( ثقافات ) – أبوظبي
أصدر مشروع “كلمة” للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة كتاباً جديداً بعنوان “موجز تاريخ الجنون “للمؤرخ البريطاني روي بورتر، ونقله للعربية ناصر مصطفى أبو الهيجاء.
يعرض الكتاب، بصورة كرونولوجية موجزة ووافية في آن، الكيفية التي قاربت بها الثقافة الغربية الجنون وعالجته.
وقد استطاع بورتر أن يحصر، بنجاح كبير، تاريخ الجنون في كتاب يزيد قليلاً على مئتي صفحة، منطلقاً من العصر السابق على الكتابة حين نظر إلى الجنون بوصفه تلبّساً شيطانياً.
وقد امتدت هذه الاعتقادات فوق الطبيعية، تبعاً لمؤلف الكتاب، إلى كتب الطب المصرية وطب بلاد ما بين النهرين، فضلاً عن الأسطورة والفن الإغريقيين. ويمثل بورتر على ذلك بالجماجم المثقوبة التي تعود، في الأغلب، إلى المئوية الخامسة قبل الميلاد.
فقد ثقبت هذه الجماجم كي تتيح المجال، تبعاً لعلوم واعتقادات ذلك الزمان، للشياطين كي تخرج من الجسد الذي تلبَسته.
ثم يعرض بورتر لبعض التعاليم الأسطورية التي عززت هذا المنحى حين نظرت إلى الجنون بوصفه ظاهرة “فوق طبيعية” (بما هو تلبس شيطاني)، وذلك عبر ما بشّرت به من سرود تحكي كيف أن الجنس البشري مغمور بالكائنات الروحية الأخروية، فضلاً عن أرواح الموتى والشياطين والعفاريت التي تمتلئ بها حكايات الفلاحين، وهو ما يفسر الحملات في القرون الوسطى المحمومة لتعقب الساحرات.
وينخرط بورتر بدءاً من الفصل الثالث في التأريخ للاتجاه العقلي الطبيعي الذي قطع مع الاتجاه فوق الطبيعي.
وهو يقيم، لهذه الغاية، صورة بانورامية تحشد كثرة من الآراء والمدارس التي عمدت إلى عقلنة الجنون؛ بدءاً من فلاسفة اليونان؛ الذين انطلقوا في مقاربتهم للجنون من فكرة الأخلاط الأربعة، ثم عصر التنوير الذي قارب الجنون تبعاً لرؤية عقلية طبية. ويبسط الكتاب معاني الجنون وموضوعاته الثقافية التي مثلت مادة ثرية متحت منها الفنون والآداب.
ولا يفوت المؤلف أن يؤرخ لمأسسة الجنون التي شرعت بالظهور في القرن التاسع عشر، وبلغت ذروتها أواسط القرن التاسع عشر حين احتجز – كما يروي بورتر – نصف مليون مريض عقلي في الولايات المتحدة، ونحو من المائة وخمسين ألفاً في المملكة المتحدة.
ولا يقف المؤرخ البريطاني عند هذا الحد وإنما يتناول الذوات (المرضى العقلي) بوصفها موضوع الطب العقلي متسائلاً: ما الذي فكر فيه المجانين أنفسهم وشعروا به؟ وكيف نظروا إلى العلاج الذي يتعاطونه رغماً عن إرادتهم؟
ويعقد المؤلف فصلاً أخيراً كرّسه للحديث عن الطب العقلي الذي دعي القرن العشرين باسمه، مستعرضاً العديد من التطورات التي حدثت في هذا الحقل مثل ظهور المصحة العقلية وأفولها، وسياسات الحجز الإجباري، والوضعية العلمية، وما يدعيه التحليل النفسي من مزاعم شفائية، و”خيرية” مهنة الطب العقلي، والجدوى من بعض العلاجات المريبة مثل العلاج بالتخليج الكهربائي، وذلك الدور الذي اضطلع به الطب العقلي في الضبط الاجتماعي الجنسي للأقليات الإثنية، فضلاً عن تناوله لابتكاراته الرئيسية في العلاجات الدوائية.
ويختم المؤرخ البريطاني كل ذلك بتقييم موجز لموقع الطب العقلي، علمياً وعلاجياً، مع إطلالة القرن الحادي والعشرين، متسائلاً: إن كان التاريخ المتنوع للطب العقلي يخبر عن أي قيمة لهذا المشروع؟
كما يقود المؤرخ القارئ في رحلة لمعاينة الممارسات والعلاجات التي تبنتها العصور المختلفة تجاه الجنون .
مثل ثقب الجماجم والتعاويذ وما أطلق عليه محنة الماء البارد؛ إذ كانت تجعل الساحرات في ماء بارد فإذا طفون كن مذنبات، وإذا غرقن فإنهن بريئات، ويحكي كذلك عن السترة المقيدة للحركة التي كان يوضع فيها المجنون.
وقد ضمّن المؤلف كتابه مجموعة من اللوحات التي تصور هذه الممارسات، ما أضاف عنصراً تشويقياً يجعل من قراءة الكتاب تجربة ماتعة.
وقد ألف الكتاب روي بورتر (1946-2002)، وهو مؤرخ بريطاني مرموق، عرف بإنتاجه الغزير في تاريخ الطب.
وعمل محاضراً في جامعة كامبريدج حيث درّس التاريخ الأوروبي. كما حاضر في معهد ولكم لتاريخ الطب، وأصبح أستاذ التاريخ الاجتماعي فيه، فضلاً عن تقلّده إدارة المعهد حيناً من الزمن. وقد أنتج بورتر نحواً من المئة كتاب تأليفاً وتحريراً. أهمها كتاب (تاريخ الطب) وظهر في أكثر من برنامج إذاعي وتلفزيوني.
ترجم الكتاب ناصر مصطفى أبو الهيجاء، وهو مترجم أردني له العديد من المقالات والدراسات المترجمة في الصحف والمجلات العربيَّة التي تعنى بالعلوم الإنسانيَّة، وقد ترجم كتاب “التصورات الجنسية عن الشرق الأوسط ” لمؤلفه ديريك هوبود (من منشورات كلمة)، وترجم بالاشتراك مع الدكتور أحمد خريس كتاب “إدوارد سعيد وكتابة التاريخ” لمؤلفه شيلي واليا .