفردة تقوم بذاتها وتشد أزر ذات أخرى من ذوات الكلام ، اقتصاد اللغة يغري بإيحاءات المفارقة، التضاد بين الضيف والعدو الذي قد يكون هو ذاته قناع ذواتنا المتشظية ، أو هو الفرد المأمول الذي لم نبلغ بداهته الشافية، تأخذ القصيدة بيدنا نحو البراري والحقول والكروم أو تتركنا نهبا لذئاب البوادي ،ثم تمدنا برشفة من أمان ، تزل بنا الحكمة بين رؤى النبؤات وأحكام القدر ، توقد نيران الراعي ومحرقة الأب الذي( يتلو صلاةً من أنين ) فتصيبنا رعدة من هول مايتراءى لنا ،و توقظهزة الشعر حنيننا الى معرفة نسيج حياتنا البدئي –فضول الكائن اللاهي عن حقيقة كينونته :
مم صٌنعنا ولمَ اتينا وإلام نمضي ؟
تقطرت هذه القصيدة كخلاصة رؤيوية وأشبهت رحيقا أسعف الذاكرة وأنهضها ، وهي في نقضها للراهن المصطنع تضاد الهندسة المتفكرة في شرط البناء المادي ، لأنها تمسح الأرض والتاريخ والعقائد ببصيرة الرائي وأسى المشتاق ولهف المستوحد الشجي في طريق المتاهة الوعر ..
تمضي القصيدة بين أقاليم الزمن تستكشف الفضاء الدينيو تجتازه طليقة تخفق كجناح قبرة في الأثير ، تبزع معانيها قبل الزمان وتعيش في الدموع العتيقة وتستحم كلماتها في رحيق الكروم و يسمع هديرها الحيوي من لحاء الشجر في الغابة أو تنهمر تنهداتها من جرار الطين ، تراوغنا بين الواحات والنخل وجرار النبيذ فنخالها آتية من حلم المستقبل فإذا بها تقوم من فجر الزمان ،تعيش في الماضي كاملة التكوين وتحضر بأبهة عدتها وسحرها حين يستدعيها الشاعر، تعيش الحاضر معنا وتستدرج أحلامنا باتجاه أعماقنا المنسية ، فلا تخادعنا لأنها تحيا في مستويات الزمن كلها..
2
ثور جلعاد
يفترع الأرض
يغدق ماء الحياة
يخور ُ
ويطعن ثوب الصباح الشفيف
بقرنين منتصبين
ايها القمح
انت صنيعة شهوته الفائرة
في أساطيرنا التي تنسدل ظلالها على لاوعينا او تلك يستدعيها وعينا المستفيق – يظهر الثور مثالا للخصب الجنسي المفضي الى استمرارية الولادة والتجدد ،في ملحمة كلكامش يكون رغيف الخبز الذي تهبه غانية المعبد للوحش أنكيدو هبة أولى للتحضر فالخبز تقنية وصناعة خرجت بالبشري من البريّ المتوحش الى الإنساني المتفكّر ، مادة مقدسة تمازج دم الوحش لتحيله الى بشر يعي رحابة انسانيته ،وثور (جلعاد ) هو ذاته ثور السماء المكرس لإيقاظ جذوة الأرض فتفيض عطاياها قمحا وزيتا هدايا للأنثى الباهرة بخضاب حنائها ورنين خلخالها ووشمها الشهي في الشفة الفاترة ، هذه المرأة جدتنا جميعا وحاملة بذرتنا في معابر الزمن ، السائرة في برارينا البكر مضيئة كيراعة وعاصفة كإعصار ، هي كناية عن طبيعتنا الاولية التي دمرتها الحضارة الزائفة بوشومها المصطنعة وبهرجاتها الخلب ،
قمح الشاعر هنا هو ذاته رغيف الغواية والبدايات الجامحة التي اقترحها ثور الخصوبة ، قرنا ثور جلعاد يطعنان الصباح الشفيف والمرأة الباهرة هذه المرة هي غانية المعبد التي وهبت سر الوصاللأنكيدو ، فاضالزيت الزكي إزاء خطوتها فقامت الحياة من رقدة وموات، بلاغة المشهد الإحيائي تتخلق بين رؤيا الشاعروأساطيرأهلٍ راحلين في المتاهة ،فالشاعر هنا خلاق صور مجبولة بأسى السهول وهمهمة الجبل ، ومشيّد مشاهد مغشاة برهافة الحرير ..
،وأنا أقرأ اقصيدة كنت أخالني ألاحق فيلما من أفلام بازوليني مع فارق الوضوحهنا، أو أقرأ ملحمة الحضارة المينوية الكريتية وثيرانها المقدسة ، كأني بالشاعر اختزل قيامة أرواحنا- التي اقتنصتها مدن الإسمنت والحجر – بهذا المقطع الشغوف الناضح أشذاءا وحرقة حرمان من جنائن الأهل الراحلين ..
مع الشاعرأستعيد محاريث الحقول البعيدة لأني إبنة الحقل والبراري وبساتين النخل والبرتقال وجنون الطوفان ،أشهد معه ببصيرة القصيدة ، كيف يشف التراب عن ( الغامض الغائب ) وكيف يرتبك الماء من رغبات الجرار العتيقة وشهقة الطين .وتضج الزريبة بالبهائم وتسيل خوابي العسل و (يدلف خيط الحليب ، الحليب أبونا البعيد ) ، هو ذا الفردوس الذي رسمته لنا الأساطير والوعود اليوتوبية الخلّب ،وبه يستكمل الشاعر اكتشافه واشتهاء العود الأبدي في فورة القصيدة ..
3
الوصية الأخيرة
.ليس للقصيدة أهل أوعشيرة هي بنت نفسها وأم الغواية ، انولدت من ذات الشعر وحسرة الشاعر، البيادر سرها و( الحليب أبونا البعيد ) بياض الرغوة الفاترة ، أبونا المقدس ، أب النضج والخطيئة التي لم تكن غير تجربة لمعرفة الذات حين الهبوط الى أرض الحكاية المولودة في عراء البراري والتي تحلق طليقة في العاصفة ، نحن البشر أيتام الفراديس نصبو إلى آباء مروا ( وركبانهم تهيج صمت الدروب) ،ليسوا من قبائل الجن أو من ساكني وديان الملائكة ( لكنهم بشر من تجل ٍ عنيد ) .آيتهم خصب وتعاويذهم نيران الكهوف ، حولهم ثغاء ماعزهم بين الجبال ، غادروا رحبة الوقت الى رحبة اللامكان وبلغوا يوتوبيا تحاصرها عثرات الدهر وزلات الحكماء ،صنعوا مباهجها من حليب ونبيذ وغلال وشهقات نشوة ..
(يَ بني) تعال
ابوك يوصي بالغلال
يابوي
لم تأت الغلال ولاالحليب
وأبوك يوصي يابني :
احرس سلالتي البعيدة ياحبيبي
واسلك طريق الوعر ياولدي
واحرس حنينك
دلني يا أيها المعنى عليّْ
ودل روحي يابني
على يدي
احرس سلالتي البعيدة
يانبي ّ
هي الوصية والخلاصة : دلني يا أيها المعنى علي ّ ، والمعنى البوصلة والعلامة في هذا التيه الشاسع من بقيا التاريخ ، دلّ روحي يابني على يديّ ،اليست الروح واليد توأمان ؟؟كلاهما آية وجود وآلة حراك وفعل في عراء الحياة على أديم الدرب الممتد من أول الحكاية وباب الكهف حتى منتهى المسعى وآخر النفق ؟؟،
اليد والروح توأمان تاها عن بعضهما ولا شفيع لتلاقيهما بغير الشعر والرؤيا ، وليس سواه من يحمي السلالة من نفسها ومن زلل الحكمة ، والشعر نبوْة الأرضيّ مقابل السر العرفاني الذي يتحمل عبئه الراؤون، فهل أبلغت القصيدة وصيتها النبوئية لنا؟؟
أخالني أسمع صوتها الخفي يهمهم : اللهم إني بلغت ..
* أديبة من العراق